انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 200/ندرة البطولة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 200/ندرة البطولة

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937



للأستاذ أحمد أمين

قالوا - إنا نتلفت يمنة ويسرة فلا نجد في عصرنا بطولة من جنس بطولة العصور الماضية، ولا نجد نبوغا رائعاً قوياً كنبوغ من نبغ في الأجيال السابقة. فتش - إذا شئت - في كل لون من ألوان البطولة، وفي كل ناحية من نواحي النبوغ تجد هذه الحقيقة واضحة

فهل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟

وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وعمر بن مسعدة؟

وهل تجد في قيادة الحروب أمثال خالد بن الوليد وأبي عبيدة؟

وهل تجد في سياسة الأمم أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز؟

وهل تجد في الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟

وهل تجد مؤلفاً في الأغاني كأبي الفرج الأصفهاني؟

وما لنا نذهب بعيداً ويوم فقدنا السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده لم نجد عوضاً عنهما في العلم بالدين والأخلاق والسياسة؟

ويوم فقدنا البارودي وحافظاً وشوقي لم نجد لهم خلفاً في شعرائنا

ويوم فقدنا عبده الحمولي ومحمد عثمان نتبلغ من الغناء بالقليل

ويوم فقدنا الشيخ علي يوسف لم نر من يسد مسده في الصحافة

ومن الغريب أنهم يشكون في أوروبا شكايتنا، ويلاحظون عندهم ملاحظتنا، فيقولون أن ليس عندهم في حاضرهم أمثال فجنر وبيتهوفن، ولا أمثال شكسبير وجوته، ولا أمثال رفائيل ولا أمثال دارون وسبنسر، ولا أمثال نابليون وبسمارك

فهل هذه ظاهرة صحيحة؟ وان كانت فما سببها؟

قد كانت كل الظواهر تدل على إن الجيل الحاضر أحسن استعداداً وأكثر ملائمة لكثرة النبوغ وازدياد البطولة، فقد كثر العلم وسهل التعلم، ومهدت كل الوسائل للتربية والتثقيف، وكثر عدد المتعلمين في كل أمة، وفتح المجال أمام النساء كما فتح أمام الرجال، فأصبحت وسائل النبوغ ممهدة للجنسين على السواء، وتقطر العلم إلى العامة فأصبحوا يشاطرون العلماء بعض معلوماتهم، وانتشرت الصحف والمجلات تغذي جمهور الناس بالعلم والأدب، وأتصل العالم بعضه ببعض اتصالاً وثيقاً في المواصلات والعلم والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك

كل هذا يجب أن يكون إرهاصاً لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لقلة النبوغ وندرة البطولة؛ فلم أصيبت الأمم كلها بهذا العقم وكان مقتضى الظاهر أن كثرة المواليد تزيد في كثرة النابغين، وكان مقتضى الظاهر أيضاً أن عصر النور يلد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يلد عصر الظلام

يظهر مع الأسف - إن الظاهرة صحيحة وإن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيراً من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو (طابع المألوف والمعتاد) لا (طابع النابغة والبطل)

بقي علينا معرفة السبب في ذلك

من الأسباب القوية على ما يظهر أن الناس علا مثلهم الأعلى في النابغة والبطل، فلا يسمون بطلاً أو نابغة إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق؛ وهذا طبيعي، فكلما رقى الناس ارتقى مثلهم الأعلى

قد كنا إلى عهد قريب نعد من يقرأ ويكتب، وبعبارة أخرى (من يفك الخط) رجلاً ممتازاً لأنه نادر وقليل، فكان ينظر إليه نظرة تجلةً واحترام؛ فلما كثر التعليم بعض الشيء كان من أخذ الشهادة الابتدائية شاباً ممتازاً؛ فلما كثرت انتقل الامتياز إلى البكالوريا، ثم إلى الشهادة العليا، ثم إلى شهادات جامعات أوروبا، ثم أصبحت هذه أيضاً ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله

والناس - على جملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟

ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضاً وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضاً يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلاً عادياً أو ممتازاً بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهاراً لتحقيق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس

قد تضرب لي اليوم مثلاً بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جداً، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعوب لا سادة لهم، وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفضون يدهم عنه. فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟ ولهذا نرى كلاً من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على إنه عامل لخيره ساع في سعادته لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شان البطولة

ولهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب جعلت النبوغ عسيراً لا سهلاً يسيراً

ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمخرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ؛ من أمثال من كانوا يسمونهم (الأولياء) فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال؛ وأحياناً يلقبوهم (بالأقطاب) فلما فتح الناس عيونهم، وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرفة حل محلها مقياس المنفعة وسار الناس في طريق التقدير الصحيح وهو الاحترام والتبجيل على قدر ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي

ومن أجل هذا أيضاً رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية، فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل، لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته، (ومتى ظهر السبب بطل العجب) ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة على من كانوا يسمون الأبطال، فأحياناً يؤديهم البحث إلى إنكار بطولة بعض الأشخاص بتاتا، وأحيانا يقللون من قيمة البطل، بل وأحياناً يرون بطلاً من أنكر الناس قديماً بطولته

ذلك لأن مقاييس البطولة تغيرت وأصبحت عند المحدثين خيراً منها عند الأقدمين، ولأن المحدثين رأوا أن القدم نسج لكثير من الناس أثواباً من البطولة لم تكن موجودة أيام حياتهم، وكلما تقدم الزمن منحهم الناس شارة بطولة جديدة - فلما عرض هذا كله للنقد وأزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم تبين البطل في صورته الحقيقية أو قريباً من صورته الحقيقية، فأحياناً يرتفع الستار عن لا بطل، وأحياناً يرتفع عن بطل، ولكن دون ما كان يقدره القدماء؛ ونادراً ما يبقى البطل بطلاً كبيراً حتى بعدما ترتفع حجب القدم

ولهذا نجد كثيراً من المعاصرين هم في الحقيقة نوابغ، وهم يفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولو كانوا في العصور الماضية لارتفعت منزلتهم فوق ما ارتفعت اليوم، ولكن لم نمنحهم نحن لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها قبل من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ، ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، وذلك يقلل من تقديره، ولأنه معاصر والمعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ

وقد يتصل بهذا إن كثرة النبوغ تصنيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن - في القانون - في الأدب - في الطبيعة - في الكيمياء - في الرسم - في التصوير. فلما كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من العسير أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ؛ ومن العسير أيضاً أن تسميهم كلهم نوابغ، لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ. وعلى العكس من ذلك الأمم المنحطة. لما لم يوجد فيها إلا قانوني واحد أو أديب واحد أو موسيقي واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ.

ثم إن الديمقراطية التي سادت الناس في العصور الأخيرة ونادت بالمساواة وألحت في الطلب أوجدت في الشعوب حالة نفسية كان لها أثرها في موضوعنا إذ أصبح الناس لا يؤمنون بتفوق كبير، لا في المال فهم يريدون الاشتراكية، ولا في السياسة فقد يتبوأ الحكم حزب العمال فيدير الأمور كما يديرها الأرستقراطيون في السياسة بل أحسن منهم

فدعتهم هذه الحالة النفيسة إلى أن يكفروا بالتفوق أو بعبارة أخرى يكفرون بالنبوغ؛ وبعيد أن يعترف بنبوغ في جو يكفر به - لقد كان الناس قبل أكثر إيماناً بالفروق في المال والكفاية والعلم فكان هذا الإيمان وسيلة صالحة لظهور النبوغ، فلما جحدوا كل شيء كان النبوغ مما جحدوا

وأخيراً كان من أثر هذه الديمقراطية تعميم التعليم، والبحث في خير الوسائل لنشر العلم، فقامت النظريات المختلفة في التربية والتعليم وأصبح العلم شعبياً بعد أن كان أرستقراطياً

واستخدمت الوسائل المختلفة لتبسيط العلم وتحببه إلى النفوس، وغيرت نظم المدارس، فأنشئت رياض الأطفال مكان الكتاتيب، والمدارس الناعمة بدل المدارس الخشنة، واخترعت البيداجوجيا وسائل لتسهيل الدرس وإيصاله إلى الذهن من أقرب طريق

كان من نتيجة ذلك كثرة المتعلمين وقلة النابغين، واتساع البحر وقلة عمقه، وذلك لأن من كان يتفوق في الماضي كان يصادف عقبات لا حد لعددها ولا حد لصعوبتها، فكان من الطبيعي ألا يجتازها إلا الأقلّون، ولكن من يجتازها تكون لديه الحصانة الطبيعية ويكون قد تعود اجتياز العقبات واحتمل مشقة السير، فكان ذلك سبب النبوغ من ناحيتين، من ناحية قلة من يجتاز العقبات ومن ناحية من يجتازها

أما وقد أصبح التعليم معبداً ميسراً فقد زاد عدد المتعلمين وقل النابغون وأصبح الفرق بين العهدين كبذرة تربى في حديقة بستان وبذرة تنبت في الجبال حيث الرياح العاصفة والشمس المحرقة والمطر الذي لا نظام له. فأين نبت البستان من نبت الجبال، وأين الحيوان المستأنس من الحيوان المستوحش؟

وبعد، فما أحق هذا الموضوع بالدرس، وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة.

أحمد أمين