انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 204/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 204/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 7 -

الديانة المصرية - الحياة الآخرة

اعتقد المصريون منذ أقدم عصورهم بخلود الروح وبأن هناك حياة آخرة يجازى فيها المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته. والمنطق الذي استندوا إليه في هذه العقيدة، هو أن هذه الحياة الدنيا مزيج من الخيرات والشرور، وأن المشاهد أن هذه الفترة القصيرة التي يعيشها الإنسان على الأرض، ليست جديرة بتحقيق مكافآت الأخيار، ولا عقوبات الأشرار. وإذن فالمنطق يقفنا أمام أمرين لا ثالث لهما، وهما: إما أن تكون هناك حياة أخرى يوفى فيها الأخيار والأشرار جزاء أعمالهم في دقة وعدالة، وإما أن ينتهي كل شئ بمجرد انتهاء هذه الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة لا يتحقق تقدير الفضيلة والرذيلة، ولا يمتاز الخير عن الشر بأية ميزة. وبذلك تنتفي عن الإله صفة العدالة، وما انتفت عنه هذه الصفة لحقه النقص، ومتى لحقه النقص فقد انهارت ألوهيته من أساسها، وإذن فالحياة الأخرى من لوازم الألوهية نفسها

أما طريق معرفة الخيّر من الشرير فهي أن يؤتى بأعمال كل منهما الدنيوية المقيدة في سجل أمين لم يدع منها كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ثم يجلس المسئول أمام محكمة (أوزيريس) الذي نكتفي أن نسوق إليك في وصفها ما كتبه الأستاذ (بريستيد): (وتتكون محكمة أوزيريس في عقيدة القوم من اثنين وأربعين قاضياً يجلسون أمام المعبود كالزبانية يمثل كل منهم قسماً من أقسام مصر، فإذا دخل المتوفى أمام المحكمة وأنكر أمام كل قاض إثماً من آثامه، يوزن قلبه في ميزان مقابل ريشة العدالة، للتأكد من صدق قوله، أما الآثام التي يتبرأ منها الميت أمام محكمة أوزيريس فهي بعينها الآثام المستهجنة في عهدنا هذا. وهاك بيناً موجزاً لتلك الآثام: السرقة، والقتل، والاختلاس (وبالأخص السلب)، والكذب، والخداع، وشهادة الزور، والرياء والتنابذ بالألقاب والتجسس، وعدم الاعتدال في الأمو الجنسية، وامتهان كرامة المعبودات أو الأموات كالكفر بهم، وسرقة أمتعة الموتى. ومن هذه القائمة يستدل على عظم الرادع النفسي عند المصريين وقتئذ استنكاراً للمنكرات. وعليه فالمصريون هم أول قوم اعتقدوا برتب الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية. ويرجع هذا الاعتقاد في الحقيقة إلى المملكة القديمة. والغريب أن هذه العقيدة انحصرت في المصريين أكثر من ألف سنة في حين أن البابليين والإسرائيليين اعتقدوا أن انتقال الموتى عموماً إلى سقر المعرفة باسم (شول) واعتقد المصريون أن الأموات الذين تحكم عليهم محكمة أوزيريس بالإجرام يعرضون للجوع والعطش ويحجزون في أماكن مظلمة لا يبصرون فيها ضوء الشمس. وفي المحكمة طريق أخرى للقصاص، منها حيوان بشع له رأس تمساح ومقدم أسد ومؤخر دب البحر يفترس المجرمين الآثمين. وأخذت آراء القوم في عهد المملكة الوسطى تحوم حول تطهير النفس من المعاصي والمظاهر التماساً للبراءة بعد الوفاة وتجنباً للعقاب الأليم، فأصبحت ترى الكثير من نقوش شواهد القبور شديدة الشبه بما ألمعنا إليه في عهد المملكة القديمة، وهي تتلخص في أن الميت يطعم الجوعان ويروي الضمآن ويكسو العريان وينقل في سفينته من ليس له سفينة. وجاء على بعض الشواهد أن المتوفى كان أبا اليتيم وزوج الأرملة وملجأ الذي لا ملجأ له مما أشرنا إليه حين تكلمنا على كرم وسخاء حكام الأقسام والشخص الذي تبرئه الحكمة أوزيريس تلقبه بالرجل الطاهر العادل أو صادق القول أو المنتصر)

فإذا فرغ (توت) - وهو الذي تصوره لنا الآثار حاملاً الميزان في يده - من مهمته أمر بهذا المسئول فيساق إلى ذلك الصراط المخوف الذي مد فوق الجحيم والذي إذا اجتازه الشخص نجا وارتقى إلى جوار الآلهة والفراعنة الأبرار، وإذا هوى من فوقه سقط في واد سحيق ممتلئ بالأفاعي والحيات التي تتولى تعذيبه بقسوة حتى ينال قسطه من الجزاء

ومن الغريب أن المصريين مع إيمانهم بهذه العدالة الصارمة في الحساب ووزن الأعمال كانوا يعتقدون أن تلاوة الرقى والتعاويذ وكتابتها على تابوت الميت أو على حوائط قبره تستطيع أن تنفعه أمام محكمة أوزيريس فتزيد في نعيمه وتخفف من عذابه، وهذا هو معنى قول المحدثين: (الرحمة فوق العدل). وقد كتبت هذه التعاويذ في كتاب (الموتى) وكتاب توت الذي ألمعنا إليه آنفاً.

عقائد وطقوس دينية

اعتقد المصريون - كما أسلفنا - بالبعث والحشر والحساب على الأعمال والميزان والصراط والنعيم والجحيم، وآمنوا كذلك بأن هذا النعيم درجات، أدناها المتع المادية، وأعلاها الذهاب إلى جوار الآلهة أو الصعود بواسطة السلم الإلهي من مملكة الموتى إلى مملكة (رع) حيث يقيم الصالحون والمقربون مقاماً أبدياً لا مرض فيه ولا تعب ولا موت ولا فناء. واعتقدوا أن في الجحيم كذلك درجات بعضها خفيف وبعضها قاس، وأن بها ثعابين وحيات وتنينات تتولى تعذيب الآثمين بقدر ما يرسم لها إله الجحيم.

هذا كله في الآخرة، أما في الدنيا فمن طقوسهم الدينية أنه إذا مات الميت يجب أن يغسل بالماء النقي وأن يكفن ويدفن بعد أن يلقنه الكاهن ما كانوا يسمونه بالرقى المنجية التي تحميه في القبر من الأرواح الشريرة وتكفل له في الآخرة رحمة الآلهة، وأن تكتب تعاويذ (توت) على تابوته وجدران قبره إن كان من ذوي الحيثيات كأن يكون ملكاً أو أميراً أو كاهناً أو وزيراً أو موظفاً كبيراً أو أديباً أو طبيباً مثلاً، أما إن كان من أبناء الطبقات الدنيا، فإن هذه التعاويذ تكتب على كفنه أو في ورقة بردية تدفن معه.

ومن هذه الطقوس أيضاً تضحية الحيوانات على قبر المائت ووضع بعض لحومها مع الخبز والماء والفاكهة والنبيذ في داخل القبر، وأن يتولى تقديم هذه الضحايا أحد الكهنة، ليتقبلها أوزيريس فيضمن أهل الميت بهذا القبول لمتوفاهم الرحمة والغفران

رأى بعض الباحثين الغربيين أن هذه العقائد الفرعونية من: بعث وحشر ووزن وثواب وعقاب ونعيم، بعضه مادي وبعضه معنوي، وعذاب يتفاوت بتفاوت درجات الآثام والشرور، وأن تلك الطقوس الوثنية من: غسل الميت وتكفينه وتلقينه ودفنه ونحر الضحايا بمناسبة موته، كل هذا يوجد بحذافيره في بعض الديانات التي تدعي لنفسها السماوية فرموا هذه الديانات الأخيرة باستقائها عقائدها وطقوسها من تلك الديانة الوثنية لا من عند الله كما تدعي

ولست أدري كيف يستسيغ أولئك الباحثون هذا المنطق العجيب مع اعترافهم بالجهل التام للأصول الأولية في الديانة المصرية؛ وما المانع من أن يكون مصدر هذه الأصول المجهولة لديهم هو: السماء، وأن يكون التوثن والتعدد عارضين لها بعد التأليه والتوحيد؟ وفي هذه الحالة يكون من الطبيعي أن تتفق مع الديانات السماوية في جميع العقائد والطقوس التي لم ينلها التحريف؛ ثم ما المانع كذلك من أن تكون تلك الطقوس مستحدثة في الديانة المصرية لا يصعد مبدؤها على سلم التاريخ إلا إلى العهود التي اختلط فيها المصريون بالساميين واقتبسوا منهم بعض طقوسهم الدينية؟ هذه كلها احتمالات جائزة الوقوع، ولكن الذي لاشك فيه هو أن اتفاق ديانة وثنية مع أخرى سماوية لا يقوم برهاناً على أخذ الثانية من الأولى، ولا يصح الاستناد إليه في الحيلولة بينها وبين سماويتها

الأخلاق

آمن المصريون - كما قدمنا - منذ عهود تقصر عن إدراكها مجهودات التاريخ بأن لهذه الأكوان منشئاً أو منشئين خلقوها ونظموها وهم يتولون تصريف شؤونها بحكمة واقتدار وعدالة وإنصاف. ولأمر ما، اقتنع المصريون منذ أقدم عصورهم بأن هؤلاء الآلهة المتصرفين في الأكوان اختاروا في مبدأ الدنيا عرش مصر واتخذوه مقراً لهم يصدرون من فوقه أحكامهم وأوامرهم النافذة التي لا يجرؤ أي فرد من أفراد الوجود على التمرد عليها أو عدم الانصياع لها؛ ثم عن لهؤلاء الآلهة أن يغادروا عرش مصر إلى عرش السماء ففعلوا، ولكن بعد أن استخلفوا على هذا العرش العزيز أبناءهم وأحفادهم الفراعنة العظماء وزودوهم بكل ما يحتاجون إليه في حكمهم للبلاد وسياستهم للدولة وقيادتهم لجميع أنحاء النظم الاجتماعية والأخلاقية التي لا تسير بالبلاد إلا إلى التقدم والعمران، وأن أولئك الآلهة سيلحظون الحاكمين والمحكومين بعنايتهم ويكلئونهم بعين رعايتهم ماداموا يقومون بواجباتهم نحو أولئك الآلهة المحسنين. وكان هذا القيام بالواجب يتلخص في الشعائر الدينية وفي الاتصاف بالفضائل الأخلاقية، وأولها الولاء للعرش والعدالة والصدق والأمانة والرحمة والإحسان وأشباهها

ولا ريب أن هذه الأسطورة - على بطلانها - كانت أقوى العوامل وأهم الأسباب في رقي مصر العمراني، وتماسكها الاجتماعي وجلالها السياسي، وسموها الأخلاقي، واطراد تقدمها في العلم والأدب والفنون الجميلة والصناعات النافعة.

ومن الطبيعي أن الأمة التي تعتقد أن نجاحها في الدنيا وفوزها في الآخرة مترتبان على الفضائل لا تألو جهداً في أن تكون أمة فاضلة خيّرة، وهذا هو الذي حدث بالفعل، فقد انتشرت الفضائل في وادي النيل انتشاراً قوياً وعظم الخاصة والعامة معتنقيها وكافأهم الملوك على حسن سلوكهم بجلائل النعم وأعاظم المنح كما ضرب على الرذائل والشرور بأيد من حديد، وأصبح أفراد هذه الأمة جميعهم يفخرون بالفضائل ويتبرءون من الرذائل لا فرق في ذلك بين فرعون على جلاله وبين الفلاح أو العامل الحقير. وإليك شيئاً من نصوص تصوير هذا العصر الغابر، ومقدار تمسكه بالفضائل وأثر ذلك التمسك في حياته: (واعتقد القوم إن الوصول إلى حقول الخيرات الأخروية يكون بالاهتمام بالشعائر الدينية والاعتناء بها، وبتوالي الأيام اعتقد الناس أن النعيم الأخروي يكافأ به من يحافظ على طهارة الذمة والشرف والأعمال الصالحة في الدنيا. من ذلك ما ورد في مقبرة أحد أمراء الأسرة الخامسة مترجماً: (لقد شيدت مقبرتي بغاية العدل والحق فلا شئ فيها يستحقه غيري، وأنا لم أوذ أي شخص). وما ورد أيضاً من النقوش على جدر مقبرة لأحد أبناء تلك العصور مترجماً: (أنا لم أعاقب قط في حياتي أمام رجال الحكومة ولم أسرق شيئاً من غيري؛ بل فعلت كل ما يرضي غيري). ولم تقتصر نقوش مقابر تلك العصور على إنكار السيئات، بل شملت أيضاً فعل الخيرات كما ورد على جدار مقبرة وجيه في الأسرة الخامسة مترجماً: (كنت أقدم الخبز لفقراء إقليمي، وأكسو عراته، ولم أوذ أحداً طمعاً في أملاكه حتى اشتكاني إلى معبود بلده، ولم أسمح لضعيف أن يخشى بأس قوي فيتظلم من ذلك للإله).

ومما ورد في موضع آخر تعزيزاً لما قدمناه ما يلي: (ومنه يتضح أن القوم وقتئذ أخذوا يعتقدون بوجود محاكمة في الآخرة أمام (أوزيريس) وأن هذه العقيدة أحدثت تأثيراً أدبياً عظيماً في نفوس المصريين، فإنهم وإن كانوا حقيقة منذ قديم الزمن ذوي ضمائر ونفوس رادعة إلا أنهم كانوا في احتياج إلى زجر قوي كالوارد في عقيدة أوزيريس. لذلك نشاهد بين نقوش دهاليز أهرام أمراء الأسرتين: الخامسة والسادسة تحذير كل من يستولي على مقابرهم بأنه سيحاكم على أفعاله أمام المعبود الكبير، كما ورد في مقبرة أخرى ما يشيره إلى تجنب الكذب كلية رغبة في رضاء المعبود وقت الحساب. كل هذه الحقائق وجدت مدونة بين أقدم نصوص الموتى المعروفة الآن بمصر

ومما لاشك فيه أن اتصاف المصريين بالفضائل والخيرات يرجع إلى أوائل عهدهم بالتعقل والتفكير. ونحن بهذه المناسبة لا نوافق الأستاذ (بريستيد) على قوله: إن الواجب الديني كان في أول أمره مقصوراً على الشعائر ثم تحول بعد ذلك إلى تناول الفضائل. فهذا القول غير صحيح البتة، لأن المصريين لم يعرفوا الحياة يوماً واحداً بدون اعتناق الفضائل والأخلاق وإيمانهم بأنها أوامر الآلهة كانوا ينشرونها بين الناس إبان اتخاذهم عرش مصر مقراً، أي قبل صعودهم إلى السماء في الأزمان السحيقة. ولو كان قول بريستيد صحيحاً للزم أن يكون الآلهة قد شغلوا زمناً عن الأمر بالفضائل ولم يهتموا إلا بشعائرهم الدينية، وهذا منقص لشئونهم، حاط بعظمتهم مما لم يشعر به المصريون يوماً واحداً

(يتبع)

محمد غلاب