مجلة الرسالة/العدد 204/مات كاتب البعث!
مجلة الرسالة/العدد 204/مات كاتب البعث!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ما أدركت روحي موته لأول منعاه لأنه يملؤها ويدفعها على محور من قلمه، ولا يزال شفق شمسه على آفاقها يسحب ذيوله في بطء، ولذلك استطعت أن أتلقى منعاه تلقي الخبير بالموت العالم بأنه شئ عادي يجب ألا تضج منه الأحياء بالشكوى والتفجع.
ثم أفقت دفعة واحدة منزعجاً على ضجة روحي وهي تتنزى من الألم وتتلوى تحت هول الفجيعة. . . فجيعة قلبي في صاحب حديثه، الكاتب الأصم الذي كان يسمع من هناك. . . مما وراء الأبعاد والحدود.، ثم يحدث
وفجيعة نفسي التي كانت تغتسل كل أسبوع بمداده الأسود المنير. . . وفجيعة قلمي العاجز في صاحب القلم المعجز الذي كان في يده كعصا سحرية يلعب بها تارة فيخايل (بالسحاب الأحمر) و (حديث القمر) ويكتب بها على (أوراق الورد)، ويضرب بها على قسوة القلوب فتنبجس للمساكين، ويسوق بها (تحت راية القرآن) نحو هدف الشرق الإسلامي أجيالاً جديدة هي مدينة له لا ريب بجزء كبير من الروح الذي يملؤها بفتنة المجد وسحر العزة ومرارة الجد، وبعث تاريخ الأبوة، والإيمان بالشرق والعروبة والإسلام إيماناً يحمل عليه الفن الساحر والروح الغامر الذي يستولي على القارئ ويتركه في غمرة لا يفيق منها إلا وقد انتقل إليه سر الكاتب، وسحر المكتوب.
وابتدأت جراح روحي تتسع وتستدمي وتنغل حتى توجعت واضطربت وراب أصدقائي من أمري شئ غريب، وصاح الألم ينادي القلم ليسعفه بالبلسم فيشيع الراحل العظيم ويسعى في جنازته الروحية على صفحات (الرسالة).
ولكن العاطفة إذا ثارت وفارت وهاج هيجها شلت جميع قوى العقل. وهاأنذا أجلس ساعتين لأكتب الكلمة التي أخفف بها عن نفسي، فلا أستطيع! مع إني ممتلئ بميراث الرجل وشخصيته وأدبه وحبه وأخباره.
وأشهد أن جميع ما في نفسي من الحزن يختفي حين أريد أن أدفعه عني في أجساد وصور من كلمات، وأن ما أريد أن أقوله يروغ مني وتزيغ حواسي دون مكمنه فلا أراه ولا أدركه. . . والأمر بعد للصمت وإن أتلف، وللدمع وإن أسعف.
وقدرت أن مناحة ستقام بمصر على كاتب البعث فانتظرت حتى بكوا وكتبوا، فقرأت بعض الكلمات، وشربت بعض العبرات. . ورأيت مكان قلمه خالياً في (الرسالة) فراعني وحدثني أن أعلام الأدب الإسلامي التي كانت تخفق على نصاب من قلمه قد طويت إلى يوم النشور. . . وأن البيان الهدار الرجاف الجارف قد غاض. . . وأن القلب الذي كنا نسمع لغته بين السطور قد تقطعت أوتاره. . . وأن الحركة الدائبة المجاهدة الناصبة لغاية الشرق الإسلامي والاعتزاز به والدفاع عن محاسنه وجلوة آثاره والصمود بها أمام الزلزلة التي أصابت الشرقيين غداة صحوا على قصف القوة الغربية وفتنة مباهجها صموداً ترك كثيراً من الشبان متماسكين مؤمنين بأنفسهم وبلادهم وميراثهم على رغم ما أتى به الغرب من تخانيث المدنية وزيغ الحواس بها. . هذه الحركة قد ركدت إلى الأبد في وادي السكون. . .
ثم قرأت قصة موته بقلم صديقه وأستاذنا صاحب الرسالة فعجبت لذلك القلب الكبير الذي يأبى أن يموت إلا على نية عمل عظيم للحياة.! يريد أن يطهر. . . إنها وصيته إلى تلاميذ مدرسته فلينفذوها فإنها رغبة التاريخ حدث بها على لسان حي ميت
وهكذا تنتهي حياة المجاهد لا يموت في فراشه إلا على نية الجهاد، لأن أشواق روحه وأوطارها دائماً في حياة الميدان. .
وهكذا تسلم حياة الطهارة إلى تلك الخاتمة السعيدة بالنية العظيمة كما تسلم حياة الإثم وخيانة الميراث الإنساني والأمجاد القومية إلى أن يموت أحدهم وهو في ضجة من شهوات النفس. ولكن هل يستويان مثلاً؟ لا والذي جعل الحياة واجباً حملناه غير مخيرين ولابسناه على كره منا! وجعل الأرض ميداناً للكفاح، لا وليمة للتشهي! وجعل من التاريخ كيراً لابنى ينفى الخبث!
قصة حياة الرافعي العظيم هي قصة الكفاح بين أولئك الذين أرادوا أن يجمعوا للشرق بين الحسنيين من الطريف النافع والتالد الخالد الثابت الذي لا يمكن أن يتغير بتغير العصور، فإغفاله ضلال في الحاضر وعقوق للماضي وتضييع للمستقبل وإفناء للشخصية؛ وبين أولئك الذين أرادوا على حد تعبيره أن يترجموا أمم الشرق إلى أمم غربية برغم الدم والاستعداد وطبيعة المكان ووحي التاريخ. وقد بدأ رحمه الله أن يأخذ مكانه في صفوف الفريق الأول منذ عهد الإمام محمد عبده، ولذلك دعا له بهذه الدعوة التي تعتبر نبوءة صادقة من الإمام قال له: (أقامك الله في الأواخر مقام حسان في الأوائل)
ومازال الرافعي حجة من حجج الشرق والإسلام في عصر فقير من الأقلام المجاهدة الذائدة؛ وقد أتى عليه زمن أوشك فيه أن يكون وحده آخذاً جهة في الميدان وجميع الكتاب في جهة مضادة، وكان هذا في الزمن الذي أعقب الثورة المصرية سنة 1919 والذي طغت فيه على مصر موجة هدامة تطرقت حتى إلى أقدس مقدساتنا وهو القرآن الكريم، ولم تنحسر هذه الموجة إلا بعد سنة 1930 حيث تعرف الناس بفضل الجمعيات الدينية إلى أمجاد دينهم وتاريخهم. وقد أمد الرافعي هذه الجمعيات ببيانه المترجم عن النزعات العربية الإسلامية في زمن كانوا أحوج ما يكونون فيه إلى مثله. ولم ينته عصر المقاومة بين الفرقين إلا وقد ظهرت في الميدان أقلام تبني وتترجم وتكشف عن المدخرات في ميراثنا وكان لها من قلم الرافعي لواء وروح وموسيقى. . . . ثم أعقب ذلك هذه الموجة الدينية العربية التي تغمر روح الشباب المصري وتدفعه إلى الثورة في سبيل تعميم التعليم الديني حتى في كليتي الطب والهندسة!
أليس هذا نصراً عزيزاً للرافعي وأمثاله ممن سلخوا ثلاثين عاماً وهم في شبه وحدة في الميدان؟ أليست مقالته القريبة (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر) نشيد النصر وأهازيج الظفر بخصوم عتاة؟
فليت شعري ماذا كان يريد بعد ذلك من حركة التطهير؟
إن الرافعي ليتسامى إلى حيث لا يبلغه أحد حين يضع نشيداً دينياً أو وطنياً. ويخيل إلي أنه حين كان ينظم أناشيده يستجمع حاسته السادسة التي تعوض بها من حاسة السمع، ويجلس على جناحي الزمن: التاريخ والغيب، ثم يضرب على أوتار القلوب بألحانه التي كان يسمعها من ذكريات الأصوات والأنغام، ومعانيه التي كانت لا تتنزل إلا له وحده
واقرأ إن شئت برهاناً على ما نقول النشيد الذي وضعه لجمعيات الشبان المسلمين، أو نشيد سعد زغلول، أو نشيد الوطن، أو النشيد الوطني الذي وضعه أخيراً، لترى هل يستطيع غيره أن يصل إلى ما وصل إليه هو من بيان واجبات الشاب ونجواه لمجده ودينه ووطنه
إن الرافعي لم يكن كاتباً يكتب للفن وحده، ولكنه كان صاحب رسالة وأهداف سار إليها منذ أن شب عن الطوق في دولة القلم
وإن شعوره برسالته تلك استولى عليه في كل ما كتب حتى فيما كتبه يعاجز به أدعياء التجديد الذين كانوا يخوضون منه في ساحل ضحضاح ويضرب هو في عبابه وأعماقه ويخرج بالدرر اليتيمات، فهو لم ينس غايته فيما كتبه من أحاديث الحب والمراقص والسوامر
ولم تخدعه عن غايته فتنة الشهرة وتملق الجماهير بادعاء الإلحاد وزعم التجديد فيدلي بالكلمة الكافرة والرأي الآثم، بل فرض نفسه وفكره فرضاً. وكان ينعى على الأدب الصحفي الذي يسير فيه (صعاليك الصحافة) وراء الجماهير حتى أسلمهم الحال إلى أن يكونوا مقودين لا قادة كما يجب أن يكون وكما تملي عليهم مهمتهم
لقد حظي الرافعي بشرف المبالغة من مؤيديه ومعارضيه، شأن كل عظيم رأته الأرض؛ غير أن حظه من شهادات المقدرين لأدبه في حياته من أوفر حظوظ الأدباء. فقد ظفر بنبوءة الأستاذ الإمام وتقدير الزعيم الأكبر سعد زغلول لبيانه الذي (كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) وتلقيب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان له بحجة العرب ونابغة الأدب. وقول المغفور له احمد زكي باشا (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهوجو كما للفرنسيين هوجو، وجوته كما للألمان جوته) وإجماع الناس على أنه أوحدي في فنه اللفظي وتوليد معانيه مما وراء حدود الكتاب والمنشئين، مما سما بنثره إلى درجة تعلو الشعر في موسيقاه وترجيعه. وأذكر أنه محرر مجلة الهلال كتب عنه كلمة: بمناسبة ظهور الطبعة الثانية من كتابه (المساكين) قال فيها ما معناه (إن من يقرأ للرافعي يؤمن بأن البلاغة حاسة سادسة)
وقد سمعت منذ ثلاثة أشهر من أحد كبار من أثق بعقلهم ونقدهم وممن كانوا يسخطون على طريقة بيان الرافعي قبل أن تجلوه (الرسالة) يقول: (إن الرافعي يصل في بعض الأحيان إلى مرتبة الإعجاز. . .)
وأذكر أيضاً أني قرأت في مجلة الزهراء التي كان يصدرها الأستاذ الكبير محب الدين الخطيب منذ عشر سنوات أو تزيد أن أحد المعجبين به من أدباء المهجر كتب إليه يقول إن لولا (الجملة القرآنية) لكان أبلغ من كتب بالعربية في جميع عصورها. .
والذين لا يقدرون أدب الرافعي هم الذين يقرءون للتسلية وتزجية الفراغ لا للدرس ولا (لتمثيل) المعاني؛ لذلك كان يؤودهم ويجهدهم أن يتابعوا سمو عقله وأن يكثروا مما على موائده الدسمة.
أما الذين كانوا يقرءونه للمتاع بمعانيه الخارقة فكانوا لا يكتفون بقراءته مرة أو اثنتين أو أكثر إذا أحوج الأمر، وهم الكاسبون لأنهم قرءوا (قراءة عريضة) لا (قراءة مستطيلة) ليس وراءها غناء
وأذكر أني قرأت خطرة من (خطرات نفس) للدكتور منصور فهمي بك التي كان ينشرها في الأهرام منذ 13 سنة يقرظ (رسائل الأحزان) للرافعي قال فيها ما معناه: (إنك كالموسيقي الألماني فجنر الذي كانت ألحانه لا يفهمها البشر، حتى قال الناس إنه يطرّب للملائكة. ورجاه أن ينزل من مستواه قليلاً حتى يفهمه الجمهور. وهو نقد لبق يعترف للرافعي بالسمو وإن كان يأخذ عليه غلوه فيه في بعض الأحيان. . ولكن للرافعي عذره من قوة جناحيه وقد كان يحملانه إلى جوه الذي فيه سر عبقرياته. .
ويخيل إلي أنه كان يكتب كما يتنفس. . كما عبر واصف بلاغة جعفر بن يحيى البرمكي (وأنه لم يكن يقصد إلى الإغراب وإنما هو عفو الخاطر. على أن تلاحق السعي من قلمه في (الرسالة) قد خدمه أجل خدمة، وبه استطاع أن يخترع ذلك اللون الجديد من أدب البعث فيما يشبه القصة
حاولت أن أرثيه بكلمات شفافة طائرة تليق بروحه وبيانه فإنه لا يليق به أن يرثى بهذا الكلام الجسماني. . . وحاولت أن أصنع ريشاً يرفعني إلى السماء التي كان يأخذ من كواكبها نور قلمه، فأعددت جو الذكرى وأحرقت البخور واستجمت أطرافي للوثبة، ولكن كثافة النفس وخفوت الطبع قعدا بي فاجتزأت بوصف عجزي. . .
سأقرأه في لباس التاريخ وروح الذكرى بعد أن مات وصار كلمة
وسأضع أذني على قبره دائماً لأسمع نداء قلبه بهذه (العقدة الروحية) التي دعا إليها في مقالته (في وحي الروح). . .
وسأجعل من شعلة روحه شمعتي. . .
ومن وحي قلمه غاسولاً لحوبتي: ومن أناشيده موسيقى همتي. .
جعل الله ميراثه للخلود، وجهاده للنصر، وروحه إلى الجنة.
(نزيل بغداد)
عبد المنعم خلاف