انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 201/شاعر الإسلام محمد عاكف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 201/شاعر الإسلام محمد عاكف

مجلة الرسالة - العدد 201
شاعر الإسلام محمد عاكف
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1937



للدكتور عبد الوهاب عزام

تتمة

عرف قراءة الرسالة الموضوعات التي عالجها الشاعر الكبير في ديوانه (الصفحات) كما عرفوا من قبل مثلا من شعره. واليوم أقدم لهم مثالاً من شعره الاجتماعي الذي يصور فيه الواقعات الصغيرة والحادثات الجارية التي لا يأبه لها الناس كثيرا، وهي قطعة من الجزء الأول من الصفحات.

وينبغي أن يذكر القارئ ما ينال الشعر حين يترجم منثوراً فيفقد كثيراً من روعته، ولاسيما نظم عاكف الذي يذهب مثلا في انسجامه وقدرته على تذليل كل موضوع أبي وكل معنى شامس.

كان أنصاره وخصومه مجمعين على أنه أوتى في النظم قدرة تأبى على المحاكاة. وكان دعاة الأوزان التركية وأعداء العروض العربي يقولون لا يهزم هذا العروض حتى يقتل محمد عاكف فهو حجة دامغة تفحم كل معارض. وما ظنك برجل يصف مصارعة فينطق الشعر بحركات المصارعين وأقوالهم في بيان سلس ونظام لا شية فيه من التكلف

السفط

قبل خمسة عشر يوماً غدوت على عادتي من داري مبكراً ومحلتنا في أطراف استانبول فليس يستطيع السير في أزقتها إلا من يحسن السباحة، ما تزال تعترض سبيله بحيرة مائجة بعد أخرى. فإذا أظلم الليل فليس إلا الصبر على اللأواء، واحتمال ما يرمي به القضاء. لابد من قنديل في إحدى اليدين واسقنديل في الأخرى. هذه سبيل النجاة لا سبيل سواها

وكانت في يدي هراوة أتحسس بها الطريق إن أصابت جزيرة وقفت، وإن لقيت بحراً وثبت.

ويأوي دليلي الأمين إلى أطناف الدور العتيقة المتداعية ويلوذ بجدرانها فيصدم شيئاً ضخماً. نظرت فإذا سفط كبير قديم. قلت سفط حمال. لمن هذا ليت شعري؟ ويقبل غلام في الثالثة عشرة عامداً إلى السفط بعصا غليظة، فمازال يرفع عصاه جاهداً ويهوي بها حرداً حتى تدحرج السفط خائراً منهوكاً

- (قد مات أبي تحتك وأنت لا تزال في وسط الزقاق جاثماً متعجرفاً)!! وبرزت من دار أمامنا امرأة نّصَف:

- ويلك يا بنيَّ! هلمَّ اليّ، كفّ. إياك أن تحطمه. مالك وللسفط يا بني؟ إنه أخرس لا فم له ولا لسان. لقد ارتفق به أبوك سنين ثمانيا، وكان يقول إنه سفط مبارك، قلما بقيت تحته بغير حمل. وقد ذهب أبوك فهو اليوم كاليتيم. وستعول به أمك وأخاك. أطفل أنت؟ ألا تعرف ما عليك؟

قلت: - استمع يا بني إلى أمك

فصاح الصبي متجهماً: -

(يا ذا اللحية ألا عمل لك؟ اذهب من هنا إلى جهنم. اذهب ما وقوفك هنا هاذيا في هذه الغداة؟ إن قلبي يشتعل. قد ذهب أب لي كالجبل

- ماذا تبغي الآن من رجل في مقام أبيك؟ اسمع يا بني. .

- دعيه يا سيدتي إنه طفل، أنا لا أبالي ما يقول.

- ما اسمك يا بني؟

- حسن

- أصغ يا حسن. إنك ستضير نفسك فهذه الحدة. لقد احترق قلبي يا بني حين عرف مصيبتك، ولكن أباك قد أوصى إليك وذهب. فانظر كيف جاهد هذه السنين الطوال ورباك بعرق جبينه! وكذلك عليك ألا تترك أخاك يتيما. عليك أن تربيه.

- بالسفط؟ أكذلك؟

- نعم نعم. ما هذا الكلام يا بني؟ أعار أن تعمل؟ ثم أن تحمل الأعباء؟ إنما العار الاستجداء، إنما العار أن تسأل الناس ولك يد ورجل

- ما أصدق ما قال عمك يا ولدي. قبل يا بني يد عمك.

- أنسيت سريعاً ما قالته امرأة جارنا؟ ألم تقل: (يا حسن خالي ضابط في إحدى المدارس. ولو كلمناه مرة لأخذك إلى المدرسة. انتظر سأكلمه) فلا تعلميني أنت واجعليني في هذه السن حمّالا!!

عرفت أن الحديث طويل وأنه سيزداد طولا وكانت مشاغلي كثيرة ذلك اليوم فتركتهما.

ليت شعري ما خطب حسن المسكين اليوم؟

لي بنية عرمة لا تستقر في الدار. خرجت بها إلى الفاتح، بعد العصر بقليل. فبينا ندخل من باب الفحامين راق البنية منظر الجمل، تعجب من هذا البدن المعوج، وذلك العنق المفرط في الطول. وهذه الأرجل، وهذا الذيل المعلق من خلفه - هذا الذيل أليس هذا كله عجيبا؟

التفت ورائي فإذا على خطوات منا شيخ ربعة، وضاء الوجه مشرق السيما. قد لف على وسطه شالا، وعلى رأسه يابانية، وبجانبه صبي ينوء تحت سفط كبير. أقبلا يمشيان الهوينى. فوا عجبا! هذا هو الصبي الذي رأيته ذلك الصباح. . أي مرأى! مرأى يذيب القلب ويذهب باللب: رجلان هزيلتان عاريتان إلى الركبتين، وبدن يرعد تحت ثوب رقيق يكاد ينجمد من البرد. وقدم حافية، ورأس حاسر. لم تكن نفسا هذه اللهثات ولكن أنينا مديدً، ولم تكن نظراً هذه اللمحات ولكن بكاء شديداً، يا له بؤساً حافياً حاسرا. وإنه لحسرة ذلك الجبين المجعد في الثالثة عشرة.

ويخرج من المدرسة الرشدية أفواج من الطلبة قد انتظموا صفوفا، وساروا قليلاً ثم وقفوا. ما أقسى هذا المنظر على قلب حسن التعيس! أجل غلمان تفيض منهم نغمات النعمة والشباب يطير كل منهم إلى عشه السعيد. وسيفرغون للعب عما قليل، هؤلاء سعداء، وأما حسن فسيحمل أبدا على كتف الفاقة هذا السفط المشئوم الذي ورثه عن أبيه - السفط الذي أراد أن يحطمه حين بصر به في طريقه.

ليس هذا حملا ولكنه عقاب القدر لهذا البريء

وا حسرتاه، ما ذنبه، ما ذنب هذا المعاقب الذي لا يدري ما ذنبه؟

عبد الوهاب عزام