انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 198/تلخيص وتعليق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 198/تلخيص وتعليق

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937



أسبوع الجاحظ

لمندوب الرسالة

بقية المنشور في العدد الماضي

اليوم الرابع

كتابا الحيوان، والبيان والتبيين هما أهم ما للجاحظ من الآثار التي وصلتنا، والتي انتفع بها الكتاب والأدباء، ولقد كان اليوم الرابع للقول في هذين الأثرين الكبيرين، وكان درس الحيوان منوطاً بالأستاذ (كراوس) وكان الكلام في البيان والتبيين على الأستاذ مصطفى السقا.

وقد تكلم الأستاذ كراوس عن الحيوان كلاماً مستفيضاً فوضح غرضه وأهميته، وأهتم كثراً بتحقيق الصلة بينه وبين كتاب الحيوان لأرسطو فقال: إن أبا منصور البغدادي قد ذكر إن الجاحظ لم يعمل شيئاً إلا أن سلخ معاني كتاب الحيوان لأرسطو، ثم ضم إليه ما ذكره المدائني من حكم العرب وأشعارها في منافع الحيوان، وكان البغدادي هذا يطعن على الجاحظ، وكان كثير النيل منه، فقوله قول خصم لا يصح أن نقبله على علاته، ونحن وإن كنا نعتقد أن الجاحظ قد أتصل بالثقافة اليونانية ووقف على آراء أرسطو في الحيوان، إلا أننا نعتقد أنه ألف كتابه ليعارض كتاب أرسطو، وليقيم الدليل للشعوبية على إن العرب أصحاب علم ومعرفة كسائر الأمم، وقد أشار الجاحظ إلى ذلك إذ يقول في مقدمة الحيوان: (وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان إعرابياً، وإسلامياً جماعياً، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة. وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب كما يشتهيه المجد، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب)

ولذلك كان الجاحظ يهتم كثيراً بحشد أشعار العرب وأقوالهم وحكمهم في الحيوان، كما كان يهتم بالسخر من أقوال صاحب المنطق والضحك منها، فالبغدادي قد غبن الجاحظ وتجنى عليه وتنقصه بغير حق.

وتكلم الأستاذ السقا من بعد ذلك عن البيان والتبيين فقدم بين يدي الموضوع كلاماً طويلاً يتصل بشخصه أكثر مما يتصل بأمر الكتاب، فذكر أيامه في دار العلوم وهو طالب، وقال: إنه كان يكره البيان والتبيين ويستثقله وينفر منه، حتى حببه إلى نفسه نصيحة أستاذ مخلص، فأقبل عليه وأنتفع به في ثقافته الأدبية، وبلغ من إعجابه به أن كان يعاود قراءته، ثم عرض لموضوع الكتاب وذكر أبوابه وفصوله، وتكلم في أسلوبه وطريقته وأفرغ عليه كثيراً من الثناء والتمجيد، ومن العجب أنه ذكر تعريف الإنسان الذي نقله الجاحظ عن أرسطو فقال: إنه الحي الميت!! وقد سمعناه يعيده ثانيةً بهذا النص، وإنما هو الحي المبين على ما نعرف، ولكنه نطق التعريف كما جاء محرفاً في الكتاب!!

اليوم الخامس

وكان القول فيه للأستاذين إبراهيم مصطفى وأحمد الشايب، وكان موضوع الكلام للأستاذ إبراهيم مصطفى عن (دعاية الجاحظ)، وقد التبست الدعاية بالدعابة على السامعين، فانتظروا من الأستاذ أن يفيض عليهم من فكاهات الجاحظ ونوادره ولكنهم دهشوا إذ رأوه لا يمس ذلك ولا يقترب إليه، فجاءوا باللوم العنيف على الأستاذ، وقالوا: إنه أهمل موضوعه وخرج عليه وما كان مبعث هذا كله إلا تلك (النقطة) الخبيثة التي أهملتها يد الطابع، فأساء إلى الأستاذ وأساء إلى السامعين!

وقد أبتدأ الأستاذ القول في دعاية الجاحظ بما كان بينه وبين أبي هفان إذ قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟! فقال: امثلي يخدع عن عقله؟! والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرةً، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة!

وعلق الأستاذ على هذه النادرة فقال: ونحن إذا تأملنا هذه النادرة نجد إن أبا هفان الشاعر قد تراجع أمام الجاحظ الناثر، أو بالأحرى نجد الشعر قد أنهزم أمام النثر، ذلك لأن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر، فاستخدمه في موضوعات لم تكن له من قبل، وراضه على سبل استعصت على الكتاب السابقين، ثم إن الجاحظ في نثره قد أهتم بالتقرب من الجمهور ما استطاع، فأخذ يطرق الأمور التي تشغل بالهم، ويكتب في المعاني والأغراض التي تحيط بهم في حياته الأدبية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ولما قامت الفتنة بين المأمون والأمين وأندفع الناس في تيار تلك الفتنة، كان ذلك مما مكن الصلة بين الجاحظ والجمهور، لأنه أبتدأ يؤلف لهم في هذا الذي انصرفت إليه عقولهم، فكتب كتاب الإمامة لهم، فوقع عندهم الموقع الحسن، وقد قرضه المأمون وأثنى عليه، وإن تقريظ المأمون في الواقع لأدق وصف لكتب الجاحظ وكتاباته.

على أن الجاحظ في تقربه من الجمهور والعامة لم يكن إلا متبعاً لتعاليم المعتزلة الذين أخذوا يعملون لدفع الجمهور للعلم، وتقريب المعارف من نفوسهم بشتى الوسائل الممكنة، ونحن إذا تأملنا كثيراً من كتبه نجده قد أختار موضوعاتها مما يليق بالجمهور ويروج عندهم مثل كتاب البخلاء

ولقد كان الجاحظ يدخل على نفوس العامة من ناحية أخرى هي ناحية الدعابة والتفكه، فإنه كان يحفل بذلك ويعتد به، ولست أذكر من فكاهات الجاحظ وأساليبه في ذلك ومبلغ قوته في التصوير، فإن من قرأ منكم شيئاً من كتب الجاحظ فقد أدرك ذلك وتحققه، ثم عرض الأستاذ لكتاب التربيع والتدوير فقال: إنه نمط من فكاهة الجاحظ، ولكنه ملأه بالأسئلة عن أشياء لا تصح، وفيها ما يدور في أذهان العامة والجمهور، ولم يعمل الجاحظ على أن يجيب عنها، وقد قال الجاحظ في آخره: فإن أردت أن تعرف الفاسد والصحيح من هذه الأسئلة فألزم نفسك باب داري، وقراءة كتبي

وعرض للجاحظ في موقفه من المرأة فقال: إن الجاحظ لم يتزوج ولم يؤكد علاقته بالمرأة، ولكنه قد دافع عنها وأكبر من شأنها، وله كتاب (الحرائر والإماء) كتبه في مناصرة الإماء والثناء عليهن وتفضيلهن على الحرائر.

ثم تكلم عن أسلوب الجاحظ بما هو معروف، وقال إنه لم يؤثر في أحد من بعده تأثيراً فنياً، وإن ابن العميد الذي كان يتعصب للجاحظ، ويلقب في ألسنة الأدباء بالجاحظ الثاني لم يكن له من خصائص الجاحظ شيء، حتى القاضي الفاضل الذي يقول في كلام له: أما الجاحظ فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل في كتبه الحارة، وشن عليها الغارة، وخرج على كتفه منها كاره، لا نعرفه قد تأثر بالجاحظ في قليل ولا كثير، ثم أخذ يقارن بين الجاحظ وبين المبرد في طريقته وأسلوبه، ولم ينس ثعلباً في هذه المقارنة. . وانتهى بعد ذلك إلى القول بإن الجاحظ كان داعية كبيراً، قد استطاع أن يتصل بالجمهور إلى حد بعيد، وأن يؤدي لنفسه وللمعتزلة من هذه الناحية شيئاً كثيراً، فكان مثله في ذلك مثل الصحفي الماهر في أيامنا الحاضرة.

وقام من بعد ذلك الأستاذ أحمد الشايب للكلام في مآخذ الجاحظ فابتدأ القول بكلام الناس في ثقافة الجاحظ واتساعها وثنائهم عليه من هذه الناحية، وقال إن الجاحظ كان واسع المعارف حقاً، قد اتصل بكل النواحي الفكرية والعقلية في ايامه، ولكن ثقافته كانت ثقافة عامة أو قل ثقافة صحفية يتلقفها من دكاكين الوراقين، وقد كان ذلك مذموما في عصره حتى كانوا يقولون: هو صحفي إذا أرادوا الذم، ونحن نرى أن الجاحظ وإن كان قد ألم بكل شيء ولكنه لم يتبحر في شيء، فثقافته أخذ من كل شيء بطرف كما يقولون.

قال الأستاذ: ولقد أخذت أنظر الجاحظ في كل ناحية من نواحي ثقافته فما وجدته إلا على ما وصفت، ثم أنتقص كلامه في الحيوان، وأورد في ذلك كلام الباحث الفرنسي كارادفو في كتابه (مفكروا الإسلام) وقد كان غاية ما حاوله الأستاذ أن ينتقص جهد الجاحظ وآراءه في الحيوان والنقد والبلاغة، وفي كل ناحية من النواحي التي كتب فيها. وقال إنه كان ينتهب آراء غيره، وكان يخلط بين النقد والبلاغة، على أن هناك فرقاً بين الناحيتين، ولقد كان الجاحظ في مؤلفاته يثير كثيراً من المشاكل ويمس الأمور المعضلة القائمة في عصره فيستطيع أن يشخصها ويكيفها ويلقى فيها الأسئلة القوية، ولكنه كان يتركها عند هذا الحد، فلا علاج يشفي، ولا جواب ينتهي بالقارئ إلى رأي حاسم، ولذلك كان من السهل على الجاحظ أن يؤلف في الشيء ضده وأن يناقض نفسه بنفسه ما دام هو يقف في ذلك عند الآراء الشائعة والمسائل الذائعة في كل فرقة. ولقد روى أن أحد الأمراء أرسل إلى الجاحظ يطلب منه أن يحتج له في رأي، فكتب له الجاحظ بما طلب، فعاد الأمير يقول له: إن الخادم قد غلظ في تبليغ الرسالة إليك وإنما أريد أن تكتب في نقيض هذا الرأي، فلم يتورع الجاحظ على أن يكتب له.

قال الأستاذ: وقد كان الجاحظ من المتكلمين، وكان الجدل والكلام في عصره على غاية ما يكون من الشدة، ولكني لم أعرفه قد كتب كتاباً في أصول الجدل أو ألف في علم الكلام كما كانت تقتضيه وظيفته ويقتضيه عصره، ثم أنتقد الجاحظ في تحقيقه، وأورد كلاماً للمسعودي في ذلك إذ يقول: زعم الجاحظ إن نهر مكران الذي هو نهر السند من النيل. واستدل على إنه من النيل بوجود التماسيح فيه، وهذا تحقيق باطل ناقص، لأن الجاحظ أقامه على قياس منطقي نظري فاسد النتيجة ولو طاوعنا الجاحظ في قياسه لكن كل نهر فيه التماسيح هو من النيل، لأن النيل فيه التماسيح.

وكان من رأي الأستاذ أن غاية ما للجاحظ هو الأسلوب ففيه براعته وشخصيته ومميزاته. . . ثم انتقده بالتكرار الممل، وقال إن الجاحظ كان يستعمل عبارات ثابتة يكررها كثيراً حتى كأنها (كلشيهات) فهو ينقلها من كتاب إلى كتاب ومن موضع إلى موضع، ومثل لذلك بكلامه في اصطناع الكتب إذ أورده في كتابه الحيوان، وأعاده في المحاسن والأضداد، وكذلك كلامه عن الحسد وعبارات كثيرة يدركها كل من وقف على كتبه.

اليوم السادس

أما اليوم السادس وهو اليوم الأخير فقد اضطلع به الدكتور طه وحده، وكان عليه أن يملأ فراغه فمدَّ رواق القول على كثير من نواحي الجاحظ مع أن موقفه في القول كان عند (فكاهة الجاحظ) فتكلم أولاً عن إطراء الأدباء للجاحظ وما يجب أن يكون له من هذا الإطراء؛ ثم تكلم عن دعابة الجاحظ بما تكلم به الأستاذ إبراهيم مصطفى من قبل، فقال إن الجاحظ قد نصر النثر على الشعر وجعله أقرب وأعذب في نفوس الجمهور والعامة، ولقد أشرت إلى ذلك فيما كتبته في تقدمة نقد النثر لقدامة، وقد قلت إن الجاحظ أثر في ابن الرومي من هذه الناحية، فمهد له طريق التقصي في المعنى والإسهاب.

ثم تكلم في فكاهة الجاحظ فقال: ولقد كانت الفكاهة من النواحي البارزة عند الجاحظ، وما كان الرجل يقصد في فكاهته إلى الضحك والإضحاك فحسب، ولكنه كان يقصد أيضاً إلى التصوير، ويقصد التهكم والسخر، ويقصد إلى النقد والهجاء، وأورد في الاحتجاج لذلك كلامه في نقد الخليل بن أحمد. ثم ذكر بعض فكاهاته فذكر من ذلك قصته مع محمد بن أبي المؤمل البخيل، ثم أنتدب الدكتور محمد عوض ليقرأ طرفاً من رسالة الجاحظ للمعتصم أو للمتوكل يحضه على تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب، وفيها كثير من ألوان الدعابة والشعر الفكه.

قال الدكتور: وعندي أن الجاحظ كان كفولتير، فكما أن فولتير لم يكن عالماً فحسب ولا أديباً فحسب ولا فيلسوفاً فحسب ولا اجتماعياً فحسب، وإنما كان له في كل هذا وأكثر من هذا، فكذلك نجد الجاحظ له في الأدب والفلسفة والاجتماع إلى آخر ما هو معروف عنه؛ وكما أن فولتير لم يكن في سخره وتهكمه يقف عند حد الفكاهة ولكنه كان يقصد إلى كثير من الأغراض الشريفة، فكذلك كان الجاحظ، فالمشابهة قوية بين الرجلين.

ثم قال: فالجاحظ لا شك من الشخصيات الكبيرة، وأهل العبقريات النادرة، وهو حري بالذكر والتكريم، ونحن إذ نقوم له بهذا الأسبوع بمناسبة مرور أحد عشر قرناً على وفاته، فإنما نحن نؤدي له بعض الواجب، ولا أكتمكم يا سادة إذا قلت لكم إننا في حاجة كبيرة إلى دراسة الجاحظ في كتبه وآثاره دراسة وافية كما تجب الدراسة، فإننا مع الأسف لا نعرف عنه إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط إلينا من نوادره. وكلية الآداب إذا كانت قد فكرت في إقامة هذا الأسبوع فإنها أرادت أن تلفت الأذهان للعناية بالجاحظ، وأن تنبه على وجوب دراسة العبقرية الواسعة الشاملة.

هكذا قال الدكتور الفاضل ولست أدري إذا كانت كلية الآداب لا تعلم عن الجاحظ إلا ما هو شائع في المجالس وما يسقط من النوادر، وإذا كانت لم تقصد إلا لفت الأذهان، فمن الذي يكون عنده العلم بالجاحظ، ومن الذي سيؤدي عنها هذا الحق في النقد والأدب.

م. ف. ع