انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 197/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 197/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1937



في سنن الله الكونية

تأليف الأستاذ محمد أحمد الغمراوي

عرض وتعليق - رجاء إلى لجنة ترجمة معاني القرآن الكريم

- واجب علمائنا الطبيعيين

للأستاذ عبد المنعم خلاف

تفضل حضرة الأستاذ الجليل العالم المؤمن محمد أحمد الغمراوي المدرس بكلية الطب بالجامعة المصرية والمنتدب للتدريس بكلية أصول الدين من الجامعة الأزهرية فأهدى إلي نسخة من كتابه الحديث (في سنن الله الكونية) فقلت عيني فيه بشوق الذي يعرف علم الأستاذ بالطبيعة وفقهه في الدين، لأني واحد من تلاميذ محاضراته ومحادثاته في العلم والدين في نادي المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهره، تلك المحاضرات التي كان لها كبير الأثر في إني صرت (آخذ الإسلام بروح العلم وآخذ العلم بروح الإسلام) كما يجب أن يكون وكما حققه هو في كتابه القيم، اتباعا لمنهاج القرآن وتلبية لدعوته العقول إلى الطبيعة.

والكتاب في العلوم الطبيعية، وقد درسه الأستاذ لطلاب قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد وازنته بما درسته في دور التعليم وما قرأته في المجلات العلمية من جهة ما فيه من مادة العلم الطبيعي فقط، وأؤكد للقارئ الكريم إنني خرجت منه بأشياء جديدة كثيرة ما عثرت عليها في غيره على كثرة ما قرأت من هذه البحوث التي احبها لأنها تصلني بالحياة وقوانينها وسيرها بالأحياء، في عبارة سهلة مشرقة محبوكة، لأن المؤلف فوق انه عالم طبيعي كبير، هو أديب ضليع ومنطقي يقظ لكل ما يدور حول ما يكتبه. يشهد له بذلك كتاب (النقد التحليلي لكتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين بك) الذي بين به أن له قلما سابقا في الأدب كسبقه في العلم. (وفي سنن الله الكونية) يقع في 222 صفحة عدا الفهارس وهو مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب: الأول في العلم والدين، والثاني في المادة واصلها وخواصها وأحوالها وأنواعها وتغيراتها. . . . الخ، والثالث في الطاقة وأبحاثها وآثارها. . . . الخ.

وأنت واجد في المقدمة إهابة بالمسلمين ومعاهد الدراسة الإسلامية ألا يغفلوا مباحث الفطرة وعلوم سنن الحياة لأن العلم بها جزء من العلم بدينهم وأصل من أصول قرآنهم الذي يتحدث بخمس آياته عن الطبيعة والنظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكيف بدأ الخلق. . . وان يعلموا أن رجل الدين لا يسيغ العلم إلا إذا قدم له بروح الدين، ورجل العلم لا يسيغ الدين إلا إذا قدم له بروح العلم، وهي حقيقة نفسية يجب أن يلتفت إليها. وفي التمهيد بحث قيم عن موضوع العلوم الطبيعية واثر دراستها في الوصول إلى فاطر الخلق والتوحيد بها بين العقل والقلب والعلم والعبادة.

أما الباب الأول فهو بحث جديد قيم عن العلم والدين، جدير بان يترجم إلى المجامع العلمية، وان يدرس في المعاهد الإسلامية، لان الأستاذ استطاع أن يبين بوضوح قرآنية اسم (العلم) بمعناه المحدود العصري، وقرآنية (موضوعه) وقرآنية (طريقته) ففتح بذلك فتحا جديدا (لعلم الكلام) الذي يجب أن يكون في هذا العصر بعيدا عن منهج النظار والمتكلمين القدماء الذين كانوا يعتمدون على (تجريدات) الفلسفة اليونانية.

إن قوانين العلم التي استخرجها الأستاذ من القرآن الكريم شيء ثمين جداً سيكون له أثر عظيم في تطور الفلسفة الدينية، وفي لفت الأنظار إلى القرآن الذي أتى بذلك قبل أن يأتي به فلاسفة العلم المحدثون بأحقاب وازمان؛ فالبرهان للإثبات، والحذر من تطرق الظني إلى اليقيني، والغرضي إلى الظني، ومنع الخلط بين الأشخاص في المبادئ ومنع التقاليد وتحكيم العقل العام ثم قانون توافق واطراد الفطرة ثم اعتبار أصل المشاهدة واستعمال الحواس، كل أولئك استطاع أن يتبسط فيه الأستاذ المؤلف بالشرح والبيان وان يستخرج مستنداته من القرآن الكريم، وان يحبكه حبكة علمية بإخراج فني أخاذ.

وأضف إلى ذلك انه عقد مقارنة بين العلم القديم والعلم الحديث فيها كثيرا من أغلاط العلم القديم التي جره إليها طريقته وافتراضاته. وقد وقع بعض المسلمين في خطأ كبير وأثم عظيم باعتمادهم على ذلك الأسلوب الفرضي حتى لقد بلغ بهم الأمر أن كانوا يردون القرآن إليه مع إن منهاج القرآن في طرق الإثبات والاستدلال واضح بينهم ينكر عليهم الشرود والوهم، ثم عقد الأستاذ فصلا بين فيه أدوار النظر العلمي من جمع الحقائق بالتجربة والمشاهدة، ثم استخراج القانون، وبين طرق اكتشاف قوانين الفطرة بالاستقراء والتلمس، ثم ضرب مثلين يوضحان طريقة التلمس، وختم هذا الباب القيم بهذا الكلام البديع: (إن هذه الحقائق الطبيعية التي يكشف عنها العلم ببحوثه إن هي إلا نوع من كلام الله أو هي كلمات الله الواقعة النافذة كما أن آيات القرآن هي كلمات الله الصادقة المنزلة. وقد سمى القرآن حقائق أسرار الخلق كلمات الله في مثل قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) - (لقمان) (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف). وكلمات الله في هاتين الآيتين الكريمتين لا يمكن أن تكون كلماته المنزلة على رسله لأن كلماته سبحانه في كتبه المنزلة محصورة محدودة في حين أن كلماته المشار إليها في هاتين الآيتين لا حصر لها ولا نهاية. فلا بد أن تكون هي كلماته النافدة في خلقه والتي يبدو أثرها متجسماً فيما نشاهد من الحوادث وفيما يكشف العلم من أسرار الكون فالإسلام متسع للعلم كله حقائقه وفروضه؛ والمجتهد مثاب أخطأ أم أصاب ما دام يريد وجه الحق، وان كان العلم لا يعرف إلى الآن إن سبيل الحق من سبيل الله)

أما بابا (المادة والطاقة) ففيهما يعرض الأستاذ المباحث الطبيعية عرض المطلع عليها في مراجع العلم القديم والحديث، وفيهما مواقف ناجحة في تطبيق بعض الآيات الكونية في القرآن على حقائق العلم مما يضيف ثروة جديدة لنواحي إعجاز القرآن تمتلئ بها عقول الدعاة والوعاظ؛ ففي مباحث الجاذبية والأثير والظواهر الجوية والتمثيل الخضري والضوء والظل والفيء حقائق أشار إليها القرآن يجدر بكل مسلم أن يعرفها ويجدر بلجنة ترجمة معاني القرآن أن تنتفع بها، فلا تقف عند ما كان يفهمه منها العرب الذين انزل عليهم كما أشارت إلى ذلك فيما وضعته من القواعد الأولية التي تسير عليها في الترجمة، فان القرآن ليس كتاب جيل واحد؛ ولنا أن نفهم منه غير ما كانوا يفهمون وبخاصة الآيات الكونية التي لم يكن علمهم ولا علم البشرية ليساعداهم على فهمها كما نفهمها نحن الآن. ولذلك كان القرآن يقول لهم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (فلا اقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم) (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) وان في وقوف الأستاذ المؤلف وهو عالم بقوانين الضوء والظل وفي القرن العشرين من قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) ومن قوله (ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً) وقفة العالم أمام حقيقة لا تزال مخبأة. . لشاهداً قائماً على إن في القرآن آيات لم تكن نازلة للجيل الذي شهد نزولها، فلا يصح أن نتحاكم نحن إلى فهمهم فيها مادام الزمن (اكبر مفسر للقرآن كما قال الشيخ حسن الطويل أستاذ الأمام محمد عبده) قد أرانا بسير العلم وجها آخر يحتمله اللفظ ولا يأباه الأسلوب العربي

ولا يضر القرآن شيئا أن تتغير الأوجه العلمية التي يفسر بها كل جيل آياته، ما دامت نصوصه هو ثابتة. وما دام كل جيل جد فيه ما يرضيه فان ذلك من أسرار إعجازه ومن عجائبه، فإذا فهمنا نحن مثلا معنى اللقاح من قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح) على انه تلاقح كهربائي بين الموجب والسالب في السحاب كما فسر الأستاذ الغمراوي. وفهمنا سر الاستدلال على البعث من قوله تعالى (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) كما بينه الأستاذ فاعتقد انه لا يضر القرآن أن فهم من قبلنا في هذين الموضعين وغيرهما وان يفهم من بعدنا غير ما نفهم نحن الآن. على إن الوجه العلني متى صار حقيقة دخلت في صف الميراث العلمي الثابت، فمحتوم على المفسرين أن يأخذوا به، كما يتحتم عليهم أن يؤولوا النص القطعي إذا لم يتفق ظاهره مع ما يلزمه العقل كتقرير القاعدة الأصولية.

وبعد فقد قرأت في مجلة الهلال عدد مارس سنة 1937 قبل أن أقرأ كتاب الأستاذ الغمراوي ثلاث مقالات عن الذات الإلهية لثلاثة من كبار علمائنا الطبيعيين هم: الدكتور علي توفيق شوشة بك مدير معامل وزارة الصحة، والدكتور احمد زكي بك مراقب مصلحة الكيمياء. والدكتور محمد ولي الأستاذ بكلية العلوم، فإذا بالدكتور شوشة بك يقول: إذا كان هناك أناس أحق بمعرفة الله ودرك عظمته والإقرار بوحدانيته فهم العلماء، ذلك لأنهم اكثر خلق الله اتصالا بالطبيعة وأقربهم إلى لمس غوامضها ثم يقول: إنني كلما جلست إلى المكرسكوب أو انصرفت إلى التجارب في معملي لم ازدد إلا خشوعا أمام تلك القدرة الإلهية

وإذا بالدكتور زكي بك يقول في آخر مقاله الطويل الممتع كأنه قصيدة، المطرب كأنه ترتيلة، المثبت لوحدانية الله بأسلوب عجيب. وبعد فتسألونني: ما صورة الله؟ تلك هي صورته: تلك المشيئة الهائلة العاملة التي لا تنام ولا تغفل، تلك الإرادة الواحدة التي تنتظم العالم جميعا ما عرفنا منه وما لم نعرف، تلك البصيرة النافذة في كل شيء، الشاملة لكل شيء التي هي ملء الأرض السموات التي أنا وأنت من بعضها، تلك الوحدانية الشائعة الجبارة الغامضة، هي الصورة التي شاء الله أن نراها منه)

وإذا بالدكتور ولي يقول (هنالك يشعر الباحث الذي لم يتحيز إلى أي مذهب فلسفي والذي جرد نفسه من المؤثرات التي انكبت عليه أن هنالك سلطة وان هنالك قدرة فوق كل هذه المحاولات، وتنزهت عن كل هذه الصفات التي تعودها في أثناء بحثه واستقرائه) إلى أن يقول: (فالله هو هذه القدرة الباهرة التي تجردت عن الماديات وتنزهت عن كل ما هو مألوف للحواس)

قرأت هذا ثم قرأت كتاب الأستاذ الغمراوي الذي هو حجة من حجج إيمان العلماء، فإذا بي في عجب وأسف من أمر هؤلاء الذين أم يعرفوا من العلم إلا قشوره وزيوفه وهم مع ذلك قد نصبوا أنفسهم دعاة للإلحاد وإنكار الله استنادا إلى العلم! هؤلاء أكثرهم من الأدباء طالبي الشهرة الذين يغرهم ما (يصنعونه) من الألفاظ ويخيل إليهم غرورهم وفتنتهم بما يقولون انهم متى صنعوا جملة من الألفاظ فان مواكب الزمان ستقف عن المسير، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، لأن أقلامهم هذه معاول فيما يخيل إليهم، إذا ما أعملوها في أهول الحقائق وأعظمها وأملئها للكون إلا وهي (فكرة الله) فان ذلك سيجعل البشرية تستجيب إليهم تاركة ما في صيغتها وما تنادي به الأكوان والأزمان من الإيمان!

اجل إن أقلامهم معاول ولكنها لا تهدم إلا ضمير الجاهل أو طالب اللذة الذي يريد أن يتحلل من قيود هذه الفكرة، ومن رقابتها.

فهل آن الأوان لأن يجرد علماء الطبيعة - لا علماء الدين - حملة تدعو إلى الإيمان بالله عن طريق العلم، حتى يدحضوا بها حجج أدعياء العلم والفلسفة ممن هم في الواقع أعداء الجماعة وأنصار فوضى الضمائر والأوضاع كالشيوعيين الذين يحاربون الإيمان بالله لأنه في زعمهم منشأ الأوتوقراطية فيجب أن ينزلوه - تعالى عما يصفون - عن عرشه، كما انزلوا القياصرة والمملكين!

إني اعتقد أن ذلك من أوجب الواجبات على علماء الطبيعة الذين يعرفون الله اكثر من غيرهم والذين ما غرر بالناس إلا من طريق الانتساب إليهم. ولن يغني البشرية شيئاً انتفاعها المادي من علوم الطبيعة مادامت لا ترى اليد الجبارة التي تدير قوانينها، ولا تسجد لها طوعا كما تسجد كرها. وها نحن أولاء نرى الإنسانية تستحيل إلى قطعان من الحيوان لها من العلم الطبيعي سلاح لا تلطف وقعه تلك الفكرة الرحيمة التي تستمدها الضمائر من (رحمان) ولا يصده خوف من (جبار) ولا يمنعه خشية (من قيوم) على السموات والأرض، (ديان) للخلائق!

وإذا كان علماء الطبيعة من غير المسلمين لا يعترفون بإله معابدهم لأن له صورة غير صورة الإله الذي يجدون يده في الطبيعة فهم لذلك بعيدون عن محيط الدعوى إلى الإيمان والدين. . . فان من حسن الحظ في الإسلام أن إله الطبيعة الذي وصل إلى الإيمان به علماؤنا عن طريق الطبيعة. . . هو ذاته (الله) كما يصفه القران الكريم الذي ما مجد الطبيعة وظواهرها وما دعا إلى تعرف أسرارها كتاب مثل ما دعا. . . بل لقد بلغ من اعتزازه بها انه لم يترك ظاهرة من ظواهرها إلا اقسم بها. . . فأقسم بالزمان والمكان والحيوان والنفس والفجر، والضحى والليل والنهار والشمس والقمر والرياح والنجم والشفق. . . إلى آخر ما في الدنيا من ظواهر الخلق والأمر. . . أفلا يجب بعد هذا أن يبين علماء الطبيعة المسلمون أسرار هذه الأقسام؟ بلى إن ذلك من أمانة العلم قبل أمانة الدين

(بغداد)

عبد المنعم خلاف