مجلة الرسالة/العدد 201/جلسة عائلية
مجلة الرسالة/العدد 201/جلسة عائلية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(عمي.!)
فلم أجب، ولم ألتفت، فكأن النداء كان لغيري، ومضيت في كلامي مع صاحبتي، وكان الهواء طول النهار راكداً، والحر شديداً، ثم بدأ الجو يطيب، والجلسة تحسن، في هذه الصحراء النائية التي لم يكن يخطر لي أن يهجم علي أحد فيها من أهلي.
(عمي. . .)
فأبيت أن أشعر أن النداء لي؛ فقالت صاحبتي: (ألا تسمع؟)
ولم يكن ثم شك في أني أنا العم المقصود، فقلت: (سامع، وفاهم. . .)
(عمي. أنت هنا؟ من الصبح أناديك)
فوقفت - فما بقي من هذا بد - والتفت إلى الصغيرة التي بح صوتها وقلت: (هل سمعتك تنادين عمك؟)
قالت: (طبعاً. . لي نصف ساعة وأنا أفعل ذلك)
قلت: (هل تريدين مني أن أبحث لك عنه؟. . أناديه معك؟ إن صوتي مع الأسف خافت. خفيف جدا. . . لا يذهب إلى أكثر من متر. يصلح للهمس فقط. في الأذن) فضحكت الصغيرة وقالت: (ماذا تقول يا عمي؟ لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (عمك؟ أنا؟ أنا عمك؟).
قالت: (بالطبع. . ألا أعرف عمي؟) وضحكت.
قلت: (واثقة؟).
قالت: وهي لا تزال تضحك وقد راقها كلامي: (جدا).
قلت: (ولا شك عندك)؟
قالت: (أبدا).
قلت: (ولا رغبة في الشك؟)
قالت: (كلا).
قلت: (يعني أن لي أخا أنت بنته فأنا عمك؟) قالت: (آه).
قلت: (بهذه السهولة؟ بلا تردد أو مناقشة أو بحث؟. وا أسفاه!. ألحق أن روح البحث العلمي ينقص الجيل الجديد)
قالت: (ماذا تعني؟)
قلت: (يا بنت أخي - أظن أنه لاشك عندك في هذا - إن الذي أعنيه هو أن المسألة تحتاج إلى تمحيص قليل، وأن التسليم بهذه السهولة ليس من أخلاق العلماء. تفضلي واجلسي فإن الجلوس أعون على البحث السديد).
فجلست وطلبت لها شيئاً من عصير البرتقال، فهو خير ما يشرب في هذا المكان وفي مثل ذلك الجو وعرفتها بصاحبتي ثم قلت لها:
(نعود الآن إلى عمك)
فقالت: (ما له؟)
قلت: (لاشيء به. كان الله في عونه. هل تعرفين ابن الرومي؟)
فابتسمت صاحبتي وقالت الصغيرة (ابن الـ؟ ابن إيه؟)
قلت: (مسكين ابن الرومي!. ألم تسمعي به قط؟)
قالت: (لا. . أبداً. . أين هذا؟)
قلت: (مات من زمان).
قالت: (وكيف أعرفه وقد مات من زمان؟)
قلت: (صدقت، الذي يموت لا يعرفه أحد، يكون ذنبه على جنبه. خازوق!)
قالت: (ما هو؟)
قلت: (أن يموت. . أ. . أ. . إن ابن الرومي مات)
وقالت صاحبتي: (دع الموت والموتى بالله. حسبك الأحياء فأركبهم بما شئت من هزلك)
وقالت الصغيرة: (من هو ابن الرومي يا عمي؟. إني أراك تعطف عليه)
قلت: (صحيح. . مسكين،. ابن الرومي هذا يا ستي كان رجلا له لحية. . كان ينبغي أن يظل وجهه أمرد، أملس ناعما فقد كان جميلا في صباه، ولكنه كان مع الأسف رجلا، والرجال مصابون باللحى. . آه لو كانت اللحى تنبت للنساء! ولكن الله أعفاكن من هذا البلاء. . ومن حسن حظ ابن الرومي - أو من سوء حظه، لا أدري - أن الناس في زمانه كانوا لا يحلقون لحاهم كل يوم كما نفعل نحن تقليداً لكن يا بنات حواء. . غريب! ينفر الرجال من مظاهر الرجولة ويدأبون على محوها كل يوم!. . . ولا نرى المرأة تحاول أن تكون لها لحية كالرجل!. . لا تخافا فلست أنوي أن ألقي محاضرة عليكما، ولكنه يخطر لي الآن أن من غير المقبول من الرجل أن يتجّمل ويحاكي المرأة ويحاول منافستها في مزيتها فهل هذا يا ترى تخنث منه؟ أم هو من الرغبة في أن يتسلح للنضال بكل سلاح؟. . ما علينا!. . فلنرجع إلى ابن الرومي: كان هذا يا ستي ذا لحية خفيفة قليلة الشعرات، ولكنها لحية على كل حال؛ وكان يأسف لأن (السيفتي ريزور) - آلة الحلاقة الحديثة - لم تكن قد اخترعت في زمانه. .)
فقالت الصغيرة محتجة: (يا عمي ما هذا الكلام؟. . كيف يمكن أن يأسف على شيء لم يكن يعرف أنه سيكون؟)
قلت: (والله ذكية يا ملعونة!. . نهايته. . الحق معك. . فهل الأصح أن أقول إنه لم يكن يأسف على عدم اختراع السيفتي ريزور؟. . سيان؟. . هيه؟. وكان يا ستي يخاف من البرد جداً، فكان إذا دخل الحمام - أعني إذا أراد أن يستحم - يوقد فيه النار ليضمن لنفسه الدفء حين يكون فيه ويملاْ الطشت بالماء الساخن، ويعد الليف والصابون النابلسي الجيد - أم ترى هذا لم يكن معروفاً؟. . لا بأس - ويطلق البخور ثم يدخل متوكلاً على الله، متوسلاً إليه تعالى أن يحرسه في الحمام، وأن يخرجه منه بخير وسلام. .)
فقالت الصغيرة: (أكان يخاف إلى هذا الحد؟. . لماذا؟ مما كان يخاف؟)
قلت: (أوه، لا أدري!. يظهر أن كلباً كلباً - مسعوراً - عضه في طفولته ولم يشف قط، أو لم يشف تماماً. . كووه بالنار أو لا أدري ماذا فعلوا به. . ولكنه لم يشف)
فقاطعتني سائلة: (صحيح يا عمي؟. . مسكين!)
قلت: (لا أدري. . هذا تخمين. . وإلا فلماذا كان يخاف من الماء كل هذا الخوف حتى ليقول:
وأيسرُ إشفاقي من الماء أنني ... أمرُّ في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب؟ فقالت صاحبتي: (يا شيخ حرام عليك!. . اتق الله!. . لا تصدقيه)
فتلفتت الصغيرة منها إليَّ، ثم قالت بعد تردد: (هل كان شاعراً؟)
قلت: (لا. . لم يكن شاعراً. . وإنما كان يغني في الحمام فيخرج الكلام موزوناً وهو لا يدرى. . ولكن الناس لا يتركون أحداً مرتاحاً. . ويظهر أن بعضهم كان يسترق السمع وراء باب الحمام، ويقيد كل ما يسمعه من ابن الرومي وهو يغني نفسه ويتسلى في الحمام. ثم جمع كل ما سمعه، ودفعه إلى الناس وقال هذا شعر ابن الرومي.، الناس ملاعين. . أشقياء. . لا يدعون أحداً مرتاحاً. . الرجل كان يسلي نفسه في الحمام فمالهم هم؟. . إيه!. . هكذا الناس يحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم. . فضول ورزالة. . نهايته. . وكان مما يغني به وهو ينظر في المرآة إلى لحيته، ويمشط شعراتها القليلة ويفتل أطرافها لتكون كالقلم الرصاص المبري هذا البيت:
أصبحت شيخاً له سَمْتٌ وأبهة ... يدعونني الغيد عماً - تارة - وأبا
كان يتحسر على شبابه، ويأسف لأنه صار ذا لحية. . ويظهر أن الغيد الحسان من أمثالكن يغلطن فتارة يقلن له يا عمي، وطوراً يقلن له يا أبي. . غريب ألا يعرفن أهو أب لهن أم عم؟. . ولكنك أنت لا تغلطين. . أنا عمك فقط. . متأكدة أني لست أباك أحياناً؟)
فقالت صاحبتي: (أعوذ بالله منك!)
وقالت الصغيرة: (متأكدة جداً. . عمي بالطبع. كيف يمكن أن تكون أبي؟)
قلت: (معقول ألا تغلطي. . لسببين: الأول أني لا أرسل لحيتي كما كان ابن الرومي مضطراً أن يفعل لأن الله خلق السيفتي ريزور في زماني والحمد له، أعني لله، بالطبع، لا للموسى؛ والثاني أن أباك المحترم مقبل علينا يتهادى في مشيته. . أحسبه يفخر بأن له بنتاً مثلك. . له الحق!)
وجاء الأخ الفاضل وقمت بواجب التعريف الذي لا مهرب منه، واتضح لي - بعد أن تجشمت عناء القيام بهذا الواجب أنه كان يسعني أن أريح نفسي، فقد سبق لأخي أن عرف صاحبتي في بيتنا.
وجلسوا. وجلست وأنا أتنهد وأنظر إلى صاحبتي وأقول:
(معذرة. ليس هذا ذنبي. وأنت ذكية، وتستطيعين أن تدركي بسهولة أنه لا مهرب من الأهل. لقد جئنا إلى آخر الدنيا من ناحية الشرق، ولو أنصف الزمان لذهب أخي الفاضل إلى آخر الدنيا من ناحية الغرب مثلا، أو الجنوب أو الشمال؛ ثلاث جهات كان يمكنه أن يذهب إليها، ولكن جاذبية الدم تصرفه عن الجهات الثلاث وتدفعه إلى هذه الجهة فيدركنا ويملأ علينا الدنيا، ويشعرنا بأنها في الحقيقة أصغر مما كنا نظنها. ويؤنسنا طبعاً. أظن أن في وسعنا أن نغتفر له هذا من أجل بنته، من أجل عينيها اللتين وقعتا علي بسرعة البرق، نصفح عن أبيها ونرحب به. تعال يا جرسون والأمر لله. وحسبي الله)
إبراهيم عبد القادر المازني