مجلة الرسالة/العدد 200/القاهرة المعزية
مجلة الرسالة/العدد 200/القاهرة المعزية
ووجوب الاحتفاء بعيدها الألفي
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
تقترب القاهرة المعزية من عيدها الألفي دون أنن يثير ذلك في دوائرنا الرسمية أو الأدبية كبير صدى؛ ومن الغريب أن بعض الأجانب الوافدين الذين يكتبون عن بلادنا الفصول والملاحظات الطائرة لم يفتهم أن ينوهوا فيما يكتبونه عن القاهرة بأنها مدينة ألفية، وأنها موطن الجامعة الألفية الوحيدة في العالم؛ ذلك أن هذه الحقيقة التاريخية تشير حقاً أعظم اهتمام من كل أولئك الذين يضطرمون إعجاباً بعظمة التراث الحافل، ويحنون رؤوسهم إجلالاً لروعة التاريخ
وإذا كانت القاهرة ليست هي المدينة الألفية الوحيدة بين حواضر العالم القديم، وإذا كانت أثينة ورومة والإسكندرية وقسطنطينية تشاطرها هذا الفخر وتفوقها في مداه، بل تشاطرها هذا الفخر حواضر إسلامية أخرى مثل بيت المقدس، ودمشق، وبغداد، فإنها مع ذلك تمتاز على هذه الحواضر جميعاً بأنها تمثل أروع عصور التاريخ جنباً إلى جنب؛ فالآثار الفرعونية الباهرة التي تغيض فيما وراء القرون تشرف عليها مجللة بروعة الخلود، وآثار العصور الإسلامية المختلفة تنبث في جنباتها وتسبغ عليها لوناً إسلامياً عميقاً وتزينها بكل ما ازدانت به هذه العصور المجيدة من فن وروعة وبذخ؛ ثم إن بشائر العصر الحديث وإمارات الحضر الناضج، وكل ألوان الحضارة المعاصرة بما فيها من تطور وتجديد وابتكار، تطبعها بطابعها القوي، فهي من هذه الناحية من أجمل واحدث العواصم القديمة، بل هي تفوق من هذه الناحية عواصم العالم القديم: رومة وأثينة وقسطنطينية، ومع ذلك فإن هذا التجدد السريع لم يجردها من جلالها القديم، ولم يخلع عنها تلك الروعة التي يسبغها تعاقب الأحقاب على الحواضر التالدة
وفي وسع القاهرة أن تتيه على عواصم العالم القديم كلها بتراثها الأثري والفني الباهر؛ ذلك أنها فضلاً عما يحتويه متحفها الفرعوني الشهير من الكنوز الرائعة التي لا تضارعها أ كنوز أثرية أخرى، تحتفظ بأعظم مجموعة من آثار العصور الوسطى يمكن أن تفخر بها مدينة عظيمة ومنها آثار المدينة الألفية القديمة التي مازالت ماثلة إلى يومنا
والقاهرة ليست مدينة عظيمة فقط، وإنما هي كباقي حواضر العالم القديم عنوان حضارة ومجمع تاريخ؛ وتاريخ الأمصار العظيمة من أهم النواحي في تاريخ الحضارات والدول، ولاسيما في العصور الوسطى، حينما كانت حياة المدينة ترتبط أشد الارتباط بمصاير حضارة أو دولة معينة. وإذا كان تاريخ أثينة والمجتمع الأثيني يعني تاريخ اليونان القديم دولة وحضارة، وإذا كان تاريخ رومة ومجتمعاتها في عصور الجمهورية والإمبراطورية، هو تاريخ الرومان والحضارة الرومانية، وإذا كان تاريخ قسطنطينية في العصور الوسطى، هو تاريخ الدولة البيزنطية وحضارتها، فإن تاريخ القاهرة وتاريخ أسرها الملوكية ومجتمعاتها الرسمية والشعبية هو تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ حضارتها في العصور الوسطى
ولا ريب أن العيد الألفي لمصر من الأمصار التالدة أو منشأة من المنشآت الجليلة هو من الحوادث القومية العظيمة التي يحق للأمم أن تفخر بها وتعتز؛ ذلك أن هذه الأعياد الألفية ليست من الأحداث العادية في تواريخ الأمم، بل هي بالعكس أحداث فريدة نادرة، ومثلوها في تاريخ أمة من الأمم دليل على عراقة هذه الأمة في ماضيها وحضارتها ودليل على ما تمتاز به من الحيوية والصفات الأزلية؛ ومصر أمة أزلية بلا ريب، وهي من هذه الوجهة تستطيع أن تتيه على لمم الأرض جميعاً بما حباها الله به من صفات الأزلية والخلود التي ترجع بها إلى ما قبل عصور التاريخ؛ وتتخذ الأمم العظيمة من الإشادة بهذه الذكريات والخواص الأزلية وسيلة للدعاية، وتحيطها بأعظم مظاهر التكريم، وتتبع في ذلك سياسة ثابتة تقوم على تنفيذها هيئات خاصة يقظة لكل ما يجد من هذه المناسبات؛ وقد تضع هذه الهيئات برامجها وتبدأ استعداداتها للاحتفاء بإحدى الذكريات القومية العظيمة قبل وقوعها بأعوام عديدة، فإذا حل موعد الذكرى كانت الاحتفالات العظيمة والمهرجانات الباذخة والمظاهرات القومية الرائعة التي تحج إليها الوفود من كل صوب، والتي تتخذ وسيلة للدعاية الواسعة في سائر الأقطار الأخرى
ولنن يمض سوى القليل حتى تواجه مصر عيدين من أجل الأعياد القومية: هما العيد الألفي لقيام القاهرة المعزية، والعيد الألفي للجامع الأزهر؛ فماذا فعلت دوائرنا الرسمية والعلمية للاحتفاء بهذين الحادثين العظيمين؛ أكبر الظن أنه لم تتخذ حتى الآن أية خطة رسمية مقررة في هذا الشأن سوى ما رددته مشيخة الأزهر منذ ثلاثة أعوام في شأن الاحتفال بعيد الأزهر، ثم انقطع صداه بعد حين؛ وأكبر الظن أنه سيمضي حين آخر قبل أن توضع برامج أو تتقرر اعتمادات أو تتخذ أهبات في هذا السبيل؛ فإذا وفقت الجهات المختصة إلى اتخاذ أية خطوة عملية كان ذلك بعد فوات الوقت أو في آخر لحظة، وعندئذ يجيء الاحتفال خلواً من الروعة التي يجب أن تحاط بها مثل هذه المناسبات
والواقع أن ما تبقى من الوقت بيننا وبين هذين العيدين الجليلين لا يكاد يكفي لاتخاذ أهبات غير عادية؛ فليس بيننا وبين عيد القاهرة الألفي الذي يقع في شعبان سنة 1358 سوى ثلاثين شهراً؛ ويقع العيد الألفي للأزهر بعد ذلك بعدة أشهر في جمادى الأولى سنة 1359؛ بيد أنه مازال ثمة متسع من الوقت يكفي للعمل الجدي المتواصل في سبيل تنظيم الاحتفاء القومي بهذين العيدين في نوع من الفخامة والجلال
ولقد كانت القاهرة المعزية منشأة فاطمية، نمت وترعرعت في كنف الدولة الفاطمية الباذخة، وشهدت في ظلها ألواناً ساحرة من الفخامة والبذخ والبهاء، يقصها عليك المؤرخون المعاصرون مثل المسبحي وابن الطوير وابن المأمون؛ وكان الأزهر غرس الدولة الفاطمية اليانع، بل كان أينع ما غرست دولة إسلامية، وأعظمه قدراً، وأبعده أثراً، وأبقاه على كر العصور؛ ولقد قامت الخلافة الفاطمية بمصر بعد قيام القاهرة والجامع الأزهر بقليل، في رمضان سنة 362هـ (يونية سنة 973م) حينما قدم المعز للدين الله أول الخلفاء الفاطميين بأهله وماله إلى القاهرة عاصمته الجديدة؛ ففي أعوام قلائل يكون قد مضى ألف عام على قيام الخلافة الفاطمية بمصر، وقد كانت هي الخلافة الإسلامية المستقلة الوحيدة التي قامت بمصر الإسلامية، وعاشت في ظلها أكثر من قرنين
أفلا يجمل أيضاً أن نحتفي بذكرى الخلافة الفاطمية منشئة القاهرة والجامع الأزهر لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بمصر؟
إن ذكرى الخلافة الفاطمية ترتبط أشد الارتباط بذكرى القاهرة والأزهر حتى إنه ليصعب أن نحتفي بعيديهما دون أن تشغل ذكرى الخلافة الفاطمية مكانتها في هذين العيدين؛ ولن يكون للإشارة بهذه الذكرى سوى معناها التاريخي الجليل، ولن تحيط بها أي اعتبارات دينية أو مذهبية؛ ونذكر للتنويه بهذا المعنى التاريخي الجليل، أن إسبانيا النصرانية لم تر بأسا من الاحتفاء بذكرى الخلافة الإسلامية؛ ففي سنة1929 احتفلت جامعة قرطبة بذكرى الخلافة الإسلامية لمناسبة مرور ألف عام على قيامها بقرطبة؛ وقد كان قيام الخلافة الإسلامية في قرطبة كما نعرف سنة 317هـ الموافق لسنة 929ميلادية، وكان أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبد الرحمن الناصر، وهذه الذكرى التاريخية الجليلة هي التي احتفلت بها جامعة قرطبة في سنة 1929، وكان لتصرفها أجمل وقع في العالم الإسلامي
ولقد جرت مصر الفتية الناهضة على انتهاز كل الفرص والمناسبات العلمية والاجتماعية الدولية والاشتراك فيها، والإعلان عن نفسها بأحسن ما تعلن أمة حديثة ناهضة؛ وهي تلبي كل عام عشرات الدعوات لشهود المؤتمرات والمعارض الدولية المختلفة والمهرجانات العلمية ولا تبخل في ذلك السبيل بالاتفاق لأنها تقدر كل ما تجنيه من الفوائد المعنوية والمادية من الاشتراك في تلك الاجتماعات الدولية الكبيرة؛ وقد كانت آخر مناسبة من هذا النوع اشتراكها في معرض باريس الدولي، وهو اشتراك اقتضت نفقاته الرسمية منها زهاء عشرين ألف جنيه؛ فهل تبخل مصر بأن ترصد مثل هذا المبلغ بل أن ترصد أضعافه للاحتفال بعيد القاهرة وعيد أزهرها الألفي؟
إن إقامة مهرجان ألفي لمدينة القاهرة تحج إليه وفود الأمم من أنحاء الشرق والغرب يكون أعظم دعاية لمصر التالدة ومصر الفتية الحديثة معاً، وأعظم وسيلة للتعريف عن ماضيها الباهر وعظمتها السالفة؛ وأن إقامة مهرجان ألفي للجامع الأزهر تشترك فيه وفود الجامعات والهيئات العلمية من جميع الأمم يكون مظاهرة إسلامية علمية رائعة للإعلان عن الدور العظيم الذي أدته الجامعة الألفية في تكوين التفكير الإسلامي لا في مصر فقط ولكن في العالم الإسلامي كله، وعن الصرح العلمي العظيم الذي كان الأزهر قوامه والذي لبث ملاذ التفكير الإسلامي والآداب العربية قروناً مديدة ولاسيما في عصور الاستعباد والانحلال الفكري والاجتماعي
تلك دعوتنا المتواضعة نرسلها للمرة الثانية راجين أن تجد صدى قوياً في دوائرنا الرسمية والعلمية، فتعمل على تحقيق هذه الأمنية القومية الكبرى بكل ما يجب لها من روعة وجلال محمد عبد الله عنان