مجلة الرسالة/العدد 205/الإسلام والديمقراطية
مجلة الرسالة/العدد 205/الإسلام والديمقراطية
للأستاذ عبد المجيد نافع
أحببت أن أتكلم عن الإسلام والديمقراطية لأني رأيت بعض الصحف الأجنبية كلما تعرضت للنظم في مصر قالت: ليست الديمقراطية مادة للتصدير! وهي تقصد أنها لا تصلح لنا ولا نصلح لها. وما علمت أن قوما يدينون بالإسلام حرام أن تضيع الديمقراطية بينهم
وإذا ناديت أن الإسلام دين الديمقراطية فإني استوحي التنزيل الحكيم، وأستلهم الحديث الشريف، وأستهدي المأثور من أقوال أعلام الإسلام، واحكم في ضوء الأعمال الخالدة في تاريخ الإنسانية، ليتم لي القول أن دين محمد قد كتب للحرية أجل الصفحات وأروعها، وقرر من مبادئ الأخاء أسماها، ومن قواعد المساواة أعلاها. فكان دين الديمقراطية من الوجهتين النظرية والعملية، وكانت خير ديمقراطية أخرجت للناس
إذا اعتبرنا ميلاد الديمقراطية الغربية إعلان حقوق الإنسان في الانقلاب الفرنسي الكبير عام 1789 فان الإسلام قد سجل مبادئها قبل مولدها في أوربا بأكثر من ألف ومائتي عام. وإذ كان الفضل للمتقدم، فالفضل للإسلام في تحرير الإنسانية من ربقة الاستبعاد، وخلاصها من أغلال الأوهام
جاء الإسلام فوضع قواعد الديمقراطية في غير جلبة ولا ضوضاء، ودون أن يحدث هزة عنيفة في كيان الأمة العربية، بل دون أن يريق قطرة واحدة من الدماء. على حين أن الروح الديمقراطي لم يستطع أن يتنفس في جو أوربا، وبذور المساواة لم تنبت في البيئة الغربية، إلا بعد قرون ثلاثة حافلة بالثورات، وصراع دموي بين طبقة الأشراف وطبقات الشعب، صبغ ارض أوربا بالدماء
وسترون إن الإسلام جاء بالأخاء الصحيح، والمساواة الحق في حين أن الديمقراطية العصرية، باعتراف أنصارها وخصومها على السواء، لم تبرأ من شوائب النظم البالية العتيقة
الديمقراطية، في اصطلاح العلوم السياسية، هي النظام الذي يحكم الشعب فيه نفسه بنفسه، أما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارهم عنه على إني أسارع إلى القول بان مدلول عبارة الديمقراطية قد اتسع اليوم نطاقه بحيث اصبح يشمل النظم الاجتماعية والاقتصادية فوق اشتماله على النظم السياسي. ولو شئنا أن نستغني بالأجمال عن التفصيل، لقلنا في كلمة: إن الديمقراطية هي النظام أو مجموعة النظم التي تحقق مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بقدر ما يمكن أن يكون الإنسان حراً، وبالقسط من المساواة الذي لا يصطدم مع النواميس الطبيعية
ورأيت الناس مشغوفين كلفين بالديمقراطية حتى لأجدهم يسرفون في استعمالها فيقولون الأدب الديمقراطي، والفن الديمقراطي؛ بل أراهم لا يقتصون في التبرع بها حتى يخرجوا بها عن معناها الأصلي، فالرجل المتواضع في عرفهم رجل ديمقراطي، وان كان للديمقراطية من ألد الخصام
عرف أرسطو الديمقراطية بأنها نظام الحكم الذي تنتقل السلطة فيه إلى أيدي طائفة من المواطنين الأحرار المتساوين عند طبقة الأرستقراطية
يخلص لنا من هذا التعريف إن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.
إن من ينعم النظر في أقوال أرسطو يجد إن حكيم اليونان كان متبرماً بالنظام الديمقراطي في عصره، لا لأنه كان يتنكر لمبادئ الحرية، أو يخاصم تعاليم المساواة، أو يضيق صدراً بتوسيع دائرة اشتراك الشعب في إدارة شؤون الدولة، بل لان النظام الديمقراطي في عهده قد ساء حتى تردت اليونان في هاوية الفساد والفوضى
كلما اتسع أفق المعارف الإنسانية، شعر الناس بالكرامة وأحس العقل البشري بالعزة، فتطلعوا إلى تحقيق المثل العليا، وطمحوا إلى توسيع قاعدة اشتراكهم في إدارة دفة الشؤون العامة، والهيمنة والإشراف على أمور الدولة، لذلك كان النضال حاداً عنيفاً بين الشعوب الطامحة إلى الحرية، والطغاة المستبدين الذين يصدونهم عن سبيلها، والتطاحن شديداً بين طبقة الأشراف التي تنعم بالامتيازات، وطبقات الشعب التي تتطلع إلى تحقيق مبادئ المساواة. وإذن فمن الحق أن يقال: إن تاريخ الديمقراطية هو تاريخ الحضارة الإنسانية
وما انصف كارل ماركس الحقيقة والتاريخ حين صاح بان البطون هي مصدر الانقلابات في كل أدوار التاريخ، وان الناس حين هبوا يسفكون دماءهم، ويزهقون أرواحهم، فإنما كانت هبتهم للخبز لا للحرية، وفورتهم في سبيل أغراض مادية لا لتحقيق المثل العليا والسعي وراء الكمال الإنساني
وما انصف من قبله بعض قادة الفكر في روما حين قالوا بان الشعب الروماني يجتزئ بالخبز والملاهي عن الحرية السياسية والاشتراك في تسيير أداة الحكم
وإذا كان قد أتيح لفريق من الرومان أن يقولوا ساخرين متهكمين: لدى الشعب أصوات انتخابية وليس لديه خبز؛ فقد كان ذلك من جراء فساد النظم، وانحطاط أداة الحكم، لا من جراء مسخ الطبيعة البشرية
تميز تاريخ روما القديمة بسلسلة من المناضلات متصلة الحلقات بين جماعة الأشراف وطبقات الشعب لتحقيق مبادئ المساواة
على أن تربة روما لم تكن صالحة لنمو بذور الديمقراطية، وكلما اتسع ملك الرومانيين وبسطوا سلطانهم في الأرض طلقوا مبادئ الديمقراطية واعتنقوا روح الاستعمار، وأقاموا بناء إمبراطوريتهم على الغلبة والقهر، وأصبحت الأمم المغلوبة على أمرها أسلاباً تقتني وضياعاً تستغل
كان المسلمون إذا فتحوا أمة تركوا لأهلها حرية العقيدة وحرية العبادة وخلوا بينهم وبين أملاكهم، وضمنوا لهم أمنهم وأرواحهم وسووا بينهم في المعاملة وهتفوا فيهم بذلك المبدأ القويم: لهم مالنا وعليهم ما علينا
وكذلك كان الإسلام كلما دخل أمة حمل معه بذور الإخاء والمساواة.
أود أن أضع تحت الأنظار صورتين متباينتين لامة اليونان القديمة، وأمة العرب قبل بزوغ فجر الإسلام، لتروا بأعينكم وتلمسوا بأيديكم، إلى أي حد وفق دين الهدى والحق إلى صبغ جزيرة العرب بالصبغة الديمقراطية وطبع أهلها بطابع المساواة
كانت اليونان القديمة بطبيعة تكوينها ومزاج أهلها مهداً صالحاً للديمقراطية، فقد كانوا يقيمون بالمدن ولا مشاحة في أن المدن هي مواطن الديمقراطية. وكانت ميول اليونانيين متجانسة، ومشاعرهم منسجمة، ومصالحهم متحدة، غير متنافرة تجمعهم ذكريات تاريخية مشتركة، وتؤلف بين قلوبهم مثل عليا واحدة
على النقيض من ذلك تماماً تجد سكان الجزيرة: فقد كان العرب يسكنون مضارب الخيام، وانقسموا إلى شيع وقبائل. وكانت أهواؤهم متفرقة، ومصالحهم متنافرة. بل كانت المنازعات بينهم سلاسل متصلة الحلقات، والحروب متواصلة الضروب
ومن ينكر اعتزاز العرب بالعصبية؟!
ومن ينسى تطاولهم بالأحساب والأنساب؟!
ومن ذا الذي لم يملأ سمعيه بأخبار مفاخرتهم ومكاثرتهم ومنافرتهم؟!
فأنت ترى من هذه الصورة أن جزيرة العرب لم تكن المهاد الصالح لنموا شجرة الديمقراطية، والعرب لم يكونوا القوم المستعدين لإساغة تعاليم الديمقراطية وهضمها
وجاء الإسلام فنشر راية الديمقراطية، وبث مبادئ الأخاء والمساواة، لا لأن الجو كان مهيئاً لها، ولا لأن العقول كانت مستعدة لهضمها، ولا لأن الإسلام شاء ان يتمشى مع العرب في رغباتهم، ومنازع نفوسهم ليصم الأولياء، ويكسب الأنصار، ولكن الإسلام جاء فألقى بذور الديمقراطية، لأنه دين الفطرة، لأنه دين الإنسانية الطامحة إلى الكمال، لأنه الدين الذي اخذ نفسه ببث احكم المبادئ، وغرس أقوم الأحكام.
اجل، لقد حمل الإسلام راية الأخاء وأهاب باتباعه: إنما المؤمنون اخوة. والمؤمنون بعضهم أولياء بعض: وعبيدكم الذين هم ملك يمينكم إخوانكم في الدين.
نعم، لقد رفع الإسلام لواء المساواة، وأذن في أنصاره: لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط.
ولم يقف الإسلام عند حد تلقين اتباعه مبادئ الإخاء والمساواة نظرياً، بل راضهم عليها عملياً، فشرع لهم الأحكام القائمة على الإخاء والمساواة، واراهم القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، فطبعت قلوبهم على الإخاء، وأشربت نفوسهم حب المساواة، حتى صاح أعرابي في وجه عمر صيحته التاريخية الخالدة، ولم يتعثر، ولم يتلجلج: لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا.
انطفأت شعلة الديمقراطية في عصور الظلمات في أوربا، وخبا نور الحرية، واندثرت معالم المساواة، وانشطر المجتمع الأوربي إلى ثلاث طبقات: فريق الأشراف، وجماعة الاكليروس، وطبقة الشعب. وكان التاريخ الغربي صفحة دامية من النضال بين الشعوب المهضومة الحقوق والطغاة المستبدين الذين يتنكرون لتلك الحقوق فينكرونها. واتصل التطاحن بين الطبقات؛ فأما الأشراف فكانوا يحرضون على امتيازاتهم، وأما رجال الدين فكانوا يضنون بأنفسهم أن يهبطوا إلى مستوى الشعب، وأما الشعب الطامح الطامع في رد اعتبار الكرامة البشرية، ووضع حد لامتهان العقل الإنساني؛ فلم يضن بأية تضحية يبذلها في سبيل الحرية والمسواة، فبذل دماء المجاهدين بسخاء
كانت الحرية السياسية منعدمة، والحرية الشخصية كلمة جوفاء، والحرية الدينية خيالاً متلاشياً، والمساواة عبارة ذاهبة في الهواء. وكان الملوك المستبدون يستمدون عناصر طغيانهم مما أسموه (الحق الإلهي). وكان الأشراف يلتمسون أسباب تميزهم من اختلاف المولد، ورجال الدين يتوسلون إلى التمتع بالامتيازات بما تأولوه من نصوص الدين، وصبرت الشعوب وصابرت حتى عقد النصر بلوائها على تلك القوى مجتمعة.
وشاورهم في الأمر: وأمرهم شورى بينهم: وكذلك وضع الإسلام قاعدة الحكم النيابي.
وما كان على الإسلام ان يضع غير الأصول والكليات والقواعد العامة؛ فأما الصور والأشكال التي يتحقق بها معنى الحكم النيابي فمن الطبيعي أن يترك اختيارها للقائمين بالتنفيذ.
ولا تحسبوا أن الحكم النيابي لا يوجد إلى حيث يوجد مجلس نواب ومجلس شيوخ. ففي مدن اليونان القديمة كان الشعب يحكم نفسه بنفسه مباشرة بغير واسطة نواب أو ممثلين. وكذلك الشان اليوم في بعض المقاطعات السويسرية حيث يحصل استفتاء الشعب في جميع الشؤون التي تمس حياته العامة. ولقد يوجد التمثيل النيابي وعلى الرغم من وجوده تنعدم سلطة الأمة وتصبح خيالاً متلاشياً. ثم ألا ترى أنصار الحكم النيابي وخصومه على السواء في أوربا يشكون من اضطهاد الأغلبيات للأقليات وتراهم يحاولون أن يطبوا لهذا الداء بواسطة التمثيل النسي؟
الشورى إذن هي قوام الحكم النيابي وهي دعامته وروحه دون اعتبار بالصور والأشكال.
في الصدر الأول من الإسلام كان يطبق مبدأ الشورى تطبيقا دقيقاً.
أيقن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم تعد للمسلمين مندوحة عن حرب الفرس، وانه إذا دانت لهم تلك البلاد خفقت راية الإسلام في ربوع الشعوب.
لم يشأ ابن الخطاب أن يستبد بالأمر أو يستأثر بالرأي وهو من تعلم بعد نظر وصواب فكر وقوة حزم وعزم، بل أراد أن ينزل على رأي المسلمين فيمن يصلح لتولي القيادة؛ وأراد أن لا يضيق دائرة الاستشارة أو يقصرها على فريق دون فريق، فاستشار العامة والخاصة معاً، فأما العامة فأشاروا عليه أن يكون بنفسه على رأس الجيش إذ كان الناس اشد تعلقاً به، واكثر طاعة له. وأما الخاصة فأشاروا عليه بان يسلم القيادة لغيره وان يبقى هو بالمدينة ضناً بحياته وحرصاً على بقائه يدير دفة الشئون. ثم ارتأوا أن يكون سعد بن أبي وقاص على رأس الجيش، فنزل عمر على إرادتهم وولاه القيادة.
وضع الإسلام دعائم الحكم النيابي وطبق أبو بكر وعمر مبدأ الشورى تطبيقاً دقيقاً.
لكن وا أسفاه ما لبثت دولة بني مروان أن احتك خلفاؤها بالفرس والروم فرأوا مبلغ تسلط الحكومة على الرعية، وإذعان المحكومين لسلطان الحاكمين، فجنحوا للاستبداد، وضربوا بمبدأ الشورى عرض الأفق، ذلك بان النفس البشرية نزاعة إلى الاستبداد بفطرتها، وللبيئة في طبع النفوس بطابعها اثر أي اثر.
ولو أن بني مروان لم ينزعوا إلى الاستبداد لما وجدت دعاية بني العباس ضدهم سميعاً ولا مجيباً
كان النبي ﷺ في سفر فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال ثالث: عليّ طبخها. فقال ﷺ: وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال قد علمت ولكني اكره أن أتميز عليكم، فان الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه؛ وقام فجمع الحطب
ولا أريد أن اشوه جلال هذا المثل الرائع بمحاولة التعليق عليه ولما استقرت الخلافة إلى أبي بكر، وذلك سنة إحدى عشرة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني
ومما يروى عن زهده ورضاه بالكفاف من العيش إن زوجته اشتهت حلواً. فقال: ليس لنا ما نشتري به. فقالت: أنا استفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به. قال: افعلي، ففعلت ذلك، فاجتمع لها في أيام كثيرة شئ قليل، فلما عرفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فرده إلى بيت المال. قال: هذا يفضل عن قوتنا، واسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له ولما ولى الخلافة رأى أن يستمر على استغلال ملكه والارتزاق من وراء عمل يده ولا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئاً واصبح يوماً وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق فلقيه عمر فقال: أين تريد؟ قال: إلى السوق. قال: أتصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقاً إلى أبو عبيدة فقال: افرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم كسوة الشتاء والصيف، إذا أخلفت شيئاً رددته وأخذت غيره، ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه في الرأس والبطن
واخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فان لي عيالاً وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة
وخطب عمر بن الخطاب يوماً فقال: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه. فقام رجل فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا. فقال عمر: الحمد لله الذي أوجد في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه
أراد أحد ملوك الروم أن يتعرف شخصية عمر العظيمة ويتبين العوامل التي جعلت حفنة من العرب تدوخ الممالك وتبسط سلطانها على الإمبراطوريات الضخمة العظيمة، فبعث برسول فتلمس الرسول طريقه إلى عمر، وإذ سأل الناس عنه أشاروا إلى رجل نائم إلى جانب جدار وهو يتوسد عصاه. فقال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
ولما سير العرب جيوشهم على مصر وعلى رأسها عمرو بن العاص أرسل ملك مصر من يستطلع طلع تلك الحملة. فما راعه إلا أن يرى عمراً القائد للجيش يتبسط في تناول الطعام مع جنوده على الأرض. فلما ارتد الرسول فأعطى الملك تلك الصورة الرائعة قال: إن قوماً ذلك شأنهم، وتلك حال كبارهم مع صغارهم، محال أن تجد الهزيمة إلى صفوفهم سبيلاً.
يجترئ خصوم الإسلام على الدعوى بان مجد الإسلام قام على السيف. وتلك دعوى باطلة تضافر العدل والحق على هدمها من أساسها.
وكيف يجوز في عقل عاقل أن حفنة من الرجال تقوى على هدم إمبراطوريتي الرومان والفرس إذا لم تكن عدتها إلا السيف؟
أين قوة العرب المادية من قوة الفرس والرومان؟ وأين مواردهم من مواردهم؟ وكيف استطاع المسلمون أن يفتحوا في ثمانين سنة ما فتحه الرومان في ثمانمائة؟ فامتد رواق الملك العربي من الأندلس إلى حدود الهند، وخفقت راية الإسلام فوق تلك الربوع جميعاً؟
عندي أن المبادئ الحقة العادلة هي التي مهدت للمسلمين السبيل إلى بسط ملكهم في الأرض.
ثلاثة قرون كاملة حفلت بالثورات الدموية في سبيل تقرير قواعد الديموقراطية العصرية في أوربا. شهدت إنجلترا انقلابين في سنة 1642 و1688. وفي عام 1766 وقعت حرب استقلال أميركا لخلع نير الاستعباد البريطاني. واضطرمت نيران الثورة في فرنسا عام 1789. وكأن شجرة الحرية كانت لا تزال في حاجة لدماء لترويها، والديموقراطية لضحايا وشهداء لتغذيها، فتأججت نيران الثورة في 1830 و1848. وتواصلت الثورات في أوربا بين 1906 و1920
فأنتم ترون أن النصر لم يعقد بلواء الديمقراطية إلا في القرن التاسع عشر
وفي أواسط القرن الثامن عشر في فرنسا لم تكن حرية سياسية ولا مساواة اجتماعية. حتى هب فولتير وروسو يبشران بمبادئ الحرية والمساواة. وتشبع لافايت بتعاليم الديمقراطية، فلما عاد ورفاقه إلى فرنسا حملوا إليها بذورها الصالحة
وجعل روسو براعة الاستهلال في كتابه (العقد الاجتماعي) ولد الإنسان حراً على أنا نراه في كل مكان يرسف في القيود
وأعلنت الثورة الفرنسية حقوق الإنسان في عام 1789 وجرت المادة الأولى من إعلان الحقوق: يولد الناس أحراراً ويبقون أحراراً ومتساوين
رأيتم أن الحرية والمساواة هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما صرح الديمقراطية.
ولقد جاء الإسلام فأعلن حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية بأكثر من 1200 سنة
أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذاً: قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه ويقدم بابنه عليه فقدم: فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر اضرب ابن الأكرمين. ثم قال للمصري: ضعه على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. يعني المصري.
(يتبع)
عبد المجيد نافع المحامي