مجلة الرسالة/العدد 199/بين القاضي منصور الهروي
مجلة الرسالة/العدد 199/بين القاضي منصور الهروي
والوزير أبو سهل الزوزني
للأديب الفارسي عباس إقبال
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
مقدمة:
لما قامت الدولة العثمانية فاستولت على أسيا الصغرى والعراق العربي والشام وجزيرة العرب ومصر وشمال أفريقية تقطعت الأواصر العلمية والأدبية التي جمعت بين العهد العباسي بين المسلمين في الأقطار كلها من بخارى وسمرقند إلى القيروان ومراكش
اشتدت المنافسة الدينية والسياسية بين الصفويين في إيران وسلاطين آل عثمان في البلاد الإسلامية الأخرى وانتهت إلى العداء والحرب، فأقامت سدا منيعا بين مسلمي إيران وإخوانهم في الدين، فتقطع ما بينهم من روابط. فمسلمو الشرق الذين كان اهتمامهم بالفارسية يزيد يوماً بعد يوم بحكم الزمان، والذين كانوا ينصرفون عن العربية لزوال دولها المستقلة سلكوا طريقاً غير الطريق التي سلكها مسلمو الغرب تحت سيطرة الترك العثمانيين ولواء السلطان حامي مذهب أهل السنة والجماعة.
وكانت عاقبة هذا أن الإيراني حرم الاستفادة من المؤلفات التي كانت تكتب خارج حدود بلاده والكتب القديمة التي كانت مدخرة في غير وطنه. وكذلك حيل بين رعايا العثمانيين وبين آثار النهضة العلمية والأدبية في إيران. وزاد تعصب الفريقين هذه الفرقة على مر الزمان. واليوم وقد نهضت أهل مصر والشام لأحياء الآداب والمعارف الإسلامية، لا نزال نرى العلماء والأدباء على براءتهم من التعصب والحمد لله يهملون كل ما كتب بالفارسية - إحدى لغتي التمدن الإسلامي العظيمتين - ويصدفون عما كتبه علماء المذهب الشيعي - أحد المذهبين العظيمين في الإسلام. يتبين من مطالعة الكتب والمقالات التي يكتبها فحول الكتاب والمؤرخين في مصر والشام أنهم متمكنون في الآداب العربية وتاريخ الإسلام، بصيرون بكثير من الحقائق الراجعة إلى الإفرنج وآدابهم. حتى إذا عرض بحث عن إيران والآداب الفارسية، أو مذهب الشيعة كبا جوادهم وكثرت زلات أقلامهم. ونرى بعض هؤلاء الكتاب يحاولون إلى المراجع الفارسية وهم يجهلون لغتها فيتوسلون إليها بالمراجع الأوروبية فيحرفون الأعلام حين ينقلونها من الحروف اللاتينية إلى الهجاء العربي تحريفاً يغير معالم التاريخ والجغرافيا
كتب أحد كتاب مصر (ونمسك عن ذكر اسمه إجلالا لمقام) ترجمة ناصر الدين شاه والوزير ميرزا تقي خان. وكان أخذه عن كتاب إنجليزي فكتب (نصر الدين) و (طاغي خان)، والذي يعرف العربية يدرك الفرق بين ناصر ونصر وتقي وطاغي. وللتحرز من مثل هذا اللبس عني العلماء المدققون من قبل بتأليف كتب مثل (المؤتلف والمختلف) و (والمشتبهات) و (المشترك) وغيرها. واجتهدوا في ضبط الإعلام وتعيين لفظها ورسمها.
وهذا الخلط والمسخ ظاهران في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية التي تنشر في مصر الآن فهي مليئة بأغلاط من هذا القبيل لا يتيسر تعدادها.
إنما يريد الكاتب من هذه المقدمة أن يلفت أدباء العربية ومؤرخيها ومحققيها الذين يجتهدون في كشف حقائق التمدن الإسلامي على سنن المحققين من الفرنج، إلى هذه النكتة الدقيقة: وهي أن أمامهم مصدرين عظيمين لتكميل معارفهم في كل ما يرجع إلى التمدن الإسلامي - مصدرين لا يعنى بهما كثير من الباحثين على ما ضمنا من حقائق لا يظفر بها الباحث في الكتب العربية المعروفة. هذان المصدران هما الكتب الفارسية وكتب الشيعية التي ألفت في إيران بالعربية أو الفارسية
أرى كثيراً من فضلاء الشبان في مصر والشام يكتبون رسائل أو كتباً عن حكماء الإسلام وعلمائه ومؤرخيه فلا يستطيعون بلوغ الغاية في التحقيق بما جهلوا الفارسية فحرموا الاستفادة من الكتب في إيران. كيف يستطيع كاتب أن يحقق تاريخ ابن سينا وفلسفته وهو يغض الطرف عن كتبه الفارسية: (دانشامة علائي) و (رسالة نبضية) ومعراجنامه، أو عن اشعاره الفارسية. وكيف يستطيع أن يوفي البحث عن أبي الريحان البيروني وهو يغفل النسخة الفارسية من كتاب التفهيم في صناعة التنجيم وما كتبه عنه مؤلفو الفارسية القدماء مثل أبي الفضل البيهقي في تاريخ آل سبكتكين، ونظامي العروض للسمرقندي في جهار مقاله وفيه حقائق لا تلفى في كتب أخرى؟ ومثل هذا يقال عن كثير من العلماء أمثال الإمام فخر الدين الرازي، والعلامه قطب الدين الشيرازي، والإمام عمر الخيامي، وجار الله الزمخشري، ورشيد الدين الوطواط، ونصير الدين الطوسي.
من ذا الذي يعنى بالتاريخ وما يحتاج إلى كتبه مثل تاريخ قم (وقد فقد اصله العربي، ولم يبق ألا جزء من ترجمته الفارسية) ومحاسن اصفهان لسعد الدين البافروخي، وكتاب الفهرس للطوسي، ومعالم العلماء لابن شهر اشوب، والفهرست للقمي، وكتاب الرجال للكشي، وكتاب الرجال للنجاشي، وكتاب الرجال الكبير للاستراباذي، وروضات الجنات للخونساري، وكلها من أمهات كتب الشيعة؟ أو كيف يغض الطرف عن كتب التاريخ الفارسية مثل جهانكت للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الوزير، وتجزية الأمصار وتزجية الإعصار اعني تاريخ الوصاف، وزبدة التواريخ للحافظ ابرو، ومطلع السعدين لعبد الرزاق السمرقندي، وظفرنامه للنظام الشامي، وشرف الدين علي اليزدي، وحبيب السير، وروضة الصفا، ومجمع الأنساب، وتاريخ كراميره وكلها ثقة في التاريخ المغول وعصر تيمور؟
كل متأدب في العالم العربي سمع اسم أطباق الذهب لشرف الدين عبد المؤمن الأصفهاني، كتبه على نسق أطواق الذهب لأبي القاسم الزمخشري، وربما لا يوجد في هذه البلاد من يعلم أن شرف الدين المذكور (ويعرف باسم شرف الدين ابن شفروه) واحد من أشهر شعراء الفارسة له ترجمة في كل كتاب فارسي مترجم للشعراء. وكذلك كتاب الفخري لصفي الدين محمد بن علي بن الطقطي طبقت شهرته الأفاق، ولكن قليلا من فضلاء العربية من يعلم أن في الفارسية نسخة من هذا الكتاب اكثر تفصيلا كتبها هندوشاه النخجواني سنة 724، ويؤخذ من هذه النسخة الفارسية أن أسم كتاب الفخري الحقيقي: (منية الفضلاء في تواريخ الخلفاء والوزراء)
أرجو أن يعذرني القراء الكرام في تطويل هذه المقدمة التي يمكن أن يكتب في موضوعها كتاب والتي يرى القارئ فيها وفيما بعدها أن الفرع قد زاد على الأصل. أن عذري في هذه الإطالة رجائي أن يكون فيها بعض الفائدة
ومن أمثلة ما ذكرنا في المقدمة أعني الأمثلة التي تبين أن الكتب الفارسية تعين على إيضاح مسائل تاريخية ودقائق في الأدب العربي أو تتضمن أحيانا فوائد لا تلفى في الكتب العربية، قصة القاضي منصور الهروي أحد الشعراء النابهين في القرن الخامس الهجري ومن ذوي الصيت الذائع في البلاد الإسلامية الشرقية في هذا العصر.
القاضي أبو أحمد منصور بن أبي منصور محمد الأزدي الدولي، المعروف بالقاضي منصور أو منصور الفقيه، ولي قضاء هرات في عهد الملوك الغزنويين، وكان منصب القضاء وراثة في أسرته. وكان القاضي مع هذا المقام الجليل، يمضي أكثر أيامه في مصاحبة أهل الطرب ومنادمة أخوان اللهو والتمتع بالعيش الرضي، والوجه الجميل، يرى طبعه الشاعر أن الحياة في السرور والطرب، وكأن لسان حاله بيتا شمس الدين محمد حافظ الشيرازي:
(صديقان أريبان، ومنوان من الخمر المعتقة، وفراغ، وكتاب وزاوية في المرح، لا أبيع هذا المقام بالدنيا والآخرة وأن يكن الناس قد اتخذوني إماما)
والقاضي منصور من معاصري أبن منصور الثعالبي مؤلف يتيمة الدهر وتلميذه أبي الحسن الباخرزي مؤلف دمية القصر، وقد أثبت هذان المؤلفان له ترجمة مختصرة ونبذة من شعره في يتيمة الدهر (4 - 243) وتتمة اليتيمة (46: 2 - 53) وفي دمية القصر (في ذيل شعراء خراسان)
وهذه نبذة مما كتبه الباخرزي:
وكان مغرى بالشراب، مغرما بالأطراب، يمناه متوجة بكاس الرحيق، ويسراه مقرطة بعروة الإبريق. وخمرياته مما يحكم له فيها بالفضل على الحكمي، وغزلياته مما يحصل بها مطاوعة الغزال الإبل)
وكذلك في معجم الأدباء طرف من أخباره وقطع من أشعاره (7 - 189 - 191) ويقول ياقوت إن القاضي منصور كان من مادحي القادر بالله (381 - 422) وأنه توفي سنة 440.
وفي تاريخ آل سبكتكين الذي ألفه بالفارسية أبو الفضل محمد بن الحسين البيهقي (385 - 470)، وهو من معاصري القاضي وأصدقائه، فصل ممتع في ترجمته لا يلفى في مصدر من المصادر المذكورة، ولا في غيره من المراجع المشهورة. ونحن نثبته هنا إفادة للقراء وإثباتا لدعوانا في المقدمة (طبع طهران ص599 - 601) يقول أبو الفضل البيهقي:
وكان بهرات رجل يقال له القاضي منصور له قدم في كل علم وفضل قد سكن إلى الشراب واللهو، واخذ حظه من الدنيا الغادرة وجعل شعاره: خذ العيش، ودع الطيش. وكان ريحانة الأكابر لا يأنسون بمجلس لا يضمه. وكان صديقا لأبي سهل الزوزني قد أحكمت مودتهما أواصر الأدب. وكانا يتلازمان ويعكفان على المدام. بكر القاضي منصور يوماً إلى لهوه وشرابه، وأرسل إليه أبو سهل أبياتا، فأجاب بديهة على رويها؛ وأعاد أبو سهل الكتابة فأجاب أبو منصور ولم يحضر ومضى اليوم.
وهذه هي الأبيات التي كتبها الشيخ أبو سهل الزوزني:
أيها الصدر الذي دا ... نت لغرته الرقاب
انتدب ترضى الندامى ... هم على الدهر كتاب
وأَسغ غصة شرب ... ليس يكفيها الشراب
واحضرن لطفا بناد ... فيه للشوق التهاب
ودعا العذر وزرنا ... أيها المحض اللباب
بينك المر عذاب ... وسجاياك عذاب
إنما أنت غناء ... وشراب وشباب
جودك المرجو بحر ... فضلك الوافي سحاب
إنما الدنيا ظلام ... ومعاليك شهاب
فأجابه القاضي في الوقت:
أيها الصدر السعيد ... الماجد القرم اللباب
وجهك الوجه المضيء ... رأيك الرائي الصواب
عندك الدنيا جميعا ... وإليها لي مأب
ولقد أقعدني السك ... ر وأعياني الجواب
في ذرى من قد حوى من ... كل شيء يستطاب
ولو استطعت قسمت الج ... سم قسمين لطاب
غير أني عاجز عن ... هـ وقلبي ذو التهاب
فبسطت العذر عني ... في أساطير الكتاب
وكتب إليه أيضا أبو سهل: أيها الصدر تأن ... ليس لي عنك ذهاب
كل ما عندك فخر ... كل ما دونك عاب
وجهك البدر ولكن ... بعد ما إنجاب السحاب
قربك المحبوب روض ... صدك المكروه غاب
عذرك المقبول عندي ... أبد الدهر يصاب
أنت إن أبت إلينا ... فكما آب الشباب
أو كما كان على المح ... ل من الغيث الضباب
بل كما ينتاش ميت ... حين واراه التراب
فكتب منصور بعدما أدركه السكر:
نام رجلي مذ عبرت القنطره ... فأقبلن إن شئت مني المعذره
إن هذا الكأس شيء عجب ... كل من أغرق فيه أسكره
(باريس)
عباس إقبال