مجلة الرسالة/العدد 203/عبرة وفاء
مجلة الرسالة/العدد 203/عبرة وفاء
الرافعي
للأستاذ كامل محمود حبيب
أليس الحق أن العيش فان ... وأن الحي غايته الممات
(شوقي)
فقدتك - يا رافعي - ففقدت صديقاً، والأصدقاء قليل؛ وأخاً كبيراً طيب القلب، والقلوب هواء؛ وأباً شفيقاً فيه الرحمة والحنان؛ وأستاذاً غمرني نور علمه ونور أدبه
كنت وكنا. . . ففتحت على عينيك مغاليق نفسي، فأحسست كأني ألمس روحك تتدفق في روحي، فهفوت نحوك أجد في حديثك اللذة والمتعة. وأجد في نصيحتك الهداية والنور. . . فلما فقدتك فقدت قلبي، وأذهلتني الصدمة فخرجت عن صبري إلى حزني؛ وكدت أشق عليك الجيب، وألطم الخد. ولكن الإيمان يا رافعي. . . ولكن الإيمان. . .
وانطويت على نفسي ألتمس في عبرات حرى أسكبها، أشيعك بها إلى الدار الأخرى. . . ألتمس فيها بعض ما يخفف عني برح الشوق، وألم الفجيعة؛ فما وجدت فيها سلوة ولا وجدت عزاءً، فاستحوز علي الأسى والشجن، ونسيت ما كنت تقوله حين تزعزعني الأيام: (الإيمان، يا بني، الإيمان. . .)
وخرجت إلى الناس فرأوا في أثر الحزن والضنى في سواد لبسته، وفي تجهم وعبوس اكتسى بهما وجهي، وفي عبرة تترقرق في محجري أجهد أن أكفكفها لأخفى ضعفي، وفي جفوني قرح من أثر البكاء والسهر؛ فما استطاع واحد أن يقول شيئاً، غير أن نظراتهم كان فيها الرثاء والشفقة. . . ثم انطووا عني جميعاً، وخلفوني وحيداً، أحس ألم الوخزة في قلبي. . . قلبي وحده.
ومر رجل يبسم وعلى وجهه سمات الفرح فهاجت في نفسي الذكرى فبكيت ونظر هو إلى حزني ثم استغرق في الضحك، لا يرعوي ولا يرحم؛ فقلت لنفسي (ويل للشجي من الخلي!)
وجاء صديق يريد أن يرفه عني، ويطمع في أن ينزعني من آلامي، بعبارات فاترة ثقيلة ل معنى فيها ولا روح؛ ولكنها أثارت شجوني، فانتفض قلبي، وارفض جبيني عرقاً، وانهمرت عبراتي؛ فانطلق وهو يرثى لحال صاحبه. . . صاحبه المسكين الذي لا يسمع ولا يعي. . . وماذا يعزيني عنك يا رافعي وأنت. . . في دمي وفي روحي؟
وجلست إلى كتاب من كتبك أنشق عبير روحك الطاهرة، وأتنسم من ألفاظك روح قلبك الخالص؛ فارتدت الذكرى تبعثك في خيالي، فتوقظ في نفسي الألم والحسرة لأنني استشعرت فقدك في قلبي.
إن في النفس عواطف لا يرقى إليها القول، وفي الفؤاد نوازع لا يستطيع أن يكشف عنها المنطق، أحس بها جياشة ثائرة فأنطوي على أحزان تأكل قلبي وتضطرم في جوانحي. . . ثم لا أجد عاصماً سوى الدمع. . .
وجاء النعي يقول: إنك بت تحت الثرى، وإن تاريخك على الأرض قد تم، فوجمت، وجاء الظلام يترع أيامي في وقت رف علي فيه الأمل الحلو حين خيل إلي أني أنتظر لقياك، ولكن. . . فجعت مرتين: فيك وفي أملي. . .
وطال بعدك ليلي حين لج بي الأسى، ونأت عني مسراتي حين لازمتني أشجاني، وغدوت إنساناً غيري فيه اللوعة والأسف.
لقد عرفتك فبعثت في روحي الحياة والنور، ونفثت في قلبي الإيمان والسمو؛ والآن. . . الآن رانت على حياتي ظلمات وظلمات فما أستطيع أن أهتدي، والبحر يزخر حوالي فلا أرى الشاطئ الأمين، فأين يدك تجذبني إليه، وأين قلبك ينير لي الطريق. . .؟
تركتني وأتراحى، وفي القلب شوق، وفيه شكاية، فمتى تغسل دموعي هذه الأشجان لأبدو للناس رجلاً فيه الصبر والسلوان.
لفتك يد المنون في كفن لتنشر في الأفئدة اللوعة والأسى وأودعتك رمساً لتوقظ في النفوس الهموم والشجن.
وأطفأت السراج المنير لينقلب ناراً تتسعر بين الضلوع.
ونزعتك من بيننا لتشعرنا الوحدة والفراغ.
فلنا الله. . . لنا الله بعدك يا رافعي.
آدنى هذا الأمر فانشق له قلبي.
وتفطر فؤادي حين لفحني أواره.
وفقدت الآسي وقد فزع عني الصديق والخليل
فظللت وحدي أذرف الدمع السخين.
فوا حر كبدي. . . واحر كبدي مما أقاسي بعدك يا رافعي!
كامل محمود حبيب