انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 202/كتاب الإرشاد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 202/كتاب الإرشاد

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 05 - 1937



إلى فلسفة الجراد

للدكتور طه حسين بك

عميد كلية الآداب

صديقي العزيز المجهول إسماعيل بن زيد حفظه الله وأكثر من أمثاله.

تحية طيبة تلقاك حيث كنت، فإني لا اعرف أين تكون، كما إني لا اعرف من تكون.

أما بعد فقد قرأت كتابك في (الرسالة) منذ أيام، ولست ادري أين ظفر به صديقنا الدكتور عوض، فإني لم أتلقه قبل نشره، ولو قد وصل إلى لما أبطأت في الرد عليك برغم كثرة العمل واشتغال النفس بأشياء يراها الناس خطيرة بعيدة الأثر في حياة الأفراد والجماعات، وأراها أنا كما تراها أنت أهون شأناً وأقل خطراً من صيد الضفادع، وتثقيف الجراد واستخراج أشعة الشمس من قشر الخيار. واكبر الظن انك رجل رؤوف بالأصدقاء شفيق على الإخلاء خطر لك أن تستفتيني فيما عرض لك من الأمر فسطرت كتابك وهممت بإرساله إلي، ثم عرفت إني مجهود مكدود فرحمتني ورفقت بي وأجلت إرسال كتابك إلي حتى ينقضي العام وافرغ لمثل هذه الموضوعات الجليلة القيمة. ولكن كتابك وقع إلى صديقنا عوض على أي نحو من هذه الأنحاء التي تقع بها الكتب إلى الناس أو يقع بها الناس على الكتب وعوض رجل فيه مهارة العفاريت ولباقة الشياطين اكتسبهما في اكبر الظن من ترجمته لقصة فاوست ومن طول عشرته لشيطان الشاعر الألماني العظيم. فلم يكد يقع الكتاب إليه أو لم يكد هو يقع على الكتاب، حتى أسرع به إلى الرسالة يكيد بنشره لك ولي جميعاً.

يكيد لك لأنه يحسب أن الناس سيضحكون حين يظهرون على هذه الموضوعات الغريبة التي تفكر فيها وتنفق في درسها وقتك وجهدك، ويكيد لي حين يطلب إلي باسمك على ملأ من قراء الرسالة أن أبواب لك الكتب التي تريد أن تذيعها في هذه الموضوعات.

وليس عوض شيطانا ولا عفريتا ولا مترجماً لفوست ولا معاشرا طويل العشرة لمفستو فيليس انقضى يومه وليله دون أن يجد ويكد ليغيظ إنسانا من الناس ويعبث بصديق من الأصدقاء، واحسبه أن أعياه الظفر بمن يغيظه أو يعبث به لا يتردد في أن يغيظ نفسه أو يعبث بها، وله في الحطيئة قدوة سيئة وأسوة قبيحة. ولابد من أن يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الشر ويدفعهم إلى البغي كما يوجد في الأرض من يدعو الناس إلى الخير ويهديهم إلى البر والرشاد.

وقد هممت أيها الصديق العزيز المجهول أن اعرض عن هذه الرسالة التي لم أتلقها أو أن أؤجل الرد عليها كما أجلت أنت إرسالها ولكني - ولا أكذبك - لم أكد أتم قراءتها حتى استرحت إليها ونعمت بها لأنها صادفت هوى في نفسي ولاءمت بعض ما كان يضطرب في رأسي من الخواطر والآراء. فلم أجد بدا من أن أرد عليك في (الرسالة) لأني لا اعرف عنوانك ولأني قرأت كتابك في الرسالة وتلقيته من طريقها، ولأني لا آمن هذا العفريت الذي نسميه عوضاً ونكل إليه تعليم الجغرافيا في كليتين من كليات الجامعة أن ينالها بقليل أو كثير من التبديل والتغيير، وأنت تعلم أن من العسير جدا أن أجيبك في فصل واحد إلى تبويب هذه الكتب الأربعة التي ألفتها غير مبوبة، فذلك يحتاج إلى وقت وفراغ لا أملكهما في هذه الأيام أيضاً؛ وذلك يحتاج بعد هذا إلى مكان من الرسالة قد لا تستطيع أن تخصصه لنا دون أن تظلم واحداً أو اثنين من كتابها الأدباء. ولست اذكر الرفق بالقارئ ولا الترفيه عليه، فالقارئ آخر من أفكر فيه؛ وليس يعنيني أن يغضب أو يرضى، وليس يهمني أن يقرأ أو يعرض عن القراءة، فإني لا اكتب له وإنما اكتب لك. وأنا لا اكتب له لأن هذا الموضوع اعمق وأدق من أن يكتب للقراء؛ إنمايكتب للقراء في فلسفة أفلاطون وأرسططاليس ونيتشة وأمثالهم من أصحاب العقول الجبارة؛ فأما فلسفة الجراد فإنها الطف وأخفى وأرق من أن تبلغها عقول المثقفين أو تنفذ إليها بصائر المستنيرين؛ لهذا أفكر فيك أنت ولا أفكر في القراء؛ ولو فكرت فيهم لما كتبت شيئا، لأني لا احب أن ألقاهم بما يكرهون لا سبيل إذن إلى أن أتحدث إليك في هذه الموضوعات الأربعة التي ألفت فيها كتبا غير مبوبة، وإنما أتحدث إليك في موضوع واحد منها اختاره ليكون نموذجا لغيره من الموضوعات التي ألفت فيها والتي يمكن أن تؤلف فيها؛ فإن أبيت إلا أن أبوب لك هذه الكتب الأربعة فقد نستطيع أن نصنع ذلك في مجالس خاصة نلتقي فيها بين حين وحين لهذا العمل الجليل، نلتقي فيها لنتحدث على مهل وفي حرية دون أن يشاركنا في الحديث هؤلاء القراء الذين لانا منهم أن يذهبوا فينا المذاهب وان يطلقوا فينا الألسنة وان يظنوا بنا الظنون.

وقد اخترت تعليم الجراد أصول الفلسفة موضوعا لهذا الحديث. وأول ما ألاحظه أيها الصديق العزيز المجهول انك أهملت عنوان الكتاب الذي ألفته إهمالا شديدا، واكبر الظن أن إهمالك للفنون هو الذي حال بينك وبين تبويب الكتاب على ما تحب.

ولست ادري أصحيح ما قال القدماء من أن الكتاب يعرف بعنوانه، ولكني اعتقد أن عنوان الكتاب يبوبه وينظمه، ويلائم بين أجزاءه ويشيع فيه هذه الموسيقى التي تحببه إلى النفوس وتغري به عقول القراء. وأول ما يجب العناية بالعنوان فيما أرى أن نذهب به مذهب القدماء الصالحين، فلا نرسله إرسالا ولكن نقيده بالسجع، لأن إرسال الأشياء في غير قيد يمكنها من أن تهيم على وجهها وتنطلق في غير وجه، وتكون كالجراد هذا الذي لا يستقر على سنبلة أو كوز إلا ريثما ينتقل إلى سنبلة أو كوز. فإذا أردت يا صديقي أن تضع كتاباً فلا تفكر في موضوعه ولا في أجزائه ولا في أبوابه وفصوله ولا في غاياته وأغراضه، فهذا كله يأتي وحده دون أن تدعوه أو تلج في دعائه بالعناية أو التفكير، إنما الشيء الذي يجب أن تقف عليه جهدك، وتنفق فيه وقتك، وتستنفد فيه قوتك، هو العنوان، والعنوان المقيد المسجوع. ويشهد بذلك تراثنا الأدبي العظيم الذي أن أحصيته وجدت أكثره قد قيد بهذه العنوانات المسجوعة؛ ويشهد بذلك صديقنا الزيات فقد كانت لنا معه جولات قيمة خصبة أيام الشباب في هذا الفن الذي لا يحسنه إلا اقلون؛ ويشهد بذلك صديقنا محمود حسن زناتي الذي كان أستاذنا في هذا الفن العجيب. لذلك لم أكد اختار هذا الموضوع للحديث حتى فكرت قبل كل شيء في عنوان الكتاب الذي ألفته ولم تنبئني منه إلا بطرف يسير قصير. وقد سميت هذا الكتاب كتاب الإرشاد إلى فلسفة الجراد وأخص ما يمتاز به العنوان البارع أن يراه القارئ فيظنه واضحا جليا، فإذارآه الأخصائي تبين فيه ألوانا من الغموض وفنونا من الغرابة تحتاج إلى الشرح والتفسير، والى الحاشية والتقرير ولاشك في أن المثقفين من قراء الرسالة سيرون هذا العنوان سهلا سائغا وقريبا دانياً. ولكن أصحاب البيان والراسخين في علم التأويل سيلاحظون أن كلمة الفلسفة هنا قد استعملت في غير معناها الحقيقي المعروف؛ فليس للجراد فلسفة؛ والدليل على ذلك انك تريد أن تعلمه الفلسفة، وإذن فقد يقال أن في هذه الكلمة مجازا مرسلا لأن المؤلف أراد فلسفة الجراد باعتبار ما سيكون، لأن الجراد إذا قرأ كتابك أن شاء الله تهذب وتأدب وصارت له فلسفة. ولكن ليس هذا هو الذي أراده المؤلف، فقد يكون أراد شيئا آخر، وهو أن للجراد الآن فلسفة جرادية يراد أن يعدل عنها إلى الفلسفة الإنسانية. وقد يكون المؤلف أراد بالفلسفة المصدر أي جعل الجراد فيلسوفا يقال فلسفت الشيء جعلته فلسفيا، وفلسفت الإنسان جعلته من أصحاب الفلسفة، وفلسفت الجراد جعلته مفلسفا. ولا تبحث عن هذه الكلمة في المعاجم العربية القديمة، فقد لا تظفر في هذه المعاجم بشيء، ولكن ابحث عن هذه الكلمة عند الفلاسفة في كلية الآداب فهم الذين يلائمون بين القديم والجديد، وهم الذين يرجع إليهم في مثل هذه المشكلات.

أرأيت أن كلمة واحدة من هذا العنوان قد أثارت كل هذه الأبحاث التي أومأت إليها إيماء، فكيف بكلماته الأخرى إذا لوحظت مفرقة وإذا لوحظت مجموعة. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذا العنوان سيضمن لك شيئين: الأول انه إعلان سيعجب القراء ويروقهم، بل سيبهرهم ويروعهم، وسيدعوهم إلى شراء الكتاب والترويج له عند الأصحاب والأصدقاء. ولعله يروق في وزارة المعارف وأنت أعلم بما وراء ذلك من المنافع التي لا تحصى. والشيء الثاني أن هذا العنوان سيرسم لك برنامج الكتاب ويمكنك من تبويبه في غير مشقة ولا عسر. ولا تكلف نفسك تروية ولا تفكيراً، ولكن خذ كلمات هذا العنوان واجعل منها عنوانات لأبحاثك فسترى أن كتابك قد بوب بإذن الله. فليكن موضع الباب الأول إذن هو البحث عن كلمة الكتاب مما اشتقت، ومن أين أخذت، وما معانيها المختلفة الني دلت عليها في العصور المختلفة والبيئات المتباينة. ولا تخف أن يقال لك أن هذا استطراد وإطالة وتزيد في القول، فلولا الاستطراد والإطالة والتزيد في القول لذهب أكثر العلم أو أكثر الأدب على الأقل. ولك في الجاحظ أسوة حسنة فهو قد أطال في ذكر الكتاب حين أراد أن يؤلف في الحيوان.

وقد ألف أرسططاليس من قبله في هذا الموضوع فآثر الإيجاز واجتنب الاستطراد وكانت النتيجة أن الناس جميعا يقرءون كتاب الجاحظ وليس منهم من ينظر في كتاب أرسططاليس، لأن كتاب أرسططاليس علم وقد غير علم الحيوان، وكتاب الجاحظ أدب وقلما يتغير الأدب، ولاسيما حين يمتاز بالإطالة والاطراد. ونحن في كلية الآداب لا نبدأ دروس الأدب حتى نعلم الشبان علما كثيراً عن لفظ الأدب ومعانيه، فسر سيرتنا ولا بأس عليك. وإذا فرغت من هذه الأبحاث القيمة التي لا تتصل ولا يجب أن تتصل بالموضوع، فخذ بعد ذلك في بحث يكون صلة بينها وبين الموضوع وهو إضافة الكتاب إلى الإرشاد والصلة بينه وبين الجراد. وكيف تختلف الكتب باختلاف أصناف الناس، وكيف تختلف الكتب باختلاف أنواع الحيوان، لا من جهة موضعها وأسلوبها فحسب، بل من جهة أحجامها وقطعها أيضاً ومن جهة مادتها التي تطبع وتذاع فيها، ومن جهة الخط والحروف التي تستخدم في هذا الطبع؛ فأنواع الطبع تختلف باختلاف القراء في القدرة والذوق، وكذلك الأحجام، وكذلك مادة الورق والغلاف؛ ويجب أن يطرد هذا بالقياس إلى الحيوان وبالقياس إلى الجراد خاصة، وواضح جدا أن هذا سيذهب بك في ألوان من البحث الطريف الذي لم تسبق إليه؛ فإذافسرت آراءك ببعض الصور فثق بأنك ستحدث في عالم التأليف حدثا عظيما، وثق بأنك ستفتح للجنة الترجمة والتأليف والنشر أبوابا لن تتردد في ولوجها ولكنها لن تعرف كيف تخرج منها.

ثم دع هذا الباب إلى الباب الثاني واجعل عنوانه الإرشاد واسلك في هذا الباب مسلكك في الباب الاول، فاخضع لفظ الإرشاد ومعانيه لكل هذه التجارب التي أخضعت لها لفظ الكتاب ومعانيه، ثم ابحث عن إرشاد الجراد كيف يكون فاعقد فصلا تصور فيه مذهب الذين يرون أن الجراد يفهم بالعقل وبين كيف يكون إرشاده على هذا النحو، واعقد فصلا آخر تصور فيه رأي المحدثين الذي يرون أن الجراد يفهم بالفم والبطن وبين فيه كيف يكون إرشاد الجراد من طريق الأفواه والبطون. والناس كما تعلم يختلفون في هذا الموضوع، ومنهم من يرى أن تكتب أصول الفلسفة على أوراق الأشجار والنجوم والزرع التي يحبها الجراد ويميل إلى أكلها ويقولون أن الجراد إذا أكل هذه الأوراق المفلسفة فهم العلم ووعى الحكمة واصبح فيلسوفا بإذن الله.

ثم اجعل الكلمة الثالثة عنوانا للباب الثالث وهي إلى. ولابد من أن تبحث عن السبب في أن الإرشاد يتعدى بالى ولا يتعدى بغيرها من حروف الجر؛ ولم لا يقال كتاب الإرشاد لفلسفة أو بفلسفة أو في فلسفة أو من فلسفة أو عن فلسفة أو على فلسفة الجراد. وواضح أن كل حرف من هذه الأحرف سيحتاج إلى فصل مطول جدا وستجد في كتاب المغني لابن هشام ما يعينك على تحرير هذه الفصول. ولا تخف من هذه الإطالة فإنها هي التي ستنفعك وتروج كتابك عند أصدقائنا الأزهريين. ثم إذا أردت أن يروج كتابك عند الجامعيين وفي كلية الأدب خاصة فاحسن عنايتك بالباب الرابع وهو باب الفلسفة وهو اللب الأول للكتاب، لأن الأبواب التي سبقت كانت قشوراً ولكنها كانت قشورا لابد منها، فكل لب محتاج إلى قشر وإلا لما كان لبا. فابحث الآن عن الفلسفة وعن أصل لفظها وأحذر أن تقول إنه يوناني فقد يكون هذا مطابقاً للحق، ولكن الحق في هذه الأيام لا يغني عن البدع شيئا. والبدع في هذه الأيام إن تخرج الأشياء عن أصولها وتوضع في غير مواضعها وترد إلى غير مصادرها. والظاهر أن كلمة الفلسفة ترجع إلى أصل سأمي عربي، وما أشك في أنك ستجد في شعر قضاعة بيتا يثبت لك وللناس جميعا أن العرب قد عرفوا الفلسفة واستعملوا لفظها قبل أن يولد سقراط. ولابد أن تعرض معاني الفلسفة ومذاهب الفلاسفة في العصور المختلفة وتبحث عن أيها أدنى إلى الجراد، إلى عقله إن كنت من أنصار العقل، وإلى بطنه إن كنت من أنصار البطون. فإذا فرغت من هذا البحث الهائل المخيف وصلت إلى الباب الأخير الذي هو نتيجة النتائج وجوهر الجواهر وأصل الأصول وفصل الفصول وخلاصة الكتاب ولب الألباب وهو باب الجراد الذي وجه إليه الإرشاد.

وهذا الباب معقد بطبعه فلابد من أن تبحث عن لفظ الجراد من أين جاء والى أين انتهى، ولابد من أن تبحث عن منزلة الجراد بين أنواع الحيوان، ولابد من أن تبحث عن محاسنه وعيوبه، ثم لا بد من أن تبحث عن عقله وما يكونه من الملكات وعن بطنه وما يمتاز به من الخصال في الاستيعاب والهضم وتصريف العلم والفلسفة إلى أجزاء الجسم وأطرافه والوصول آخر الأمر إلى أن يسير الجراد سيرة فلسفية صالحة. فإذاوصلت إلى هذا الموضع من كتابك وخيل إليك أنك قد انتهيت به إلى غايته وأفدت العلم فائدة محققة تمكنك من نيل الدكتوراه من كلية الآداب فعد إلى منهج ديكارت وألغ هذا الذي كتبته كله إلغاء، وافترض انك لم تكتب شيئا ولم تعلم شيئا واستأنف التحدث من جديد فسترى أنك قد أضعت وقتك في غير نفع، وأنفقت جهدك في غير طائل، واستهلكت راحتك وورقك وحبرك وأقلامك في غير غناء، لأن الجراد ليس في حاجة إلى أن يتعلم الفلسفة الإنسانية الآن، فقد تعلمها منذ عهد بعيد؛ فهو أن كان ناهبا سالبا ومغيراً محاربا فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وهل زاد الإنسان على أنه حيوان قوام حياته السلب والنهب والحرب؟ وهو إن كان خفيفا سريعا متنقلا لا يستقر على حال من القلق فقد أخذ ذلك عن الإنسان. وما أظن أنك تستطيع أن تلقى جرادة تجهل قول الشاعر القديم:

تنقل فلذات الهوى في التنقل

وهو إن كان مفتنا في الخفة والتنقل فقد أخذ هذا الافتنان عن الإنسان، لأنه يراقب الحضارة وتطورها، ويراقب المبادئ وتلونها، ويراقب اضطراب الناس في آرائهم وأهوائهم ومذاهبهم ومبادئهم، ويراقب الضمائر التي تباع، والعقول التي تمتهن، والحريات التي تزدرى، والأصول التي تتخذ تجارة ووسيلة إلى الربح وتحقيق المنافع الدنيئة. وقد هم الجراد أن يقلد الإنسان في هذا فأدركته بقية من عقله أو من بطنه الذي تستقر فيه الفلسفة وامتنعت به عن أن ينحط إلى هذه القرارة الحقيرة الموبوءة التي انحط إليها الإنسان الحديث، فظل حيث هو يغير كريما ليأكل من ثمرات الأرض ما يستطيع أن يصل إليه، ويعود كريما أن استطاع العودة أو يموت كريما بما يسلط عليه الإنسان من ألوان البأس وضروب الفناء. وأنت حين تصل إلى هذه النتيجة بين اثنتين: فإن كنت من أنصار الفساد وعشاق الانحطاط الذين يرون أن الإنسان قد وصل في هذا العصر إلى أرقى أطوار الحضارة فاستأنف العمل لتبحث عن طريق تهدي بها الجراد إلى تقليد الإنسان في الانحدار إلى هذه القرارة، وإن كنت من المحافظين الذين يكرهون التطور الحديث ويمقتون نتائجه فادع الإنسان إلى أن يتعلم فلسفة الجراد وضع في هذا كتابا اسمه: (التبيان عن تجرد الإنسان) والتجرد هنا مشتق بالطبع من الجراد. وتقبل أيها الصديق العزيز المجهول اخلص تحياتي

طه حسين