انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 200/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 200/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 3 -

الديانة المصرية - التأليه في العصور التاريخية

أثرت أقاصيص المعارك التي اشتعل أوارها بين المصريين في عصور ما قبل التاريخ في نفوس أبنائهم المصريين المدنيين تأثيراً دفعهم إلى تحوير هذه الأقاصيص الاجتماعية إلى أساطير دينية فزعموا أن (أوزيريس) - وهو إله الإنبات والخصوبة وبالجملة إله النيل - قد استعان بأخته وزوجته (إيزيس) إلهة الحكمة والتشريع والسحر ورمز الوفاء والإخلاص، وبوزيره (توت) إله العلم والتدبير وبعض الآلهة الآخرين على تكوين مملكة إلهية عظيمة في مصر. وكان لهذا الإله أخ وهو (سيت) إله الشر والقحط والاجداب فحقد عليه من أجل هذا الجلال الباهر الممثل في مملكته العظيمة الصافية، ولأنه لا يستطيع مجابهته وجهاً لوجه رهبة منه وفرقاً أمامه، فقد غدر به إذ احتال عليه بحيلة شيطانية حتى أدخله في تابوت كان قد صنعه خصيصاً لهذه الخديعة بحجة إنه يود أن يعرف سعة هذا التابوت، ثم أقفله عليه وقذف به في النيل فحمله التيار إلى المصب وسلمه إلى البحر الأبيض فحمله هذا البحر من المصب إلى (بيبلوس). وفي أثناء ذلك افتقدته زوجته الوفية فلم تجده، فأدركت ما حدث له، فصممت على أن تفتش عنه حتى تعيده إلى الحياة وإلا لحقت به، وظلت تجهد نفسها في البحث عنه حتى عثرت عليه وأعادته إلى الدلتا وقبل أن تتمكن من فتح التابوت فاجأها (سيت) وتغلب عليها بقوته ثم مزق جسم أخيه أشلاء عددها اثنان وسبعون شلوا، ألقى بكل شلو منها في مقاطعة من مقاطعات مصر، وكان عددها إذ ذاك يساوي عدد هذه الأشلاء، فلم يفت ذلك في شجاعة إيزيس ولم يضعضع من عزيمتها، بل ثابرت على جمع هذه الأشلاء المتناثرة حتى استكملتها ووضعت كل واحد منها في مكانه الطبيعي، ثم تلت عليه بعض ما تعرفه من الرقي والتعاويذ السحرية، فعاد إلى الحياة، ولكنها حياة لا تشبه الحياة الأولى، فلم يلبث على الأرض إلا بقدر ما أنسل (هوروس) ثم غادرها واستبدلها بمملكة الأموات العظيمة حيث أصبحت مهمته محاسبة أهل الدنيا ووزن أعمالهم وإصدار الأمر لهم أو عليهم بالنعيم أو بالجحيم

وقد استخلف على مملكة الدنيا من بعده ابنه (هوروس)، ولكن (سيت) عاد إلى مشاكسة هذا الإله الشاب من ناحية القانون فأعلن انه ليس ابن (أوزيريس) لأن (أوزيريس) قد مات منذ عهد طويل، ولأنه من غير الممكن أن ينسل في هذه الفترة الوجيزة التي عاد فيها إلى الحياة على الأرض. وإذاً فليس للعرش الإلهي وارث شرعي إلا هو. وقد رفع بهذه الدعوى قضية أمام محكمة الآلهة فهبت (إيزيس) تدافع عن شرفها، و (هوروس) يثبت بنوته من (أوزيريس) ثم استشهدت الزوجة المتهمة والابن المجحود بالإله اللبق الفصيح (توت) فشهد بشرف الوالدة وشرعية الولد فحكمت المحكمة بالعرش المقدس لذلك الإله الشاب

ومما يلفت النظر في هذه الأسطورة الشيقة هو أن (إيزيس) أثناء طيرانها للبحث عن أشلاء زوجها بكت حزناً عليه فسقطت من عينها دمعة فوق النيل فزاد لساعته، وكان ذلك في شهر بوونة، فظل النيل يزيد في هذا الشهر من كل عام إلى اليوم. ومن الغريب أن يوم بدء هذه الزيادة يسمى في أرياف مصر إلى الآن بـ (يوم النقطة) أي نقطة الدمع التي نزلت من عين (إيزيس). فأنظر كيف أن هذه الثمانية آلاف سنة لم تستطع أن تمحو هذه الأسطورة من صحائف الوجود؟!

روت بعض الأساطير المصرية الأخرى قصة (أوزيريس) و (هوروس) على نحو يخالف ذلك، ولكن هذه الرواية هي أصح الروايات أو بالأحرى هي أكثر الروايات تنسيقاً على نظام الحقائق

ومهما يكن من شيء، فإن أهم الملاحظات العظيمة القيمة في هذه الأسطورة هو أن روح القانون والأنظمة الشرعية كانت سائدة في مصر سيادة تامة حتى في عهود ما قبل التاريخ، ولولا ذلك لما طلب (سيت) عزل (هوروس) عن العرش بحجة إن بنوته من (أوزريس) لم تثبت، ولأن موته سابق على مولد هذا الإله الشاب بزمن طويل. ولولا سيادة هذه الروح القانونية أيضاً لما اضطرت (إيزيس) إلى الاستشهاد بـ (توت) على براءتها وشرعية ابنها وأحقيته في العرش.

ويجمع على هذه الملاحظة كل العلماء الباحثين ويعدونها برهان رقي الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية وإن كانوا يختلفون في موضوع القضية الواردة في الأسطورة فيذهب البعض إلى تأييد الرأي الذي ذكرناه آنفاً، وهو إن الغاية من القضية كانت إثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) بوساطة زواجه من أخته (إيزيس) ويرجعون زواج الاخوة بأخواتهم عند قدماء المصريين إلى هذه الأسطورة التي يقول البعض: إن (إيزيس) قد ادعتها لتبرر بها موقفها بعد أن ولدت (هوروس) من ناحية، ولتمكن ابنها من الصعود إلى العرش بوسيلة شرعية من ناحية أخرى.

ويؤكد البعض الآخر من الباحثين أن القضية التي أقامتها (إيزيس) أمام محكمة الآلهة لم تكن لإثبات بنوة (هوروس) من (أوزيريس) وإنما قصدت بها إثبات حق ابنها (هوروس) في العرش بحجة أنه ابنها هي، وهي أخت (أوزيريس) الإله الراحل، لأن احترام المصريين القدماء للمرأة كان يجعل الوراثة عن الخال أمراً محققاً؛ ولكن الذي لاشك فيه هو أن هذه الأسطورة على وجهيها تشهد بالشوط البعيد الذي كانت مصر قد قطعته في المدنية حتى في عصر ما قبل تكوين المملكة الأولى.

ظل ذلك النزاع الذي احتدم لهيبه بين (هوروس) وعمه أو خاله (سيت) إله الشر والغدر رمزا لتلك الحروب العديدة التي كانت تقع من حين إلى آخر بين رؤساء مقاطعات الوجهين القبلي والبحري زمناً طويلاً تطورت بعده إلى فكرة أجرأ من الرمز، وهي أن كلا من الرئيسين المتحاربين أصبح يمثل أحد ذينك الإلهين المتنازعين، ومازال هذا شأنهم حتى هب ذلك الفرعون العظيم (مينيس) أو (مينا الأول) فكان أكثر جرأة وأعظم صراحة، فأعلن في غير مواربة أن الإلهين كليهما قد حلا في جسده، وأن جسمه يشتمل على الجوهر الأساسي أو روح القدس للإلهيين جميعاً، وأنهما لهذا قد استخلفاه على ذلك العرش السامي الذي طالما كان موضع نزاع بينهما، وأنه حين يضع فوق رأسه تاج الوجهين: القبلي والبحري ويضمهما تحت إمرته في شيء عظيم من الحزم لا يزيد على كونه منفذاً فعلياً لأمر الإلهين.

وقد تم له ما أراد، إذ أصبح إلهاً حياً جامعاً بين القوتين اللتين ظلتا متفرقتين إلى عهده. ومنذ هذا العصر أطلق على (مينا) وأعقابه اسم الإله أو مليك القطرين أو اسم: (هوروس) و (سيت) أو مصدر الخير والشر، والنور والظلمة، والخصوبة والجدب، وأصبحت زوجته تدعى بالملكة التي تحظى في كل ليلة ب (هوروس) و (سيت) ولكن (سيت) كان في الأناشيد والأغاني يظل كامناً في أغلب الأحايين ولا يبرز على مسرح الأساطير المصرية إلا في حالات السخط والغضب، أما في الظروف العادية فلا ترى في الأناشيد إلا فرعون ممثلاً لهوروس، مشيداً بنعمه، شاكراً لآلائه، متحدثاً على لسانه بعظمة مصر وعرشها عنده، كما جاء في هذه الأنشودة الموجهة إلى مصر: (تحية إليك يا مخلوقة (هوروس) التي زينها بذراعيه مجتمعتين والتي لم يسمح لها بأن تخضع لسكان المغرب ولا لسكان المشرق ولا لسكان الجنوب ولا لسكان الشمال ولا لسكان الوسط المركزي، وإنما له هو وحده فحسب، أنت لا تخضعين إلا لهوروس الذي خلقك وأسسك ثم سواك وزينك، وأنت تحملين إليه كل ما فيك من خيرات حاضرة ومستقبلة وتقدمين إليه كل ما يشتهيه قلبه.

(يتبع)

محمد غلاب