انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 203/الرافعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 203/الرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1937


للدكتور عبد الوهاب عزام

(قال قائل: (مات سنائي!)

إن موت مثل هذا العظيم ليس خطباً أمماً. لم يكن تبنة ذهبت بها الريح، ولا كان ماء جمد في الزمهرير، ولا كان مشطاً كسرته شعرة، ولا كان حبة سحقتها الأرض؛ إنما كان كنزاً من الذهب في هذا التراب لا يزن العالمين بمثقال ذرة.

لقد رمي القالب الترابي إلى التراب، وحمل الروح والعقل إلى السموات)

ذكرت هذه الأبيات: أبيات جلال الدين الرومي حينما قرأت نعي الرافعي، واعجباً! أنضبت هذه النفس الفياضة؟ أذبل هذا الخلق النضير؟ أخمدت هذه الجذوة؟ أطفئ هذا المصباح؟ أكلت هذه العزيمة الماضية؟ أفترت هذه الهمة الدائبة؟ أأظلم هذا القلب الذي يملأ الدنيا ضياء؟ أوقف هذا الفكر السيار؟ أوقع هذا الخيال الطيار؟ أسكن هذا القلم المصور الذي يصبغ العالم كما يشاء، يضحكه ويبكيه، ويسخطه ويرضيه، والذي إذا شاء صور أحزانه مواسم، ورد أعياده مآتم؟

أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟

كلا كلا! إن مولد الحر في الدنيا قليل؛ وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد، ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت!

إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء فلا يزال وضّاء هادياً، أو كما يولد النهر في سفح الجبل فلا يفتأ جارياً ساقياً، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر ثم لا تموت.

إن الحر الكريم قطرة صافية تستمد الله، فلا يحول عنها نوره؛ ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع؛ وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان، إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وأن حد الناس مكانهم حد هو مكانه؛ فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خ إليهم الباطل حقاً والحق باطلاً؛ وقف هو هازئاً أبياً يستوحي ربه، ويستفتي قلبه؛ وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتنفر من كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم في البحر الخضم:

يضل كالطود يجري حوله نهر ... من الخطوب له بالناس طغيان

فاتت مآرب أهل الذل قمته ... فما يذلّله نيل وحرمان

إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية متقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام. وهل التاريخ كما قالوا إلا إعادة وتكرار؟

ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيباً، ومن النور الإلهي قلباً، ومن الفيض الإلهي ينبوعاً، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي الظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال. ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.

كان الرافعي نوراً وسلاماً، ومحبة ووئاماً، فإذا سيم الدنية في دينه أو في أمته؛ وإذا تجهم الباطل لحقه، أو تطلعت المذلة إلى خلقه، ألفيت النور ناراً تلظى، والسلم حرباً تهيج، والحب بغضاً ثائراً، والرحمة شدة حاطمة.

لبثت سنين طوالا أقرأ للرافعي ولا أراه، وأحبه ولا ألقاه، وأتحدث عنه معجباً ثم أقول لمحدثي: هذا وجه ما سعدت برؤياه، حتى لقيته العام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وكأنا صديقان قديمان. ثم أتاحت الفرص لقاءه مرتين أو ثلاثاً كانت آخرتها في دار (الرسالة) بعد أن كتبت مقالتي عن كتابه وحي القلم. ثم افترقنا وما علمت أنه آخر العهد وفرقة الدهر!

وإني لأعترف للقارئ في غير تزيد ولا تصنع أني أجد في نفسي وقلمي تهيباً للكتابة عن الرافعي؛ وأرى جوانب تتسع ثم تتسع حتى يضيق المجال. ولقد حاولت أن أنظم فكنت كلما أخذت القلم تذكرت هذه الأبيات من منظومتي (اللمعات) فقلت إنها تمثله. إنها تمثل الرجل الحر حيث كان

حبذا الصوت فمن هذا البشير؟ ... ومن الهاتف بالقلب الكسير؟ ومن البارق في هذي الغيوم؟ ... ومن المسعد في هذى الهموم؟

ومن الهابط في نور السما ... هادياً في الأرض جيلاً مظلماً؟

ومن السائق شطر الحرم ... وإلى الأصنام سير الأمم؟

ومن القارئ في بيت الصنم ... سورة الإخلاص في هذا النغم؟

ومن الحر الذي قد حطما ... من قيود الأسر هذا الأدهما؟

ومن الآبي على كل القيود؟ ... ومن القاطع أغلال العبيد؟

ومن الباعث في ميت الأمم؟ ... ثورة العزة من هذي الهمم؟

لاح كالغرة في هذا السواد ... بص كالجمرة في هذا الرماد؟

إنه ليصدق من يجيب كل سؤال في هذه الأبيات بهذا الاسم الكبير: (مصطفى صادق الرافعي).

عبد الوهاب عزام