انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 206/رسالة الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 206/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1937



هياكل بعلبك

للأستاذ أمجد الطرابلسي

وأجل من حللِ الغبيّ ووشيه ... خِرَق على الأبطالِ أو أسمال

أطلالُ! ما البنيانُ يا أطلالُ؟ ... فَنِيَتْ على ضُحاتِكِ الأجيالُ!

هَزِئَتْ رمامُكِ بالزمانِ وصرفهِ ... ما تفعلُ النكباتُ والأهوالُ؟

يفنى الزمان جديدُهُ وجميلهُ ... وعلى حطامِكِ بسمةٌ وجمالُ

إن الخلود يَفرُّ من سطواتهِ ... عادي الردى وتباعَدُ الآجالُ

لا يَقحمُ النّكسُ المُروِّعُ غابةً ... تختال في جنباتها الأشبالُ

يا غادة الماضي البعيد تَبَختَري! ... إن العصورَ هوادِجٌ وحِجال

تيهي على الدنيا فإنكِ أختها ... والسّحْرُ بينكما الزمانَ سِجال

وتخايلي مِلَء العيون، مليكهً ... تعنو لها الأملاكُ والأقيال

فَلَصَولجانُكِ يا مليكةُ صفعةٌ ... يخزي بها المتكبر المختال

هاتي حديثَكِ بَعلَبَكُّ أو اصمتي! ... إن الزمان محدِّثٌ قوّال

تتكلم الآبادُ فيكِ مبينةً ... وتخيرُ الأعصارُ والأجيالُ

هذي الرسمُ وهي الزمان وما وهت ... وقضى البُناةُ الظالمون ودالوا

مازال يدهمها الزلزال بعدهم ... حتى ارتضى بالخَيبَةِ الزلزال

ماذا يضيركِ أَن وَهَت وتمايلت ... عَمَدٌ ودالت دولةٌ ورجال

إن الخلود على جبينكِ مشرقُ ... ونصيبُكِ التقديسُ والإجلالُ

وأجلُّ من حُللِ الغبيِّ ووَشيهِ ... خِرَقٌ على الأبطال أو أسمال!

يا بعلبكُّ! وقفتُ فيكِ كأنني ... وصحابتي بين الطلولِ رمالُ

نرنو إلى الرِّئبالِ وهو من الصفا ... فيكادُ يُفزِعنا بكِ الرئبالُ

ونحدّثُ الأطلالَ وهي طريحةُ ... فتكادُ تنطقُ مثلَنا الأطلالُ

نتسلَّقُ العمَدَ المنيفةَ مثلما ... تتسلّق الصَّخَر الأشمَّ نِمالُ

فنُطلُّ منها فوق سفرٍ زاخرٍ ... أسطارُه الأعصارُ لا الأقو نتلو صحائفَهُ وملء برودنا ... عُجبُ العجيبِ، وفيمَ لا نختال؟

أقدامنا فوق الزمان قَريرةٌ ... ولنا الهيكِلُ والبُعولُ نِعالُ

نختالُ في ذُرُواتِها فتسُبنا ... عُصُرٌ تكنّفها الظلامُ طوالُ

يا أيُّها العاتون! بعض عُتوِّكم ... إن الزمانَ مخادعٌ ختّال!

أرأيتمُ لَعِبَ الصّروفِ وهدمَها ... ما يرفعُ الإرهاقُ والإذلال؟

هذي النِّعالُ تدوسُ وهي فخورةٌ ... ما شادتِ الأصفادُ والأغلال!

تلكَ الأوابدُ كم أهِلَّ لها دمٌ ... وسقى ثراها مَدمَعٌ هَطَّالُ

كم ذلّتِ الأملاكُ في أعتابها ... وجَثَت على أقدامِها الأبطالُ

واليومَ نَمرَحُ نحنُ في هاماتِها ... يا للمَشيب تُهينُهُ الأطفالُ!

يا للفنونِ الخالداتِ تَدوسُها ... وتُذِلها المجَّانُ والجُهَّالُ!

عفواً هيكِلَ بعلبكّ! فإنما ... هذا الزمانُ وصَرْفُهُ أحوالُ

صبْراً على عبَثِ الزمان! فربما ... رقصت على جُثث الأسود سخال

كنّا نجوسُك ساخرين وربما ... أقعى لكِ الجبّارُ والصَّوَّالُ

كم ذلَّتِ الأدغالُ بعدَ لُيوثِها ... ولقد تُهابُ لأسدِها الأدغال

جوبتيرُ! أين جبارٌ لك شيدوا ... ما لا يزول على الزمان وزالوا؟

بذلت لهيكلك الرفيع نفوسهم ... ودمائهم، وأُهينتِ الأموال

أَرضيتَ أن تُبنى القُصورُ من الأذى ... لك أو يخضَّبَ بالدم التِّمثَالُ

عبدوكَ فاستعْبدتهم، وتمزَّقت ... في ظلِّكَ العُبدانُ والعُمّالُ

تلك العُبوديَّاتُ من آثارها ... هذي الصُّروحُ كأنها الأجْبالُ

نحتتْ بأصفادِ العبيد صخورُها ... وعلى العُناةِ أقيمتِ الأثقال

لا كنتِ يا آثارُ! إنكِ طعنةٌ ... في كلِّ قلبٍ شاعرٍ ونصلُ

عبدوا بكِ الشمسَ المنيرةَ في الضحى ... والشمسُ خيرٌ كلَّها وجَمال

خَشَعتْ لها منذُ القديم مَعاشرٌ ... شغَفتهُمُ الأنوارُ والأظلالُ

فَلئن يَعبدكِ الناسُ أو يستهزِئوا ... فاليومَ معبودُ الأنامِ المالُ

كم تُحْرقُ الأبناءُ قُرْباناً لهُ ... وتُذبَّحُ الأعمامُ والأخوالُ أغلى من الخُلُق المُكَرَّم دِرْهَمُ ... وأجلُّ من أعلى العُلى مِثقالُ

(باخوسُ) يا رَبَّ الكؤوسِ! وكم عَنا ... لمُجونكَ المُتزمِّتُ المفضالُ

هذي الكروم تكادُ وهْي نحيتةٌ ... يُصْبي العُقولَ رَحيقُها السَّلسَالُ

يا ليتَ شِعريَ ألهّوك فهلْ رأوا ... كيفَ استبدَّتْ خمرُك الجِريالُ

شادوا لكَ الصَّرْحَ الأشمَّ تَجِلّةً ... وجَثا لكَ النُّسَّاكُ والضُّلاّلُ

وبنوا لِفينوس جِوارك معْبداً ... يختالُ فيهِ الحُسْنُ والإدلالُ

صُوَرُ الهوى المعسولِ ملءُ رحابهِ ... والجوُّ حُبٌّ كلُّه ووِصال

يا أمَّةَ الرُّومانِ! مازالَ الوَرى ... يَسبيه كُوبٌ مُترَعٌ ودلال

في كلِّ قلبٍ للمحاسِن مَعْبدٌ ... تأوى الجراحُ إليهِ ةالآمالُ

لكنّما ذهَبتْ مُلوكُكِ في الهوى ... سِيَراً تدارُ كُؤوسُها وتُجَالُ

(أنطونيو) ملءُ الخمائِلِ حبُّهُ ... و (سِزَار) كم ضُربَتْ به الأمثال

مَلِكان صاغَهما الغرامُ قصائداً ... تَشدو بها الأسحارُ والآصال

بِنتَ الخلود! أما سَئِمْتِ جراحَهُ؟ ... إن الخلودَ سآمةٌ ومَلال!

إني لأسمعُ من صَفاكِ صُراخَهُ ... وكأنهُ التَّنْعابُ والإعوالُ

ماذا عرَفْتِ من الحياةِ، وإنما ... سرُّ الحياةِ تعاقُبٌ وزَوالُ؟!

ويل لمفجوعٍ يرى أحبابَهُ ... يترَحَّلون ومالَه تَرحال!!

تنتابُهُ من بعدهمْ أطيافُهمْ ... والذكرياتُ عواصفُ ونبال

أوَ تذْكرينَ (أبا عبيدة) غازياً ... من حولِهِ الفرسانُ والنُّبَّالُ؟

تتبخترُ الجُرْدُ الضّوامرُ تحتهُمْ ... نَشْوى يُصَعِّرُ جيدَها الإدلال

تزْهو على الأرض الفخور بحمْلها ... عَزَّت وعَزَّت فوقها الأحمال!

رَكْبٌ تحفُّ به الملائكُ هُتَّفاً ... وتحوطُهُ بقلوبها الأجْيالُ

أرَأيتِ أشرَفَ فاتحاً، سارَ الهدى ... في ركْبهِ واليمنُ والإقبالُ؟

أعلمت. . .؟ مالى والسؤال فربما ... نكأ الجراحَ الداملاتِ شؤال!!

أمجد الطرابلسي