انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 208/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 208/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 10 -

الفلسفة الهندية

البراهمية الأولى أو الأورثوذوكسية

تشبه آلهة البراهمية الأولى بوجه عام آلهة الإغريق، إذ لا يخفى على الباحث - إذا أغضى عن الموازنة الدقيقة - ما يلفت النظر من المشابهة الواضحة بين آلهة (الفيدا) وآلهة (الإلياذة) و (الأودسا) تلك المشابهة التي لا تجعل مجالا للشك في أن آلهة الكتابين من أسرة واحة يتفقون جميعاً في البساطة والطفولة وسرعة الغضب وسهولة العودة إلى الرضى وفي الخلو من الحقد وسوء النية والأنانية والوحشية المتأصلة في آلهة الآشوريون أو البابليين مثلاً، وهم يتفقون كذلك في القرب من صف الإنسانية كاستعانتهم ببني البشر مثلا في الوصول إلى غاياتهم ثم مكافأتهم إياهم بحمايتهم لهم وعطفهم عليهم.

ومما يلفت النظر في هذه المشابهة هو بساطة اختصاص آلهة (الفيدا) كآلهة (الالياذة) و (الأودسا) وخلوها من التعقيد الذي كان فيما بعد من مميزات الديانة (الأندويسمية) التي ظهرت بعد الفيدا بعدة قرون وكانت مزيجاً من الديانتين:

(الفيدية) والهندية المحلية القديمة، ف (أندرا) مثلاً هو كبير الآلهة وهو إله السماء والمناخ، و (رودرا) و (أجني) هما صاحباه وساعداه على تصريف شؤون الكون. و (جاما) إله الموت و (أوسهاس) إلهة الفجر. وهكذا كل إله له اختصاص محدد ودائرة محصورة.

بدء الخلق

تستقي (البراهمية) الأولى عقيدة بدء الخلق من أسطورتين قديمتين فأما أولهما، فهي أن الإله (براجاباتي) هو في نفس الوقت خالق ومخلوق، لأنه كان في أول الأمر واحداً فأشت إلى التكثر وتمناه، فلم يكن من بقية الآلهة إلا أن أجابوه إلى سؤله، فضحوه وقطعوه إرباً ونثروا أجزائه في جميع البقاع، لتحقيق هذا التوحد المنشود من جميع الأجزاء، وهذا الشوق هو سر التجاذب الخفي الموجود في جميع عناصر الكون، وأنجع الوسائل لتحقيق هذه الغاية هي الضحايا التي يقوم بها بنو البشر.

على أن الوصول النهائي إلى هذه الغاية لا يتحقق تماماً، لأن ما يجتمع من هذا الإله بوساطة الجاذبية الطبيعية من جهة وبالضحايا المقدمة من بني الإنسان من جهة أخرى لا يلبث أن يعود إلى التفكك بعملية خلق جديد يتولاها هذا الإله بنفسه من نفسه رغبة في إنشاء كون وتكثير وحداته. وستظل هذه الدورة مستمرة كالحلقة المفرغة التي لا يمتاز مبدؤها عن منتهاها إلى ما شاء الله أن يكون، ولكن القرابين والضحايا هي أهم أسباب هذا التجاذب الذي بقع بين العناصر المتناثرة فيجمع شتاتها، إذ هي العامل الأوحد الذي يصل بين الإله والأناسي من جهة وبين الأفراد بعضهم مع بعض من جهة أخرى، وأكثر من هذا أنها هي التي تعيد للإله قوته بعد تفككها بسبب تناثر أجزائه.

هذه هي الأسطورة الأولى في عقيدة بدء الخلق، أما الثانية فهي أن الإله (براجاباتي) أحس يوماً بشغف مادي شديد نحو ابنة (أوسهاس) إلهة الفجر الجميلة فأبدى لها هذه الرغبة فارتاعت منها ارتياعاً شديداً وفرت من وجهه مذعورة، فتعقبها وأخذ يرقب حركاتها، فكلما تشكلت بأنثى كائن من الكائنات تشكل هو بصورة ذكر هذا الكائن، وظل على هذه الحال حتى استولى عليها ونال منها بغيته، فحملت لساعتها بأول أفراد هذا العالم الموجود.

وحدة الوجود

كان من نتائج الأسطورة الأولى أن سرت في تلك البلاد فكرة وجود ساذجة لم تلبث أن تحولت إلى وحدة الوجود الفلسفية، تلك الوحدة التي أخذت تقوى مع الزمن حتى عم الاعتقاد بها بلاد الهند كافة. وها هو البيروني يحدثنا عن وحدة الوجود في الديانة الهندية بعد تاريخ (الفيدا) ببضعة وعشرين قرناً فيقول: (قال (باسديو) في كتاب (بكيتا): أما عند التحقق فجميع الأشياء إلهية لأن (بشن) جعل نفسه أرضاً ليستقر الحيوان عليها، وجعله ماء ليغذيهم، وجعله ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، وجعله قلباً لكل واحد منهم، ومنح الذكر والعلم وضديهما على ما هو مذكور في بيذ).

اختلاف الطبقات

كانت طبقات الشعب الهندي في عهد البراهمية الأولى أربعاً، أولاها البراهمية وهم الكهنة ثانيتها (كساتريا) ويسميها البيرتي (كشتر) وهي طبقة الجند، ثالثتها طبقة الفيسيا يسمها البيروني (بيسن) وهي طبقة العمال وأصحاب المهن والزراع، رابعتها سودرا ويسميها البيروني (سودر) وهي طبقة الأرقاء، ومما جاء في كتاب البيروني عن هذه الطبقات قوله: (وهذه الطبقات في أول الأمر أربع، علياها البراهمة قد ذكروا في كتابهم أن حلقتهم من رأس براها وأن الاسم كناية عن القوة المسماة طبيعية، والرأس علاوة الحيوان فالبراهمة نقاوة الجنس، ولذلك صاروا عندهم خيرة الأنس، والطبقة التي تتلوهم (كشتر) خلقوا بزعمهم من مناكب براهم ويديه، ورتبتهم عن البراهمة غير متباعدة جداً، ودونهم (ييش) ثم (شودر) خلقوا من رجلي براهم. وهاتان المرتبتان الأخيرتان متقاربتان)

كتابهم الأول المقدس - الفيدا

ليست (الفيدا) كتاباً هندياً أصلياً وإنما هي كتاب (أندروآرى) حمل الفاتحون عناصره معهم إلى وادي (البنجاب) المفتوح حيث فرضوا تعاليمه على الوطنيين فرضاً. وإذاً فهو لا يمثل العقلية الهندية ولا يصور المدنية القديمة التي كانت زاهرة في تلك البلاد قبل وجوده فيها بأكثر من خمسة عشر قرناً كما أسلفنا، بل بالعكس كثيراً ما يجد فيه القارئ صورا عقلية واجتماعية هي على طرفي نقيض مع الصور التي اكتشفها الأثريون حديثاً للهند المحلية الغابرة، وفوق ذلك هو مكتوب باللغة (السانسكريتية) التي لم تكن معروفة عند الهنود الأصليين من غير شك والتي هي لغة الآريين وحدهم.

غير أن هذا الكتاب لا يزال هو أقدم المستندات العلمية المعتمدة في تاريخ الديانة الهندية، وسيظل كذلك - رغم يقيننا بأجنبيته - حتى يكشف علماء العاديات ما يحل محله في هذه الأولوية من الكتب المقدسة القديمة.

ولا يعرف المؤرخون بالضبط متى جمعت (الفيدا) وإنما كل الذي ثبت لديهم هو أن بعض أناشيدها يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل المسيح، وأن صيرورة هذا الكتاب إلى ما هو عليه الآن قد استغرقت عدة قرون، ويرجح بعض العلماء أنه قد جمع في القرن الثاني عشر قبل المسيح، وأن تياره القوي لم يستطع أن يجرف العقيدة القديمة من نفوس جميع أبناء الشعب الهندي، وإنما قد صبغ تلك العقيدة بلونه الجديد كما أسلفنا، ولم يقو على محوها إلا من نفوس الخاصة المثقفة أما الجماهير فقد ظلت العقيدة القديمة محتفظة بمكانتها في نفوسهم احتفاظاً كان في أول الأمر صامتاً أما قوة الديانة الأجنبية المنتصرة، ولكنه أخذ بعد ذلك يقوى وينتعش شيئاً فشيئاً حتى برز منه الشيء الكثير على مسرح الوجود.

لكلمة (الفيدا) عدة معان، أدقها: (العلم عن طريق الدين بكل ما هو مجهول). وينجم عن هذا التعريف أن تكون (الفيدا) منبع جميع المعارف الهندية من: ديانات وأخلاقيات ونظريات علمية أو اجتماعية، وهي تحتوي أوراداً تعبدية وأناشيد دينية، وتعاويذ سحرية نزل بها الوحي من عند الله على قلب (براهما) فتلاها على الناس فاستظهروها وأخذوا يتعبدون بتلاوتها دون أن يكتنهوا أسرارها. وهي مؤلفة من أربع مجموعات تختلف كل واحدة منها عن الأخرى باختلاف الموضوع الذي تعالجه، فالأولى تسمى (رك بيذ) - (رك فيدا) وهي تحتوي على الأوراد، والثانية تسمى: (سام بيذ) - (سامان فيدا) وتحتوي على الأناشيد. والثالثة (جزر بيذ) - (ياجوس فيدا) وتحتوي على طقوس الضحايا والقرابين. والرابعة (أثارفين - بيذ) - (أتهارفان فيدا) وتحتوي على التعاويذ السحرية.

هذا، واليك ما كتبه أبو الريحان البيروني عن هذا الكتاب: (بيذ) تفسيره العلم بما ليس بمعلوم، وهو كلام نسبوه إلى الله تعالى من فم (براهم) ويتلوه (البراهمة) تلاوة من غير أن يفهموا تفسيره، ويتعلمونه كذلك فيما بينهم يأخذه بعضهم من بعض، ثم لا يتعلم تفسيره إلا قليل منهم. وأقل من ذلك من يتصرف في معانيه وتأويلاته على وجه النظر والجدل ويعلمونه (كشتر) فيتعلمه من غير أن يطلق له تعليمه ولو لبرهمن، ثم لا يحل لبيش ولا لشودر أن يسمعاه فضلاً عن أن يتلفظا به ويقرآه، وإن صح ذلك على إحداهما دفعته البراهمة إلى الوالي فعاقبه بقطع اللسان. ويتضمن (بيذ) الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب بالتحديد والتعيين بالثواب والعقاب، ومعظمه على التسابيح وقرابين النار بأنواعها التي لا تكاد تحصى كثرة وعسرة، ولا يجوزون كتابته، لأنه مقروء بألحان، فيتحرجون عن عجز القلم وإيقاعه زيادة ونقصاناً في المكتوب. ولهذا فاتهم مراراً ويروي لنا البيروني كذلك أن أكثر البراهمة يدعون أن (الفيدا) معجزة لا يستطيع أحد مهما أوتي من ذكاء الجنان وقوة البيان أن يأتي بمثله، أما أقلهم فيزعمون أن بلغاءهم قادرون على الإتيان بمثله ولكنهم ممنوعون عن ذلك احتراماً له)

ولعلك - إن كنت ممن لهم إلمام بالمذاهب الإسلامية - تذكر أن هذه المسألة بالذات قد أثيرت بين علماء المسلمين، وأن هذا الخلاف عينه موجود بينهم على الصورة التي وجد عليها بين البراهمة، فذهبت الأكثرية الساحقة من علماء المسلمين إلى أنه ليس في طاقة البشر الإتيان بمثل أصغر سورة من القرآن مهما أوتوا من الفصاحة والبلاغة، وذهبت أقلية من هؤلاء العلماء إلى أن الفصحاء ممنوعون قسر إرادتهم عن هذه المحاكاة بحيث أنه لو فرض وجود كتاب آخر يستوي مع القرآن في البلاغة ويصعد إلى طبقته في الفصاحة والإتقان لأمكن للفصحاء تقليده. وإذاً فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن في رأي هذا الفريق ليس أصلياً في عقول الفصحاء، وإنما هو عارض دعا إليه إجلال القرآن. ونحن نرجح أن عناصر الخلاف في هذه المسألة بين علماء المسلمين إنما هي دخيلة جاءتهم من الديانة الهندية، ونرجح كذلك أنهم لو لم يتأثروا بهذا الخلاف الهندي لضلوا جميعاً على رأي واحد في هذه المسألة ولأجمعوا على أن القرآن لا يقصد به بقوله: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) إلا إعلان العجز الطبيعي الأصيل، وإلا لما صح التحدي، لأنه لا معنى لأن تتحدى شخصاً ثم تدعه على حريته، بل تحاول صرفه عما تحديته فيه وإذا، فلو دقق هذا الفريق النظر في الآية الكريمة لما ذهب إلى ما ذهب إليه.

هذا، ولا يفوتنا قبل مغادرة هذه النقطة أن نعلن أن هذه المغالاة من جانب البراهمة في تقديس كتاب الفيدا هي التي حالت بينه وبين التبديل والعبث اللذين وقعا في كتاب البوذية كما سنشير إلى ذلك في حينه.

(يتبع)

غلاب