مجلة الرسالة/العدد 199/القاهرة المعزية
مجلة الرسالة/العدد 199/القاهرة المعزية
وجوب الاحتفاء بعيدها الألفي
للأستاذ محمد عبد عنان
منذ أعوام قلائل احتفلت فرنسا بذكرى إحدى مدنها العتيقة، وهي مدينة قرقشونة (كاركاسون) الرومانية لمناسبة مضي ألفي عام على قيامها؛ ومازلنا نذكر مما أفاضت به الأنباء يومئذ طرافة هذا الاحتفال وروعته وأهميته من الوجهة القومية. وقرقشونة إحدى مدن ولاية (سبتماينا) السبعة، وقد كانت مدى حين معقلا إسلاميا في جنوب فرنسا؛ ومازالت على صغرها وتواضعها شهيرة بآثارها الرومانية وتأريخها الحافل أيام الرومان والقوط والعرب
وان مصر لتستطيع أن تفخر بمدنها الألفية عنوان تراث مجيد وحضارة خالدة؛ ويكفي أن نذكر في هذا المقام عاصمتيها الجليلتين، الإسكندرية ثغرها العظيم التالد، والقاهرة عروس العواصم الإسلامية؛ فقد قطعت الإسكندرية من عمرها المديد أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا؛ وأشرفت القاهرة على ألفها؛ وإذا كانت العاصمة الكبرى تقترب من عيدها الألفي بخطى سريعة فإن من بواعث الأسف أن يقترب هذا اليوم التاريخي العظيم دون أن تتأهب مصر للاحتفاء به وإحاطته بما يجب من ضروب الإشادة والتكريم؛ ومن بواعث الأسف إلا يرتفع حتى اليوم صوت رسمي ينبه إلى هذا الحادث القومي الجليل، وينوه بخطورته وأهميته، ويدعو المختصين إلى الاهتمام بأمره
ولقد احتفلت مصر بالأمس بالعيد المئوي لوزارة معارفها، واحتفلت من قبل بالعيد المئوي لمدرسة الطب، والعيد المئوي للمدرسة الخديوية، والعيد الخمسيني لإنشاء المحاكم الأهلية، وغيرها من المواقف والحوادث القومية، وأدركت ما وراء الاحتفاء بهذه المناسبات التاريخية من بعث للماضي، وتكريم للذكريات المجيدة، وإذكاء للعاطفة القومية، ووصل بين مراحل تأريخنا. بيد أن هذه الذكريات والمناسبات الحافلة تبدو ضئيلة متواضعة إلى جانب الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة
ذلك أن الاحتفاء بالعيد الألفي للقاهرة المعزية يعتبر حادثاً منقطع النظير في تأريخ مصر الإسلامية. وليس بين عواصم العالم الكبرى سوى مدن قلائل قطعت عمرها الألفي؛ وأشهرها وأعظمها من الوجهة التاريخية هي بلا ريب أثينه والإسكندرية ورومه وقسطنطينية. وإذا كان العالم الإسلامي يضم عدة مدن ألفية أخرى، فإنه ليس بينها من تضارع القاهرة في ضخامتها وجلالها وأهميتها السياسية والفكرية والاجتماعية
ألف عام هجرية كادت تنقضي على قيام المدينة الفاطمية المتواضعة، القاهرة المعزية أو قاهرة المعز لدين الله؛ ففي 17 شعبان سنة 358هـ (7 يوليه سنة 969م) دخلت الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر الصقلي قائد المعز الفاطمي مدينة مصر أو مدينة الفسطاط غازية ظافرة، وعسكرت عند مغيب الشمس في الفضاء الواقع في شمال غربي الفسطاط؛ وفي نفس الليلة وضع القائد جوهر تنفيذاً لأوامر المعز أول خطة في مواقع المدينة الجديدة التي اعتزم الفاطميون إنشاءها بمصر لتكون لهم منزلا ومعقلا. وحفر أساس قصر جديد في نفس الفضاء الذي نزل فيه جيشه، فكان هذا مولد القاهرة التي سميت كذلك تفاؤلا وتيمناً بالنصر؛ وقامت المدينة الجديدة بسرعة تتوسطها القصور الفاطمية والجامع الأزهر الذي أنشئ بعد ذلك بأشهر قلائل (في جمادى الأولى سنة 359) ليكون منبراً للدولة الجديدة وملاذاً لدعوتها؛ ولم تلبث أن غدت منزل الخلافة الفاطمية مذ قدم المعز لدين الله إلى مصر بأمواله وأهله وبطانته وتوابيت أجداده، واستقر في عاصمته الجديدة في رمضان سنة 362هـ (يونيه سنة 973م)
ولبثت القاهرة مدى حين ملوكية عسكرية لا تضم سوى القصر الفاطمي ودواوين الحكم وخزائن المال والسلاح ومساكن الأمراء والبطانة ومن إليهم من التباع النازحين في ركب الغزاة؛ ولكن لم يمض جيل واحد حتى واحد حتى اتسعت جنبات المدينة الجديدة ونمت نمواً عظيما وترامت معالمها وأحياؤها إلى ما وراء السور الذي أنشأه حولها القائد جوهر واتصلت بمدينة مصر (الفسطاط) وامتزجت المدينتان وتداخلتا وصارتا تكونان معا مدينة من أكبر وأعظم مدن الإسلام في العصور الوسطى. وكان اسم القاهرة يطلق اصطلاحا على المدينة الفاطمية التي يضمها السور الذي أنشأه القائد جوهر ثم وسعه وأعاد إنشائه أمير الجيوش بدر الجمالي في أواخر عهد المستنصر بالله (سنة 486هـ ـ) وأدخل فيه عدة أحياء ومواقع جديدة: وأما المناطق التي بقيت خارج السور والتي كانت تمتد فيما بين الجامع الطولوني وقلعة الجبل إلى الجهة المقابلة على ضفة النيل، فكانت تعرف بظاهر القاهرة، وكان اسم مصر يطلق دائما على الفسطاط القديمة، ويطلق على المدينتين معا (مصر القاهرة)
ومازالت معالم القاهرة المعزية وحدودها القديمة قائمة يحدها من الشمال موقع باب الفتوح وباب النصر والسور الذي يصلهما وهو بقية من سور أمير الجيوش بدر الجمالي، ويحدها من الجنوب باب زويلة، ومن الشرق سفح الجبل، ومن الغرب موقع الخليج القديم، وما يلي ذلك حتى ضفة النيل، وما يزال الجامع الأزهر قائما وسط المدينة القديمة حيث قام منذ ألف عام تحيط به معظم الأحياء والدروب الفاطمية القديمة بعد أن تغيرت أسماؤها ومعالمها
ولقد شهدت القاهرة في ظل الخلافة الفاطمية ألواناً من العظمة والبهاء والبذخ قلما شهدتها في ظل دولة إسلامية أخرى؛ ومع أنها نمت بعد ذلك نمواً عظيما. واتسعت جنباتها وأحياؤها حتى غدت في القرن التاسع الهجري أضعاف ما كانت عليه أيام الفاطميين، فإنها لم تستطع بمثل ما سطعت في عهدها الأول، ولم تشهد مثل ما شهدت فيه من مواكب الخلافة الفخمة، ورسومها وأعيادها الباذخة ولياليها وحفلاتها الباهرة؛ كانت القصور الفاطمية آية الفخامة والبهاء وإن الخيال ليضطرم إلى الذروة حينما يستعرض تلك الصور الرائعة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة من عظمة الخلافة الفاطمية وروعتها في مظاهرها العامة، وعن حياة الخلفاء الخاصة داخل القصر وأبهائه وأجنحته المنيفة. وقد كان القصر الزاهر يشرف من الغرب على ميدان شاسع يسع عشرات الألوف من الجند والنظارة يعرف بميدان بين القصرين، وهو اسم شهير في تاريخ القاهرة المعزية شهرة ميدان (القديس مرقص) (سان ماركو) في تاريخ البندقية، وقد سمي كذلك لوقوعه بين القصر الفاطمي الكبير والقصر الصغير المواجه له وهو المعروف بالقصر الغربي؛ وقد لبث (بين القصرين) أيام الدولة الفاطمية مسرحاً لأعظم المواكب والمظاهرات الخلافية والعسكرية، والحفلات العامة، ولبث بعد زوال الدولة الفاطمية عصراً أعظم ميادين القاهرة، وازخرها عمارة وأشدها احتشاداً، وإنك لتستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الخلافة الفاطمية والشعب القاهري في ميدان ما بين القصرين، كما تستطيع أن تتبع كثيراً من أخبار الجمهورية البندقية في ميدان القديس مرقص، كلاهما امتزج بحياة الدولة والشعب، واتخذ مكانة فيها.
ومنذ بضعة أعوام شعرت بعض الجهات الرسمية بأن الجامع الأزهر يدنو من عمره الألفي. وفكرت في أن تحتفل بهذا العيد احتفالا عظيما يتفق مع روعته التاريخية، ووضع بالفعل برنامج لتنظيم هذا الاحتفال. وانتدبت لجنة لوضع تاريخ شامل للأزهر منذ قيامه إلى يوم عيده، ثم وقف المشروع لأسباب غير معروفة؛ بيد أن الذي يثير الدهشة حقاً، هو أن تخطر للقائمين بالأمر فكرة الاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر دون أن تخطر لهم فكرة الاحتفال بالعيد الألفي لمدينة القاهرة، مع أن القاهرة تسبق الأزهر في مولدها بعدة أشهر؛ وقد أنشئ الأزهر في الأصل، لا ليكون جامعة للدراسة، ولكن ليكون مسجداً للعاصمة الفاطمية الجديدة وليكون منبراً للدولة الجديدة ومعقلا لدعوتها
فإذا كان مما يحمد أن فكر القائمون بالأمر في تخليد الذكرى الألفية للجامع الشهير، فإن ما يبعث إلى الأسف أن يفوتهم حتى اليوم التفكير في تخليد ذكرى القاهرة الألفية؛ هذه الذكرى الخالدة تدنو بسرعة. فقد وضعت أسس العاصمة الفاطمية كما رأينا في منتصف شعبان سنة 358هـ ففي منتصف شعبان سنة 1358هـ، أعني بعد نحو عامين ونصف فقط تبلغ القاهرة المعزية عمرها الألفي المديد
وبعد أشهر قلائل من ذلك التاريخ، أعني في جمادى الأولى سنة 1359هـ يبلغ الجامع الأزهر عمره الألفي أيضاً، إذا اعتبرنا تاريخ البدء في إنشائه وهو جمادى الأولى سنة 359هـ.
وإنه لمن بواعث الفخر حقاً أن يكون تاريخنا حافلا بمثل هذه الذكريات العظيمة التي هي عنوان تراث قومي مؤثل
فعلينا أن نفكر مليا في الاحتفاء بهذين العيدين القوميين الجليلين وإذا كان قد فاتنا حتى اليوم أن نؤلف للاحتفاء بهما اللجان الخاصة، وأن نضع البرامج اللائقة، فإن ما يزال ثمة متسع من الوقت لتحقيق هذه الأمنية؛ ولقد ارتبط اسم القاهرة المعزية والأزهر دائماً حتى أنه ليكفي أن تؤلف هيئة واحدة للقيام بهذه المهمة، فتضع للاحتفال بعيد القاهرة الألفي برنامجا خاصا وتضع برنامجا آخر للاحتفال بالعيد الألفي للجامع الأزهر، يراعى في كل منهما ظروفه ومناسباته الخاصة؛ ومن الطبيعي أن يحتوي البرنامج على وضع تاريخ ألفي شامل لمدينة القاهرة وتاريخ شامل للجامع الأزهر؛ وأن تنظم في العيدين طائفة من المهرجانات العلمية والاجتماعية الباهرة وأن يدعى لعيد القاهرة رؤساء البلديات في جميع المدن الكبرى ممثلين لحكوماتهم ومدنهم. كما يدعى لعيد الأزهر ممثلو الجامعات في جميع أنحاء العالم، وأن ينظم بهذه المناسبة حج خاشع إلى معالم القاهرة المعزية وآثارها الباقية ومنها الجامع الأزهر. وأن تقام بها الأعمدة واللوحات التذكارية المختلفة، وأن تفتتح بهذه المناسبة طائفة من المشاريع العلمية والخيرية
وأنه لمما يسبغ على هذه الاحتفالات روعتها وجلالها، أن تقام إلى جانب هذه المعالم الخالدة وفيما بينها.
فهل يحدث هذا النداء المتواضع أثره؛ وهل يبادر أولو الأمر فيتخذوا الأهبة العاجلة لتحقيق هذه الأمنية القومية الرفيعة؛ وهل تشهد القاهرة المعزية، ويشهد الأزهر كلاهما عيده الألفي في فيض من الروعة والجلال؛ أم تغيض هذه الذكريات العظيمة في غمر الجدل والمناقشات العقيمة؟
محمد عبد الله عنان