مجلة الرسالة/العدد 204/من أيامنا المشهودة
مجلة الرسالة/العدد 204/من أيامنا المشهودة
مصر في جمعية الأمم
دخلت مصر يوم الأربعاء الماضي عضواً في جماعة الأمم فكانت تحية دخولها نشيداً من أناشيد النصر هتفت به خمسون دولة من دول التمدن، تمجيداً لأول أرض رأت الحضارة، وأقدم أمة عرفت المدنية، وأعرق دولة قدست المعرفة؛ وكان يوم دخولها عيداً من أعياد الحرية خفقت له القلوب الرزينة ابتهاجاً بظفر الحق بالعدالة، وضمان الاستقلال بالقانون، وتوكيد السيادة بتحقيق المساواة؛ وكان حادث دخولها الفصل الختامي من ملحمة الجهاد المقدس في سبيل الحرية المقدسة، فصفقت له أكف الساسة في العالم، وارتفعت له ألوية السلام في جنيف، وخطب ثمانية وعشرون خطيباً في مجلس العصبة فقالوا في مصر بعض ما قال التاريخ المتحجر الماثل على جبهة الدهر، فما احتك في الصدور شبهة من صرف الحديث ولا زور المجاملة. قال السنيور كيفيدو الأمريكي: (إن الدولة التي تطرق بابنا اليوم تمثل العالم بقدمه وجدته. ولكن هذه المظاهر على تنافرها تتسق فيها فتؤلف شيئاً واحداً كاملاً له قيمة تكاد تكون رمزية بالنسبة إلينا جميعاً. فمصر تدخل بيننا مكللة الجبين بمجد لا نظير له، لأنها البلاد التي نبت فيها كثير من المدنيات، وحفظت على أرضها كثيراً من الشواهد الرائعة على عبقرية بلغ من اتساع مداها أن رفدت كل فن وأمدت كل حضارة. إن مصر صاحبة هذا الميراث العريق في القدم الحافل بالروائع، تتقدم إلينا اليوم في مظهر دولة في ريق الشباب ونضرة العمر وطدت مكانتها على التدريج في المجتمع الدولي، وحصلت على استقلالها بفضل جدارتها الخاصة ونضجها الكامل، ثم قال السيد رشدي آراس وزير خارجية تركيا: (إن هذه البلاد ذات الخطر العظيم بين أمم البحر الأبيض المتوسط. . . قد استطاعت في زمن يسير أن تقطع المراحل المتتابعة في تطورها السلمي المجيد. وإني لأذكر حادثاً تاريخياً يتعلق بروابط مصر القديمة بأحد شعوب آسيا الصغرى، فقد ثبت من الأدلة الأركيولوجية أن أقدم صك دولي، أو أقدم معاهدة سياسية، هي التي عقدت بين المصريين والحيثيين) وقال المستر إيدن وزير إنجلترا: (إننا هنا خمسون دولة ليس بينها من لم يكن مديناً إلى حد ما لحضارة مصر السامية. فقد أن تخرج بعض الأمم التي نمثلها من مجاهلها الأولى بزمن طويل، كانت مصر قد منحت الجنس البشري هبات من العلوم والآداب فوق كنوز الفنون التي لا تبارى ولا تزال إلى اليوم مصدراً للإعجاب والعجب؟) وقال المسيو بوليتيس وزير اليونان: (إذا كانت أثينا أم المدنية الحديثة في أوربا، فإن مصر جدتها على التحقيق، فقد أثبتت الكشوف الأثرية أن مصر أفاضت على العالم من علمها وفنونها وآدابها وفلسفتها، وأنها كانت مدرسة للإغريق أنفسهم، حتى أن الأدب الإغريقي الخالد قد اقتبس من الأدب المصري كما دلت على ذلك المقارنة).
وكلام البقية من الخطباء الوزراء مضروب على هذا الإيقاع، مطرود على هذا النسق فلم تشهد القاعة الدولية حفلاً كهذا الحفل، ولا قولاً كهذا القول.
كان مجد مصر ونبل مصر وعبقرية مصر أمثالاً مضروبة على لسان التاريخ، وتماثيل منصوبة على وجه الأرض، تُعقد عليها الكتب، وتطوى إليها المراحل، ولكنها في أيام جهادنا الدامي العنيف كانت شهادة لا تدل وأثراً لا يذكر، فكنا نحن المتمردين على ضراعة الذل واستكانة الرق نُدعى: (آراب) و (أنديجين) ثم لا يرفعنا نسب عمرو، ولا تغنينا قرابة (مينا). فلما انتهى أمر الدولة المحتلة بالمعاهدة، وأمر الدولة الممتازة بالاتفاق، لم تبق إلا كلمة الحق؛ ولا يضر كلمة الحق أن تقال في الآخر، فإن من الحق أيضاً أن عظمة الأجداد وآثار الأمجاد تظل سطوراً في الصحف، أو صخوراً على الثرى، حتى تتاح لها من الأبناء ألسنة فتذكرها وأيد فتنشرها وأعمال فتحييها
لا ريب أن ماضي مصر المجيد كان له أثر ظاهر في هذه المظاهرة الدولية، ولكن براعة المفاوضين وكفاية الممثلين كانتا شاهد هذا التاريخ وباعث هذا المجد. فإذا فخرت مصر بآبائها الذين أشاد بفضلهم أقوى أمم الدهر، كانت حرية أن تفخر كذلك بأبنائها الذين جروا في عنان مع أسبق أمم الأرض
قال وزير خارجية فرنسا في خطبته: (إن مصر ستفد إلى جنيف بتجارب الشرق، ولكنها حين تحمل الغرب على الاستفادة من حكمة الشرق. ستحمل هي نفسها على تجديد حضارتها بحضارة الغرب)
وهذا كلام لا يحتاج حقه إلى شاهد؛ ولو طبق على معناه ومغزاه لكان خليقاً أن يفتح للعصبة باب عهد جديد. فقد دأب الغرب لقوته على أن يعطي، ودأب الشرق لضعفه على أن يأخذ. وليس ما عند القوي خيراً كله، ولا ما عند الضعيف شراً كله؛ وأولى المؤسسات الغربية بالأخذ عن الشرق هي عصبة الأمم، فإن مبدأها السلام وغايتها السلام؛ وليس لدين الشرق وحكمة الشرق إلا هذه الرسالة.
فلعل مندوبي مصر والعراق وإيران وأفغانستان والهند وتركيا أيضاً، يحملون عن مطلع الشمس إلى مغربها هذه الأمانة، فيسطعون في جو الجمعية سطوع النور، ويرفون في جوانبها رفيف الروح، فيكون من أصواتهم الندية للعالم الشارد المجهود سلام ووئام ورحمة