مجلة الرسالة/العدد 197/تاريخ العرب الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 197/تاريخ العرب الأدبي
19 - تاريخ العرب الأدبي
للأستاذ رينولد نيكلسون
الجاهلية: شعرها، وعاداتها، ودياناتها
ترجمة حسن حبشي
ومهما يكن من أمر صاحب هذه القصيدة فان أبياتها تنضح بالوثنية، وأسلوبها يدل على ذلك، كما أن أهميتها القصوى تتضح لنا من أنها أثارت جوته بعد أن قرأ ترجمتها باللاتينية فقام بطبع ترجمة لها بالألمانية مع نقد جميل للشعر في (الديوان الشرقي - وفي هذه القصيدة نرى الشاعر يصور كيف يلج به الثأر لخاله الذي قتله هذلي، ويصف بطولة القتيل وخلقه والغزوة التي قام بها وانتصاره (الشاعر) في النهاية على خصومه وظهوره عليهم فيقول:
إِن بالشِّعب الذيِ عندَ سَلْعٍ ... لقَتيلا دَمُه ما يُطَلُّ
خلّف العِبَْء عليّ وولى ... أنا بالعِبْءِ له مستقل
ووراء الثأرِ مني ابنُ أختِ ... مَصع عقْدَتهُ ما تُحَل
مُطرِق يَرشح سَماً كما أطْ ... رَقَ أفْعَى يَرْشح السُمَّ صِلُّ
خَبر ما نابَنَا مُصْمَئِلٌّ ... جلَّ حتى دَقَّ فيه الأجل
بزَّنى الدهرُ وكان غَشوماً ... بأبيٍ جارُه ما يُذَل
شامس في القُرِ حتى إذا ما ... ذَكّتِ الشِّعرَي فَبرْد وظِل
يابسُ الجنبينِ مِن غير بؤس ... وندِي الكفين شهْم مُدِل
ظاعن بالحزْم حتى إذا ما ... حلّ: حلَّ الحزْم حيث يَحُل
غيث مزْنٍ غامر حيْث يُجدِي ... وإذا يَسْطو فليْث أبل
مسبل في الحيِّ أحْوى رِفِل ... وإذا يغْزُو فسِمْع أزَل
وله طعمان أرْى وشَرْى ... وَكِلا الطعْمَينِ قد ذاقَ كل
يركبُ الهوْلَ وحيداً ولا يَصْ ... حُبُهُ إلا اليماني الأفَل
وفتُوٍّ هَجِروا ثم أسْرَوْا ... ليلهم حتى إذا إنجاب حلو كلّ ماض قد تردَّى بماض ... كسَنا البرقِ إذا ما يُسل
فأدَّرَكْنا الثَّأرَ منْهُمْ ولمَّا ... يَنْجُ مِ الحيَّين إلاَّ الأقلُّ
فاحتْسَوْا أنفاسَ نوْم فلمَّا ... هوَّموا رُعْتُهُم فاشْمَعلُّوا
فَلئِنْ فلَّتْ هُذَيل شَباهُ ... لبما كان هذيْلاً يَفِل
وبمَا أدْرَكَهَا في مَناخٍ ... جَعْجعٍ ينْقُبُ فيهِ الأضّل
وبمَا صَبَّحَها في ذُرَاها ... منْهُ بعْدُ القتْلِ نَهب وشَمل
صليَتُ منى هُذيْل بِخرْقٍ ... لا يَمل الشّرَّ حَتى يَمَلوا
يُنْهلُ الصَّعْدَة حتى إذا مَا ... نهِلَتْ، كان لها منهُ عَل
حلتِ الخمر وكانت حرَاماً ... وبلاْيٍ ما ألَمَّتْ تحُلْ
فاسقِنيها يا سوادَ ابنَ عمرو ... إني جسمي بعد خالي لخَل
تضحكُ الضبْعُ لقتلى هُذيْلٍ ... وترى الذيب لها يَسْتَهل
وعِتاقُ الطيرِ تَغدو بِطاناً ... تتخطاهم فما تستْقل
ولم تكن الفضائل التي استوعبها العربي عن الشرف معدودة كأنها صفات شخصية فطرية أو مكتسبة، بل إرثاً ورثه الخلف عن السلف منذ القدم، ولا بد له من أن يحافظ عليه تماماًً حتى يسلمه إلى أبنائه دون أن تشوبه شائبة ما، ولم يكن الأمل، في الخطوة بخلود النفس هو ما يحفز الشاعر العربي لأن (يقول القول ويفعل فعال الشرف)، بل كان الرغبة في أن يقاسم أسلافه ذكرهم، وينافسهم صيتهم. وهو بهذا ابعد ما يكون عن الفلاح الاسكتلندي، حين يقول في مثله الدارج (الإنسان بشخصه أياً كان اصله) لأنه كان ينظر نظرة الشك والريبة إلى هذه الجدارة التي ليس لها اصل مأثور عند الآباء:
ومَا تَسْتَوِي أحسَابُ قوٍم تُوُرثَت ... قديماَ وأحسَابُ َنبْتنَ معَ البقْلِ
وإن الحسب عندهم أشبه بحصن حصين قد جد في إقامته الآباء للأبناء أو كجبل شامخ يضرب بقنته في أجواز الفضاء، يرتد عنه مهاجموه بالفشل دون أن ينالوا منه شيئاً، وكان الشعراء يعرفون جيداً المفاخر والمثالب فيتشدقون بالأولى بشرف أجدادهم وكرم أرومتهم، ويتخذون الثانية أداة ينالون بها من أعدائهم دون رعاية أو اهتمام بقواعد الأدب والحشمة.
لقد وجهت عنايتي أن أورد في هذا المجال بعض الصفات الخاصة للشعر العربي إذا ما قورن بالشعر العبري أو الفارسي أو الإنكليزي، ولكن لما كان إيراد الأمثال ذا جدوى غير منكورة فإني أبدأ حالا بالتكلم عن القصائد الشهيرة بالمعلقات التي تحتل مكانة سامية وذروة رفيعة في الأدب العربي.
الأرجح أن كلمة معلقة قد اشتقت من قولهم (عِلق) أي الشيء النفيس الثمين العالي المستوى. إما لأن الإنسان يتعلق بها تعلقا شديدا، أو لأنها تعلق في مكان شريف أو بين واضح كبيوت المال أو في خزائن عامة وعلى مر الزمن تنوسي المدلول الحقيقي لكلمة معلقة، وأصبح من الضروري إيجاد تفسير مقبول منصوب لها وهنا ظهرت الخرافة التي أصبحت فيما بعد مألوفة لطول تكرارها وكثرة استعمالها، والتي تزعم أن تسمية المعلقات بهذا الاسم، راجعة لتعليقها بأستار الكعبة تقديرا لفضلها الذي قضى لها به المحكمون في عكاظ على مقربة من مكة؛ حيث يجتمع الشعراء متنافسين في إنشاد أروع ما دبجته قرائحهم، وأنها كانت تكتب بماء الذهب، على القباطي الواردة من مصر قبل تعليقها على الكعبة.
(يتبع)
حسن حبشي
-
لمحة. . .!
للسيد عمر أبو ريشة
أوقفي الركب يا رمال البيد ... انه تاه في مداك البعيد
ظمئت نوقه وجف فم الحا ... دي وغصت لهاته بالنشيد
والأشداء يلهثون كخيل ال ... غزو عادت من يومها المشهود
عصفت في جفونهم ريحك الهو ... جاء والشمس عربدت في الخدود
والصبايا من الهوادج ينظر ... ن إلى الأفق نظرة المفئود
ليس يبصرن منك غير هضاب ... في هضاب مبعثرات الحدود
غابت الشمس يا رمال وهذا ال ... ركب في قبضة العياء الشديد وخبا الليل يا رمال ال ... ركب أخنته وطأة التسهيد
فهوى فاقد الرجاء يرى المو ... ت مشيحا بمنجل من حديد
فتراءت إليه نار على البع ... د فكانت إيماءة للشريد
فسرى في سنائها فأطلت ... خلفها مكة الفخار التليد
يا عروس الرمال يا قبس التا ... ئه في مهمه الضلال المبيد
أمَن الركبُ في جمالك فردي ... هـ إلى ذكريات تلك العهود
يوم أرخى على جوانبك الوح ... ي جناحين من سماء الخلود
حاملا آية النبوة ما بي ... ن شفاه علوية التأييد!!
صَباها قبله على فم طفل ... قرشي النجار سامي الجدود!
وحواليه من حمام الفرادي ... س حسانٌ مرنَّحات القدود
ساحبات بيض البرود كما لو ... جمد النور فوق تلك البرود
يتزاحمن وإثبات ويلثم ... ن من الشوق مبسم المولود!
فإذا بالسماء تهمي تسابيح ... وتدوي أصداؤها في الوجود
وإذا الكون بعد عيسى تعرى ... نصب عيني محمد من جديد!!
درج الطفل والهداية تحبو ... هـ بتاج من السناء فريد
(وبحيرا) في الدير يضرب في ال ... ناقوس بشرى بالسيد المنشود
والذؤابات من قريش سكارى ... في هوى الجاهلية العربيد!
هتكت كبرياؤها سنن العق ... ل وصالت بشرعها المردود
كم بنات لم تنفطم وأدتها ... كفُ باغ على القضاء عتيد
كم وراء الجدران في الكعبة العص ... ماء من عابد ومن معبود
جلجلت صرخة النبي فردَّت ... رجع أصدائها أعالي النجود
وأشاحت يسراه بالمعول الصلد ويمناه بالكتاب المجيد!!
فتهاوت تلك الصفوف من الأص ... نام عن أوج عرشها المعقود
وتبارت - الله اكبر تعلو ... من شفاه المؤذن الغريد!!!
أخذت غضبة البداوة تخبو ... بعد إعنات ضلة وجحود إنها النفس لا تبدل طبعا ... الفته فكيف نفس الحقود
ومن الصعب أن يشاهد أعنى ... قبس الحق في الليالي السود
يوم (بدر) فض النزاع وبث ال ... رعب في كل أشهب صنديد
فقريش مغلوبة وأبو سف ... يان في شبة رجفة الرعديد
والميامين في المدينة يطوو ... ن سيوف السلام طي الغمود
فأتم النبي آيته الكبرى ... على شعبه الكريم الودود
وانطوت تعدها الهيولي فثارت ... فتنة في النفوس ذات وقود
وتلاشت كأنها حلم الذع ... ر بجفن المسهد المكدود!!
الفجاءات كم تزلزل عزماً ... وترد الرشيد غير رشيد!!
دفقت موجة الهدى تغسل الشر ... ك وتروي النفوس بالتوحيد
وتبث الوئام والحب والرح ... مة ما بين سيد ومسود
مذهب ضجت الأعاجم منه ... وتعاموا عن شرعه المحمود
ورأوا فيه ما يدك عروشاً ... شيدوها بالظلم والتهديد
فرمت بالكتائب الخرس (روما) ... وبأبطالها الغزاة الصيد
وطغى الهول والكتائب ماجت ... في خضم من القنا والبنود
فأطلت تلك الفلول من العر ... ب بعزم النبوة المشدود
وانحنت فوق ضمر تعلك اللج ... م وتنزو مجنونة في الصعيد!
وأغارت ترمي الفوارس رمياً ... وتحز الوريد أثر الوريد
كلما انهار حائط من جنود ... اتبعته بحائط من جنود
وضفاف (اليرموك) ترسل منها ... زمزمات الحداء لابن الوليد!!
جولة ترعف الصوارم فيها ... وتصيح الأكف هل من مزيد
جولة كفَّنت بها الروم حلماً ... بين أنقاض صرحها المهدود!!
وكأن اندحارها لم يرد (ال ... فرس) عن نشر بغيها المعهود
سخرت كل فيلق كسروي ... لم يذق قبل نكبة التشريد!
مزقته في القادسية تلك ال ... بيض والسمر في اكف الأسود إن طود الرمال تحمله الريح ... وتذريه في الفضاء المديد
بسطت كفها الهداية والشر ... ق تفيَّا بظلها الممدود
رافعاً مشعل الحضارة والغر ... ب صريع في غفوة من جمود
إن في الشام من معاوية ... السمح بقايا من الدهاء السديد
وببغداد مسحة من نعيم ... تتغنى بذكريات (الرشيد)
وبغرناطة من الملك النا ... صر آثار روعة (للنشيد)
أمة يعربية تركت في ... مسمع الدهر آية التمجيد؟
إنما عقلها البنون فزجوا ... بالمروءات في بطون اللحود
أسكرتهم لذائذ الترف الأه ... وج عن يقظة القضاء العنيد
وتلوَّت ما بينهم تنفث ال ... سُمّ أفاعي حفائظ وحقود!
وتناسوا ما بثه السيد الأع ... ظم من سنة الوئام الأكيد
وخبت نارهم وصُبَّت عليهم ... عاصفات التعذيب والتنكيد
فإذا جبهة الشموخ لطيم ... تتنزى بالجرح عند السجود
وانتهت سيرة الجدود إلينا ... فجررنا القيود أثر القيود
والتفتنا فلم نجد غير ملك ... مزقته أصابع التبديد
ونهدنا للذود عنه ولكن ... ما حملنا غير الإِباء الحميد!
ورجعنا فكم جريحا كئيب ... يتلوا وكم قتيل شهيدا!!
يا عروس الرمال يا قبس التا ... ئه في مهمه الضلال المبيد
نحن في هذه البلاد كذاك ال ... ركب غشى في طالع منكود
انظري فالجموع شاخصة الأب ... صار ترنو إلى ضياك الوحيد
فأمددي الكف للكرام فغبن ... أن تعيش الكرام عيش العبيد!
(حلب)
عمر أبو ريشة
-