انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 198/في الأدب المقارن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 198/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937



القصص

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

الميل إلى تأليف القصص والاستمتاع بسماعه طبيعيان في الإنسان، فهو كما يميل تبعاً لغريزة الاستطلاع إلى مشاهده حوادث الحياة تترى أمام عينيه، يميل إلى حكايتها لغيره كما رآها أو تخيلها؛ ويميل إلى الاستماع إلى غيره يرويها له، يشبع بها غريزة الاستطلاع وملكه الخيال من نفسه. والحياة ذاتها ليست سوى قصة متتابعة الحوادث متوالية الفصول. وليس بد لمن شاء وصف بعض مظاهرها أو ظروفها من اللجوء إلى القصص، وإلى القصص يلجأ بداهة كل صديقين تلاقيا بعد طول فراق، وبالقصص يشغف الأطفال أشد الشغف، وبه شغف الإنسان في عهد طفولته التاريخية.

كان القصص أول صور الأدب ظهوراً، بل كان جماع الأدب والعلم والثقافة العامة لدى الجماعات الأولى، يشمل معارفهم بالخلق والطبيعة والتاريخ وعقائدهم وتقاليدهم، فما من شيء من ذلك كله إلا حاكوا له قصة، ولا مظهر إلا اخترعوا له حكاية تعلله، فكان قصص تلك العهود مملوءاً بالخرافات والأوهام، دائراً حول الآلهة والملوك والأبطال والقبائل، وبالجملة كان قصصاً رومانسياً تكثر فيه الخوارق والعظائم والمفاجئات والمخاطرات. وقد تخلف من كل ذلك تراث حافل من نثر وشعر، يتمثل في أساطير الأولين من مصريين وفرس وإغريق ورومان، وبارتقاء الجماعة العقلي يتخلص العلم رويداً رويداً من آثار القصص والخرافة ويختص الأدب بتلك الآثار وتتمثل في شعر الملاحم وما شاكله.

وإذا ما ظهر النثر الفني فقد ولت في آثاره أساطير الأولين تلك، وإن بطل الاعتقاد في كثير منها، وخطا القصص إلى المرحلة الثانية من مراحل تطوره، فاتخذ وسيلة لإسداء المواعظ وإذاعة التجارب وتحبيذ الفضيلة. أو لشرح النظريات العلمية أو الفلسفية ووضع لذلك على ألسنة الطير والحيوان، أو أفواه الأرواح والجان، وصيغ أحياناً في شكل حوار، كما يرى في قصص إيزوب وجمهورية أفلاطون وحكايات لافونتين وكتاب أميل لروسو؛ ويتطور القصص الشعري أيضاً فتظهر الرواية الشعرية التمثيلية، وتحل محل الملحمة، وينفصل التاريخ مستقلاً عن الأدب متخلصاً جهده من الأساطير، وإن ظل الاتصال بين التاريخ والأدب وشيجاً طول العصور.

فإذا اطرد رقي الحضارة ونمو العلم وازدهار الأدب ورواج النثر الفني، خطا القصص إلى مرحلته الأخيرة نحو الكمال، فصار فناً مستقلاً من كل غاية خارجة، غايته الوحيدة غاية كل الفنون، وهي الجمال والشعور وتصوير النفس الإنسانية، وصارت له قواعده وتقاليده المفهومة، وبلغ مكانة ضرب راق من ضروب الأدب كالملحمة والدراما والخطابة، وسامي به النثر الشعر وباراه جولانا في ميدان النفس الإنسانية وأداء لوظيفة الأدب، وظهر في مضماره من فحول الكتاب من يضاهون فحول الشعر منزلة ونبوغاً، بل ظهر من الأدباء من يجمع بين الشعر والقصص، وذهب الوهم الذي كان سائداً من قبل من أن القصص مطلب هين، وقنص شهب البزاة سواء فيه والرخم.

وللقصص، إذا ما بلغ هذا الطور السامي من أطوار رقيه مزايا يختص بها دون غيره من ضروب الأدب منظومه ومنثوره فهو يمتاز برحب المجال رحباً يمكن من يمارسه من تناول أطراف الحياة المترامية، بين جد وفكاهة ووصف وحكمة وعلم وأدب، وهو يفسح للخيال متسعاً بعيد الآفاق، ويمتع اللب بما يعرض من دقائق الحياة وتفاصيلها إلى جانب جلائلها وبعيد أقطارها، وبه يعرض من أحوال الحب وأطواره ما يضيق الشعر نفسه ذرعاً باستقصائه إلى لمحات خاطفة، وقبل القصص كان النسيب وقفاً على الشعر دون النثر، والقصص لسهولة متناوله يذيع في الخاصة والعامة على حد سواء، على حين كان الشعر وقفاً على خاصة المثقفين.

ولذيوع القصص في الخاصة والعامة وجد فيه المصلحون وسيلة عديمة النظير لتر آرائهم ودعاياتهم، بتصوير الحال التي يكرهون وإبراز مساوئها وعرض ضحاياها والتنديد بجناتها وتشخيص سبل ملاقاتها، كل ذلك في أسلوب قصصي شائق تقبله النفس وتسيغه وتقتنع به اقتناعاً كان صعب المنال لو عرض عليها الأمر في صورة النصح أو الوعظ. ومن أشهر القصصيين الدعاة تولستوي وأبسن وآبانيز وغيرهم ممن كان لهم أكبر الأثر في الفكر الحديث وأعظم الضلع في التطور العقلي والمادي، وهو أثر قل أن يجاريه أثر الشعر في سالف العصور.

فالقصة ضرب من الأدب مرن، يجمع مزايا الشعر كالخيال والعاطفة إلى مزايا النثر كالرحب والدقة والاستقصاء والفائدة العملية، وهي بهذا تلائم العصر الحديث أكبر ملائمة، وهذا سر ذيوعها حتى كادت تعطل ما عداها من ضروب القول، فقد تهيأت الأسباب من القرن الثامن عشر إلى اليوم لنهوض القصة الفنية، التي تدرس نفس الفرد وحياة المجتمع وتحلل العواطف وتشرح الآراء والمبادئ، وذلك برقي السواد الأعظم من الأمة بعد أن كان هملاً في غابر العصور، وانتشار التعليم العام وبروز شخصية الفرد وذيوع مبادئ الحرية والديمقراطية، هذا إلى ارتقاء الطباعة واعتماد الأدباء على الجمهور القارئ لا على رعاية الأمراء والوجهاء.

ولم تقتصر القصة في رقيها هذا الحديث على أن تميزت واستقلت ضرباً قاتماً من ضروب الأدب، يتوفر على ممارسته بعض أقطاب الأدب، بل تطورت القصة تطوراً داخلياً، وتميزت فيها ضروب من القصص يتوفر على كل منها بعض القصصيين: فهناك القصة التاريخية التي تدور حول الملوك والعظماء السابقين، والقصة البيتية التي تصور المجتمع المتواضع تصويراً شائقاً، والقصة لنفسية التي تحلل بواطن النفوس معتمدة على نظريات علم النفس الحديث أحياناً، والقصة الإصلاحية التي تحاول تحسين حال العامل أو تعديل بعض النظم القانونية أو الاجتماعية، أو تقويم بعض المعتقدات والتقاليد، والقصة المستقبلية التي تتنبأ بما سيصير إليه الإنسان وتحاول تسديد خطاه إلى ما يجب أن ينزع إليه في مستقبله، والقصة البوليسية التي تعرض حيل المجرمين وخطط متعقبيهم من الشرطة، وقصة المغامرات التي تصف أعمال بعض الأفاقين ورحلاته في المجاهل.

هكذا يتطور القصص، من نوادر وأساطير بدائية واهية القصد منتشرة النظام، إلى صور فنية محكمة، ومن أشباح مبهمة وحوادث متضاربة إلى شخصيات ناطقة وسياق منطقي منسجم، ومن الخرافي والخارق والبعيد إلى الواقع والعلمي والحاضر، ومن الماضي بآلهته وأبطاله وعظمائه إلى الحاضر بمشاكله العادية وأفراده المشهودين، ومن اللفظ الطنان والخيال الشارد والعاطفة الثائرة إلى المعنى المتدبر والتأمل الهادئ والوصف المفصل؛ وهذه الصفات التي تكتسبها القصة في طورها الراقي تكتسبها معها أو بعدها الرواية التمثيلية التي هي أسبق من صاحبتها إلى الظهور، فتهجر الشعر إلى النثر، والخيال إلى الدقة، وتدرس النفس والمجتمع دراسة القصة لهما، لا تكادان تختلفان إلا شكلاً وطريقة تناول. فصاحب الرواية التمثيلية يترك أبطاله يرسمون شخصياتهم وأخلاقهم بأفواههم، وصاحب القصة لا يدعهم يفعلون ذلك إلا إلى مدى؛ ثم هو يتولى عنهم الشرح ويحللهم تحليلاً دقيقاً، ويكون من الأدباء من يجمعون بين كتابة الرواية التمثيلية والقصة المقروءة.

كان للإنجليز قصصهم وأخبارهم وأساطيرهم قبل أن يتحضروا كما كان لغيرهم من الشعوب. وكان كل ذلك يتداول شفاهاً، فلما تحضروا وعرفوا الكتابة كان الشعر كعادته أسبق إلى الرقي، فظهرت فيه قصص تشوسر المسماة حكايات كنتربري، ثم ارتقت الرواية التمثيلية في عصر إليزابث على يد شكسبير ومعاصريه رقياً عظيماً؛ وبدأت القصة النثرية في مرحلتها الثانية، فاتخذت وسيلة لغيرها: اتخذها صاحب كتاب (يوفيواس) وسيلة لشراح آداب الجنتلمان، واتخذها مؤلف (يوتوبيا) وسيلة لتصوير المدينة الفاضلة، واتخذها كاتب (أطلانطس) وسيلة لبسط النظريات العلمية، وفي كل هذه كان الفن هزيلاً والشخصيات مطموسة أو معدومة والسياق متداعياً.

ثم تهيأت الأسباب الاجتماعية والمادية والمعنوية سالفة الذكر اللازمة لدخول القصة طورها الثالث، طور الفن المنسجم المهذب الذي يتوفر على تحليل النفس ودرس المجتمع، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر، وقد بدأ ذلك التطور تدريجياً كما هو الشأن في كل تطورات الطبيعة والمجتمع الإنساني، فانسلخت القصة رويداً رويداً عن المقالة الاجتماعية التي كانت منتشرة إذ ذاك في الصحف الدورية على أيدي ستيل وأديسون: كانت تلك المقالة تهتم بالأحوال الاجتماعية، وتتعرض لشخصيات المجتمع تحللها، وأولعت بشخص واحد يدعى سير رودجر، تتتبعه في شتى المواقف وتنطقه بشتى الملاحظات وتحيطه بمختلف الشخصيات، فكان من مجموع تلك المقالات قصة ذات تصميم وشخصيات وبطل وحوار ووسط اجتماعي وهلم جرا، ولم يبق أمام الكتاب الذين جاءوا بعد أديسون وستيل، إلا أن يزيدوا التصميم إحكاماً والحوار تسديداً والشخصيات بروزاً.

وكان تاريخ القصة بعد ذلك خلال القرنين السالفين تاريخ تطور ورقي مستمرين، أحكمت أوضاعها وتعددت ضروبها وتتابعت أزياؤها، وظهر فيها كبار المؤلفين رجالاً ونساء: منهم فيلدنج وديفر وسمولت كتاب قصص المغامرات، وجين أوستن وشارلوت برونتتي ومسز جاسكل مؤلفات قصص المجتمع، وسكوت صاحب القصص التاريخية، ودكنز وبتلر أصحاب القصص الإصلاحية، وكونان دويل مخترع القصص البوليسية الذي صير اسم شرلوك هولمز علماً على ذلك الضرب من القصص، إلى غير هؤلاء من القصصيين الذين لا يحصون، وإلى غير تلك من ضروب القصص التي لا تستقصى. وفي تلك القصص تناول القصصيون أطراف الحياة المتباعدة وأمتعوا النفوس وأرضوا الفن، وما زالت القصة في صعود وكأنها لما تبلغ ذروتها.

وفي خلال ذلك الوقت كانت الرواية التمثيلية تتطور وتبعث بعثاً جديداً، على صورة مماثلة للقصة المقروءة، قوامها النثر السهل المرسل والواقع الحاضر، ومرماها درس المجتمع والشخصيات وتحليل الآراء والمذاهب، وظهر في مجالها أرنولد بنيت وبرناردشو وجالزورذي وغيرهم، وإلى الأخيرين يعزى الفضل في كثير من الإصلاح الذي طرأ على النظم الاجتماعية والمذاهب الفكرية في الجيل الأخير، حتى شبه شو بمكنسة كهربائية ذهنية، تنقي أوضار العقول من خرافات وتعصب وحماقات وتقاليد فاسدة.

وكان للعرب في جاهليتهم قصصهم وأخبارهم وأيامهم وأساطيرهم، متداخلاً كل ذلك في شعرهم ونثرهم، مختلطا بثقافتهم ودينهم، وقد تخلف كثير من ذلك بعد ذهاب الجاهلية، وظل مختلطاً بالأدب ممتزجاً بالتاريخ، يظهر في كتابات الجاحظ والأصمعي والطبري والاصبهاني، وغيرهم من الكتاب والمؤرخين على السواء؛ وحيكت نوادر جديدة حول أعلام الحب والحرب، وكابن أبي ربيعة وأبي نؤاس وعنترة ومهلهل؛ وحوى القرآن الكريم طرفاً جليلاً من شائق القصص، وما زالت السور المحتوية على قصص يوسف ومريم ونوح من أقرب سور القرآن إلى نفوس الخاصة والعامة؛ ثم انتشرت الكتابة وذاع النثر الفني، فدخل القصص طوره الثاني: الطور الذي فيه يستخدم وسيلة لغيره، فاتخذ في كليلة ودمنة وسيلة لبث الحكمة، وفي رسالة حي بن يقظان ذريعة لشرح مسائل الفلسفة، ولا حاجة إلى القول بأن خصائص القصة الفنية في هذه الكتب وأمثالها كانت ضعيفة واهية.

ثم تمهدت بعض أسباب دخول القصة في طورها الثالث الفني: باستقرار الحضارة والرفاهة، ونضج الثقافة ورواج سوق الأدب وكان ذلك في القرن الرابع، فبدأت تنمو بذور القصة الفنية التي تدرس المجتمع وتحلل الشخصية وتهتم بالتصميم الفني والفكرة الموحدة، ويبدو كل ذلك في مقامات بديع الزمان، فهذا الكاتب يمثل في العربية من هذه الوجهة مكان أديسون وستيل في الإنجليزية، وقد أبدى في ثنايا مقاماته من نفاذ النظرة وبداعة الوصف وبراعة الفكاهة وتنوع الموضوعات ما هو جدير بأسمى أنواع القصص؛ واخترع شخصية أبي الفتح الإسكندري فكان على الأرجح المؤلف العربي الوحيد الذي أخترع شخصية شائقة واضحة من صنع الخيال المجرد. ولم تكن شخصيات المقامات التالية فيما بعد إلا نسخاً مكررة منه لا ابتكار فيها، وشخصية أبي الفتح الإسكندري تعين من مراحل تطور القصة العربية نفس المرحلة التي تعيها شخصية سير رودجر ديكفري من تطور القصة الإنجليزية.

فمقامات البديع في الأدب العربي بمثابة مقالات أديسون وستيل في الأدب الإنجليزي: تعين بدء ظهور القصة الفنية الاجتماعية التحليلية، بيد أن تطور القصة العربية وقف عند هذا الحد لا يتخطاه. ولم يبلغ مرحلته التالية، لأن الأسباب اللازمة لذلك لم تكن مكتملة: فالمقامات ذاتها قد ظهرت متأخرة، ظهرت في أوج رقي الأدب العربي في القرن الرابع. وكان أجدر أن تأتي متقدمة في القرن الثاني مثلاً، فيليها باقي التطور المنشود الذي تلا مقالات أديسون وصاحبه في الإنجليزية، وما ذاك إلا لنزعة الجمود والتقليد التي كانت دائماً مخيمة على الأدب العربي، تمنع المغامرة الأدبية والابتكار والتنويع في الأشكال والموضوعات، وفقدت المقامات بعد بديع الزمان صبغتها الاجتماعية وأصبحت لعباً بالألفاظ والمعاني.

أضف إلى نزعة الجمود تلك استمرار اعتماد الأدب على الأمراء دون جمهور الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب، قلما يصور رجاله مشاكل الشعب أو يحاولون الأخذ بيده وقيادة طريقه: فالحريري مثلاً حين تتابع بديع الزمان وكتب مقاماته لم يكتبها بداع من داخل نفسه يدعوه إلى تناول مشاكل المجتمع ومطامع الشعب بالدرس ولعرض والإصلاح والتوجيه، بل امتثالاً لإشارة بعض الأمراء ممن (إشارته حكم، وطاعته غنم) كما يقول هو في مقدمته ومحال أن ترقى القصة الاجتماعية في مجتمع أدباؤه متنصلون من مشاكل شعبه لائذون بظل أمرائه.

زد على ذلك مكانة المرأة في المجتمع، التي كانت قد بلغت قبل أن يكتب البديع مقاماته حداً من التدهور بعيداً، بعد ما كان من امتداد الفتوح واختلاط الأجناس وتفشي التسري والعبث. فضرب على المرأة الحجاب، وخيم عليها الجهل واعتزلت المجتمع، والمجتمع بغير المرأة لا يخرج القصة الفنية التي تدرس الحب وتقدس الزواج وتشرح العواطف، وإنما ينتج الشعر المستهتر البذيء كشعر بشار وأبي نؤاس. وقد كان إنهاض حال المرأة نصب عيني أديسون وستيل وغيرهما ممن تلاهما من القصصيين كما كان الحب مداراً أكثر القصص، كما كان من النساء جم غفير من القصصيات كما تقدم.

وإلى نزعة التقليد التي كانت تسود الأدب العربي، كان ذلك الأدب ينزع إلى الصنعة اللفظية: فمقامات البديع ذاتها مثقلة بالصنعة والمحسنات، ولا غرو، فإذا كان الأدب قد تخلى إلى حد بعيد عن مشاكل المجتمع، فلم يبق له من مواد القول إلا النذر اليسير، فلما أعوزه الافتنان في المعاني التفت إلى اللاعب باللفظ، وإلى هذه الزركشة اللفظية قصد الحريري أول ما قصد في محاكاته للبديع، ولم يفكر قط في ابتكار جديد من جهة المعاني والأفكار ولم يحاول الزيادة عليه من جهة تناول الموضوعات الاجتماعية، بل اكتفى بالتقليد الشكلي، فجعل في كل مقامة شخصين يروي أحدهما عن الآخر، وتنقسم المقامة بذلك إلى قسمين. دهليز للقصة كما يقول العامة، والقصة ذاتها التي تبدأ بظهور البطل، ولم تجئ شخصية بطله في وضوح شخصية أبي الفتح وتعدد نواحيها.

فحالة المجتمع العربي، ونظام الحكم فيه، ومنزع الأدب العربي، كل هاتيك لم تكن ملائمة لتطور القصص إلى كماله، فوقف عند بدء الطور الثالث، وهو الطور الفني الصميم، فعرف الأدب العربي النوادر والأخبار والسير وما إليها، وعرف الحكايات ذوات المغزى العلمي أو الخلقي، ولم يعرف القصة الاجتماعية والنفسية ذات التصميم المحكم والشخصيات الواضحة، والفكرة الموحدة والغاية المستقلة والموضع الفني، ولم تسم القصة في الأدب العربي إلى منزلة عالية كالتي تمتع بها الشعر والخطابة والنقد، وظل للشعر المكانة الأولى وبقى مستأثراً بأكثر ضروب القول، ولم يظهر في القصة من الأعلام أمثال من ظهر في الشعر والنقد والخطابة، وترك القصص المطول الحافل بالوصف الاجتماعي والخيالي العامة.

فخري أبو السعود