مجلة الرسالة/العدد 208/جهاد شعب مصر في سبيل حقوقه في القرن الثامن
مجلة الرسالة/العدد 208/جهاد شعب مصر في سبيل حقوقه في القرن الثامن
عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ألف الأستاذ محمد كتاباً أسماه (سيرة السيد عمر مكرم) نتبع فيه تاريخ الحركة القومية في مصر منذ القرن الثامن عشر وتناول سيرة (السيد عمر مكرم) زعيم مصر إذ ذاك، وأوضح فيه سعي مصر إلى الحرية والاستقلال في فجر العصر الحديث، وبين أن الروح القومية والتطلع إلى الحرية كانا قويين منذ القرن الثامن عشر
والكتاب تحت الطبع، وسيظهر قريباً، وهذا الفصل الممتع من ذلك المؤلف القيم:
ولم يكن صوت المصريين داوياً في مجتمعات الديوان وحدها، بل كان للشعب منافذ أخرى يعبر بها عن أرادته ويردد منها شكواه ويرسم بواسطتها أمانيه ومثله العليا، فأن بعض المتكلمين من الوعاظ الذين كانوا يتعاقبون في تلك العصور كانوا بمثابة الصحفيين يعقدون مجالسهم في المساجد فيلقون فيها دروساً في معاني العدل وواجبات الحكام وحقوق المحكومين، ويدسون في خلال تلك الدروس نقدات للحكام لا يخشون منهم غضباً ولا يتوجسون منهم خوفاً، وكان بعض الحكام يضيق بنقدهم؛ ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يتركونهم آمنين أحراراً لا يقيدون ولا يعاقبون على ما يصدر عنهم من النقد. وكان نقدهم في كل الأحوال نقداً عالياً نبيلاً يقصدون به تصوير المثل الأعلى للحكم، ويدعون فيه إلى العدل وأداء الواجب. والعل أول من نبغ من هؤلاء الوعاظ هو الشيخ الحفني الذي كان يعاصر ملك مصر العظيم علي بك الكبير. وهو محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني الحسيني نسباً وكان زاهداً ورعا كريماً كثير البذل للفقراء. واتخذ سبيل الدعوة إلى الخير على طريقة صوفية اسمها الطريقة الخلوتية وكثر اتباعه واعتقد فيه الناس اعتقاداً كبيراً سواء في ذلك العامة والخاصة، حتى قال عنه الجبرتي صاحب (عجائب الآثار): (أنه كان قطب رحى الديار المصرية لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته)، وكان لا يتردد في إبداء نصحه صريحاً قوياً وإن كره أهل الحكم رأيه وصراحته وكان الشيخ الحفني فوق هذا عضواً في ديوان الحكومة يمثل الشعب المصري مع جماعته من إخوانه تمثيلاً رائعاً، حتى كان علي بك الكبير على شدته وقوة ملكه لا يستطيع مقاومت معاداته. وكان في مناقشاته في الديوان لا يتردد أحياناً أن يهدد الحكام باسم الشعب إذا هم عمدوا إلى ما يسئ إليه أو يضر بمصلحته، فقد وقف مرة يناقش في ضرورة إرسال حملة حربية لإخضاع بعض الأمراء الخارجين في الصعيد. وكان رأيه أن تلك الحملات الحربية تضر بالناس وتعطل مصلحتهم، فلم يتردد في آخر خطبته القوية أن يصيح قائلاً: (والله لن نسمح أن يسافر أحد وإن سافرت الحملة فلن يحدث خير أبداً) ولما توفى الشيخ الحفني حل محله في زعامة النقد واعظ آخر وهو ابن النقيب السيد علي بن موسى الحسيني المقدسي، وعرف بابن النقيب لأن جدوده كانوا نقباء الأشراف في بيت المقدس. وكان واسع العلم يلقى دروساً في المسجد الحسيني في التفسير والفقه والحديث. وكان فوق ذلك كتاباً وأديباً حسن الأسلوب، وزاهداً لا يضن بشيء يملكه على سائليه.
ولهذا كانت له مكانة عظيمة في قلوب الناس. وكان فوق كل هذا فارساً ماهراً في فنون الحرب واستعمال السلاح واللعب بالرماح، فكان يجمع كل صفات النساك المحاربين الذين ينهجون نهج القاضي عيسى الهكاري الذي كان معاصراً لصلاح الدين الأيوبي واشترك معه في محاربة الصليبين.
وكان أهل مصر يعرفونه بالمحدث، ومع أنه كان محبوباً عند الأمراء ورجال الدولة لم يمتنع عن نقد ما كان يراه فيهم وفي أحكامهم من العيوب، وكان نقده أحياناً يبلغ حد المرارة والعنف، ولكن صدر هؤلاء الحكام لم يضق به، ولم يحدث له من وراء نقده أي ضرر. مع أنه ذهب مرة إلى القسطنطينية حوالي عام 1763 للميلاد فلم يسمح له بالبقاء طويلاً فيها لما عرف عنه من الصراحة في النقد، واضطر إلى العودة إلى مصر. وكان الأمير محمد بك أبو الذهب يرحب به ويوسع له في مجلسه مع ما يلقي منه من النقد، وكان يقابل نقده بالإحسان فوق التسامح، ومن ذلك أنه سأله مرة عن حاله، وكيف وجد عاصمة الخلافة في استانبول عند زيارته لها، فكان جوابه على ذلك قوله: (لم يبق باستانبول خير ولا بمصر كذلك خير، فلا يكرم بهما الأشرار الخلق) فلم يغضب الأمير من رده بل أرسل إليه بعد انصرافه من مجلسه هدية قدرها مائة ألف نصف فضة ليقضي بها ديونه ولينفق منها على الفقراء كعادته.
وقد عاصر هذا الواعظ الكبير شيخ آخر جليل كان ينهج مثل نهجه مع شيء من الاعتدال، وهو الشيخ علي الصعيدي وكان معاصراً لملكي مصر العظيمين علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب. وبلغ من إكرام هذين الملكين له أنهما كانا إذا دخل عليهما أفسحا له وقبلا يده، ولم يردا له شفاعة، وكان كثير الشفاعة عندهما يتدخل لمصالح الناس. فكان من الدولة بمثابة النائب الشعبي الذي يسعى لمصالح الناس عند أهل الحكم. وكان الناس يلجأ ون إليه إذا ما مسهم ما يشكون منه، فيكتب شكواهم في ثبت ويدخل بها على الأمير فلا يخالفه في شيء مما يرجوه فيه، ولا ينقبض عنه، وكان يقول لمحمد بك أبي الذهب إذا وجد منه شيئاً من التردد: (لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية وكلنا نموت ويوم القيامة يسألني الله عن تأخرنا عن نصحك؛ وها نحن قد نصحناك وخرجنا من العهدة). فإذا امتنع الأمير عن إجابة مطلب له صرخ وقال له: (اتق النار وعذاب جهنم) ثم يمسك بيده ويقول له: (أنا خائف على هذه اليد من النار).
وسنذكر فيما يأتي أسماء بعض زعماء الشعب الذين انتهجوا فيما بعد خطة أخرى غير النقد والنصح عندما تحولت مجاري الأمور في أيام مراد وإبراهيم. وحسبنا هنا أن نقول إن أمراء مصر في أثناء القرن الثامن عشر كانوا يحاولون بكل ما استطاعوا أن يكون حكمهم مرضياً عنه عند الشعب، وأن يكونوا في سياستهم موفقين إلى العدل فيهم بحسب عقلية عصرهم وأساليبه وكانوا يعملون على تقريب أهل العلم والأعيان والأدباء، ويشجعونهم على غشيان مجالسهم، فكانت مجالس علي بك الكبير تمتاز بوقار من يؤمها من العلماء الإجلاء، والزهاد الفضلاء. وكذلك كانت مجالس أبي الذهب من بعده، في حين كانت مجالس الأمير رضوان بعد ذلك مضرب الأمثال في البهجة الفنية والسمو الأدبي، حافل بأسماء تباهي بها مصر من الأدباء المبرزين الأعلام، وكان هذا التقريب عاملاً من أقوى العوامل على أيجاد روح من الود طالما ساعد على تبادل العطف بين الحاكم والمحكوم، وهو عطف كان يؤدي بغير شك إلى إصلاح الحكم والمحافظة على حقوق الناس وعواطفهم.
ولما تولى الطاغيتان إبراهيم ومراد؛ تغير الحال واختل الأمر ورأى الشعب أن لا بد له من انتهاج خطة جديدة للمحافظة على حرياته وحقوقه؛ فخطا خطوة جديدة لم يسبق له عهد بها، فإن الطاغيتين كانت تحيط بهما هالة من أهل الطاغوت، وهي عصبة للشر ما كانت تتنبه إلى حق، ولا ترعوى عن غي، ورأى أهل مصر أنهم حيال نوع جديد من الحكم، لا تنفع فيه النصيحة ولا تستقيم معه الأمور على الشفاعة، ولم يكن للشعب بعد أن عجز عن النصح إلا ذلك الحق الطبيعي الذي للشعوب وهو أن يرغم الحكام على الإصلاح، وهكذا رأى أهل مصر إلا ملجأ لهم من طغيان إبراهيم ومراد، إلا أن يلجئوا إلى القوة والثورة.
بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين، ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان القصد منها نضالاً على مبدأ قانوني وهو: هل يجوز للأمير القوي أن يدل بقوته ويثور على القانون فيعصاه، أم لا بد له من الخضوع للقانون ولو كان خصمه ضعيفاً لا سند له من سلطان الدولة، وكانت الخصومة بين رجل من أفراد الشعب، وأمير من كبار الأمراء من عصبة الطغيان، واعتصم الرجل الضعيف بالشريعة فلجأ إلى القضاء، ولوح الأمير القوي بالقوة والبطش، وحكم الشرع للرجل الضعيف، فأبى الأمير الإذعان للحق؛ وأصبح الأمر معلقاً بين أن ينتصر القانون، وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة.
فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم - وهم ممثلو الشعب والطبقة المستنيرة منه - بالمحافظة على القانون والحق، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لنداء الواجب، وتصدر فيهم زعيم اسمه الشيخ الدردير، رحمه الله وطيب ثراه، فأرعد الأمير المدل وابرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، فوقف العلماء وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا كذلك، وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم. وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة، وأوشك الأمر أن يؤدي إلى فوضى شاملة، لولا أن جزع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فلاموه على وقفته، وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب، وكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء، وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف.
وقد أثرت أمثال هذه الصيحة في الأمراء، فصاروا يخشون الشعب خشية عظيمة، حتى إنه عندما أشيع مجيء الحملة التركية لإصلاح الحكم في مدة مراد وإبراهيم بقيادة القبودان حسن باشا، ذعر الطاغيتان خوفاً من أن ينتهز الشعب تلك الفرصة فيثور مظهراً ما في نفسه من الألم، فحاولوا التقرب إلى زعمائه، وقد وصف أحد من شهد ذلك العصر تذلل الأمراء بقوله: (فذهب إبراهيم بك إلى الشيخ البكري، ثم الشيخ العرومي والشيخ الدردير، وصار يبكي لهم وتصاغر في نفسه جداً وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف ذلك جداً)
والحق أن شعب مصر كان عند ذلك قوى الإحساس بنفسه، وبما ينبغي له من الحرية، وما يجب له من الحقوق، لا يتهاون في إظهار ذلك الإحساس بشتى الوسائل كلما لاحت له فرصة، أو كلما حدث حادث يشتم منه رائحة الاستهانة بكرامته أو الاعتداء على حرماته. ولهذا كانت ثوراته تتوالى عند كل مناسبة، فما تكاد ثورة تهدأ في القاهرة حتى تشب أخت لها في رشيد، وما تكاد تلك تخبو حتى تبدأ أخرى في بلبيس، وكان بعض هذه الثورات يبدو عنيفاً كأنما هو ينذر بثورة شاملة كثورة فرنسا. ونحن إذا بحثنا حال فرنسا قبيل ثورتها لا نستطيع أن نرى من بوادر ثوران النفوس أكثر مما بدا في أواخر القرن الثامن عشر في مصر، فان فرنسا ظلت على ما كانت عليه من سوء الحكم، ومن العبث بالحريات إلى أواخر ذلك القرن؛ لا بل إن سوء الحكم فيها قد زاد في أواخر ذلك القرن عما كان في أواسطه، فكانت أفاعيل لويس الخامس عشر وخليلته المشؤومة في أواخر ذلك القرن جديرة بكل حنق وكل غيظ، ولكن الفرنسيين لم يثوروا عند ذلك، وإنما كانت ثورتهم في أيام الملك الطيب الذي جاء عقبه، أما في مصر فقد بدت تلك الثورات كالشرر المتطاير وما كان أقمنها أن تنتهي إما بثورة تامة كثورة فرنسا، وأما بإصلاح تدريجي شامل يتناول كل نظمها.
وأغلب ظننا أن حكام مصر ما كانوا ليسمحوا للأمور أن تتفاقم إلى أن تحرج الصدور وتدفع بها إلى الثورة المدمرة، فقد كانوا دائماً ينزلون عند إرادة الشعب بعد أن يروا غضبته، ويصلحون ما يشكوا منه من فساد، ويقومون ما يشير إليه من اعوجاج؛ وتكررت الأمثلة الدالة على ذلك
فريد أبو حديد