مجلة الرسالة/العدد 203/فائدة هندسية
مجلة الرسالة/العدد 203/فائدة هندسية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كيف تقيس المسافة بين نقطتين؟ أما أنا وأنت - أو أنت وأنا، كما يقضي الأدب الحديث أن أقول - فان الواحد منا يقف ثم يروح يخطو بين النقطتين كالجندي الحديث العهد بالتدريب العسكري، ويقول وهو يفعل ذلك: (واحد. . . اثنين. . ثلاثة. . الخ) ثم يضرب عدد الخطوات في طول كل خطوة فيكون الناتج هو المسافة التي يراد قياسها. أو يفعل شيئاً آخر: يجئ بحبل ويمده بين النقطتين ثم يعقد عقدة في كل ناحية، ثم يجئ بمقياس كالمتر ويقيس به ما بين العقدتين، فإذا لم يكن ثم متر، فان المسافة بين أنامل يمناك - حين تمد ذراعك - والكتف اليسرى طولها متر.
ولكن لي صاحباً يعرف طريقة أخرى في قياس المسافات المستقيمة أبرع مما نعرف، وقد حدثني بها ووصفها لي. ونحن نتغدى منذ أيام قال:
(لا علم كالهندسة. . . أعني أنها علم مضبوط لا موضع للخطأ فيه)
وأنا - كما يعرف القارئ - لا علم لي بالهندسة ولا بسواها مما هو منها بسبيل. ولست ادري إلى هذه الساعة كيف أمكن أن أجتاز الامتحانات المدرسية التي كانت تعقد لنا في المدارس، أو في السرادقات، وقد كان مما نمتحن فيه الهندسة - بأنواعها، فإنها كثيرة - والجبر والحساب وحساب المثلثات إلى آخر هذا الذي نسيت حتى أسماءه. وأحسب أن الذين كانوا يراجعون أوراق الإجابات كانوا يقولون إن هذا المازني سيكون أديباً كبيراً، والأدب لا يتطلب العلم بالرياضة، ومن الخير للأدب أن ندعه يخرج بشهادته وأن لا نعطله بالرسوب. فإلا يكن هذا هكذا، فليقل لي من يدري كيف أمكن أن أجتاز هذه الامتحانات في علوم الرياضة والكيمياء أيضاً والطبيعة كذلك؟ فإني أذكر - الآن - أني كنت أملأ أوراق الإجابة عن أسئلة الرياضة وما إليها من المعارف المستحيلة بالرسوم والتصاوير: رسوم فتيات وطيور وبقر وجمال، وكنت أفرد الصفحة الأخيرة من ورقة الإجابة لأساتذتي في علوم الرياضة، فأرسم بضعة خطوط هنا، وأكتب تحتها (المستر فلان) معلم الحساب، وخطوطاً أخرى تحتها وأكتب إلى جانبها (المستر علان) مدرس الجبر وهكذا ومن يدري؟. لعل رسمي لأساتذتي كان يرضيهم ويعجبهم، فيدعون جواب المسائل ويمنحوني الدرجات على الرسم الجيد من الذاكرة!
وقلت لصاحبي: (يا سلام!. صحيح؟)
فقال (بالطبع. . . اسمع. . . كيف تقيس المسافة بين شاطئ النيل؟)
قلت: (أوه. . المسألة لا تحتاج إلى هندسة أو غيرها. . أمشي على كوبري قصر النيل وأعد خطاي ثم أضرب العدد في طول الخطوة. . . مسألة بسيطة جداً)
فقال: (لا لا لا لا. افرض أنك تريد أن تقيس المسافة بين الشاطئين حيث لا كوبري ولا شبهه)
قلت: (آه. . . هذه مسألة أخرى. . أقول لك. . أركب زورقاً ومعي حبل أثبته على شاطئ وأدليه في الماء ونحن نمرق حتى نبلغ الشاطئ الأخر ثم نقيس الحبل)
قال: (يا أخي ألا تعرف أن الزورق لا يستطيع أن يمضي من شاطئ إلى شاطئ في خط مستقيم؟)
قلت: (صحيح. . والله فاتتني! طيب! وما العمل؟ أما أنا فلا أرى طريقة أخرى فيحسن بالنيل أن يقنع بأن يبقى بغير قياس لعرضه. . يكفي طوله)
قال: (لا تمزح. .)
قلت مقاطعاً: (والله إني أتكلم جاداً. . ثم إني لا أدري لماذا أتعب نفسي وأكلفها أن تقيس النيل؟)
قال: (اسمع. . أنا أعرفك الطريقة. . . ألم تتعلم في المدرسة أن ضلعي المثلث المتساوي الضلعين أكبر من الضلع الثالث أي القاعدة؟)
قلت: (جايز)
قال: (جائز؟ ماذا تعني؟ هذه حقائق)
قلت: (جائز! الحقيقة أني تعلمت أشياء كثيرة في المدارس ولكني لا أذكر الآن شيئاً منها فأنا مضطر أن أصدقك. . . ولكني أخشى أن يكون غرضك أن تضحك مني، ولهذا أؤثر الحذر وأقول لك جائز. . على كل حال تفضل)
قال: (حسن. . أسمع. . هذه حقيقة لا شك فيها. . ضلعا المثلث المتساوي الضلعين أكبر من القاعدة. . فكيف ينفعنا هذا في قياس عرض النيل؟. . أنا أقول لك. . . تأخذ ثلاثة أوتاد، وثلاثة حبال، وتذهب إلى أحد الشاطئين وتثبت فيه - على الأرض - وتدين. . تدقهما دقاً قوياً ليثبتا ولا يتزعزعا. . . وتذهب إلى الشاطئ الآخر، وتدق هناك الوتد الثالث. . . هذا الوتد الثالث هو رأس المثلث. . . وما بين الوتدين الآخرين على الشاطئ الآخر هو القاعدة. . فاهم؟ ثم تصل الأوتاد بالحبال. . . مسألة سهلة جداً. . . ثم تقيس وتحسب فتجئ النتيجة مطابقة للحقيقة)
قلت: (غريب!. ولكن أسمع. . ما العمل في المراكب والزوارق التي تمخر؟ هل تؤخرها حتى تفرغ من الحساب أليست هذه مشكلة عسيرة الحل؟. أم لها يا ترى حل هندسي أيضاً؟)
قال: (يا أخي لا تمزح. . لقد فعلت ذلك مرات كثيرة)
قلت: (صادق. . صادق. . والله إن هذا لذكاء!. لو كان الذي اهتدى إلى الحقائق الهندسية يعرف أنك ستستغلها على هذا النحو العلمي المفيد. .؟)
قال: (لقد ورثت هذه الدقة عن أبي. . ولكني لم أبلغ مبلغه مع الأسف. . . مع التدرب آمل أن أكون مثله. . إن حسابي الآن - طبقاً لهذه الحقيقة الهندسية لا يجئ مخالفا للواقع إلا بمقدار خمسين أو على الأكثر سبعين متراً فقط. . شيء تافه كما ترى!)
قلت: (ولكن هل من الضروري أن يكون المثلث متساوي الضلعين أو لا أدري ماذا تسميه؟)
قال: (لا. . أبداً. . ليس هذا ضرورياً. .)
ثم شردت نظرته وعلا وجهه السهوم، فتركته لخواطره ولم يلبث أن رد عينه إلى وقال:
أبي لا يكاد يخطئ. . . صياد ماهر جداً. . . وأغرب ما في الأمر أنه يستطيع أن يقول لك إنه أخطأ الهدف بمقدار متر أو نصف متر أو سنتي. . . خرجنا مرة إلى الصيد فأدهشني بدقته وإحكامه. . . أطلق البندقية على بطة ثم نظر إلى وقال: يا فريد! الطلق مرّ من تحتها على مسافة ثلاثة سنتيات. . ثم رمى أخرى وقال يا فريد: الطلق مر من فوقها على مسافة ملليمترين؛ ورمى ثالثة وقال آه يا فريد! هذه طلقة لا مثيل لها. . شعرة فقط بينها وبين البطة!. وهكذا يا أخي. . فهل سمعت بمثل هذه البراعة العجيبة؟. . مقدار شعرة فقط، لا أكثر ولا أقل؟ تصور الشعرة ماذا يبلغ من سمكها؟. ومع ذلك عرف! استطاع أن يقدر المسافة بين الطلق والبطة على هذا البعد العظيم ما قولك؟. . أليس آية؟)
قلت: (والله شيء مدهش حقيقة. . . ومن أين جاءته هذه البراعة؟)
قال: (العلم نور يا أخي. . وما فائدة العلم إذا كان الإنسان لا يطبقه ولا ينتفع به في حياته؟)
قلت: (صدقت. . ولكن هل أبوك يعرف المسافات بين الطلقات وبين الطيور التي لا يصيدها بالهندسة - أعني بواسطة المثلث المتساوي الضلعين أو غير المتساوي الضلعين؟)
قال: (وهل هذا كل ما في الهندسة؟ يظهر أنك نسيت دروسك)
قلت: (كل النسيان. . نسيتها قبل أن أحفظها)
قال: (صحيح. . هذا يحدث كثيراً)
قلت (إنه يحدث دائماً)
قال: (لا. أنا لم أنس دروسي قبل حفظها. . ولا بعد الحفظ)
قلت: (أنت أعجوبة. . وهل في الناس اثنان مثلك؟)
فصار وجهه كالحمرة من شدة الحياء والخجل من سماع المدح، وكأنما أراد أن يصرفني عن نفسه.
فقال: (ولكن أبي ليست له مثل هذه الدقة حين تكون الحيوانات أليفة والطيور داجنة)
قلت: (وكيف كان ذلك؟)
قال: (إن نظره بعيد جداً يبصر كل شيء - أي شيء - على مسافة ميل، ولكن إذا كان الشيء قريباً منه، صعبت عليه الرؤية الدقيقة. . وأذكر أنه قام بيني وبينه خلاف على المسافة بين رجلي الدجاجة)
فصحت به: (إيه؟)
فقال: (لا تصح هكذا. . إننا في مطعم. . فهل تريد أن يلتف حولنا الناس؟)
قلت: (معذرة. . لقد نسيت أن ههنا ناساً. . الحق أن كلامك استبد بعقلي. تفضل)
قال: (أشكرك. . نعم اختلفنا على المسافة بين رجلي الدجاجة. . هو يقول إنها خمسة سنتيات وأنا أقول إنها أقل بكثير. . وأخيراً اتفقنا على قياسها بالضبط والدقة، فقال أبي هات الدجاجة، فجئته بها. . تناولتها من رجليها فقال كيف تريد أن تقيس وقد ضممت رجليها. فتناولتها من عنقها، فصارت تلعب وتحاول أن تفلت وتضرب برجليها فاستحال قياس ما بينهما، ثم سكنت ولكن رجليها بقيتا مضمومتين فاتفقنا على تركها على الأرض، وحاولنا أن نغريها بالسكون بقليل من الحب رميناه لها لتلقطه، ولكنها يا أخي لا تسكن أبداً. . حركة دائمة)
قلت: (لماذا لم تنتظرا حتى تنام وحينئذ يتيسر القياس كما تشاءان؟)
قال: (والله فكرة)
قلت: (هل تعني أن تقول إنك لم تعرف إلى الآن أيكما المصيب وأيكما المخطئ؟)
قال: (بالطبع أبي هو المخطئ. . ألم أقل لك إن نظره بعيد؟)
قلت: (آه صحيح. .)
قال: (طبعاً)
قلت: (طبعاً)
وكانت هذه نهاية الحديث في يومنا ذاك، فعدت إلى البيت وقيدته لئلا أنساه.
إبراهيم عبد القادر المازني.