مجلة الرسالة/العدد 197/القصص
مجلة الرسالة/العدد 197/القصص
من القصص العربي
حديث سمر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
على بساط من رمل الصحراء الأحمر، وفي ثنية من ثنايا الجبل السامق نحو السماء، وفي جو رخاء يتموج في جوانبه نسيم العشية البليل، أخذ القوم مجلسهم كالعادة يسمرون ويتفكهون! انهم فتية شبوا في ظلال الخفض والرفاهية، لم يثقلهم من الدهر هم. ولم يشغلهم من الحياة شاغل، فكلهم في بيته سليل المجد، وربيب النعمة وأخو الفراغ والجدة وكانوا من العمر في طور الشباب تغمرهم الأماني الواسعة وتستخفهم الأحلام اللذيذة، فالدنيا ما زالت في نظرهم حلوة خضرة، تتراءى لهم كالعروس قد جلتها يد الماشطة الصناع، فكلها إغراء وكلها فتنة، فتمردوا على العشيرة. وخرجوا على المجتمع، وجمعوا شملهم بالصداقة، وأقاموا الإخاء فيهم مقام القرابة، وشردوا عن أهلهم إلى البيداء، حيث مجال الحرية الواسع ومراد النظر السادر، وميدان الركض الفسيح!
وكان من عادة القوم أن يسمروا في بيدائهم، وكانوا يجرون في سمرهم على نظام متبع، وحياة رتيبة، فهم في كل أمسية حول واجد منهم يسري عنهم بالنادرة البارعة، ويفكههم بالملحة الشاردة، وكثيرا ما ينثني بهم نحو الماضي المنصرم، فيقص عليهم من ذكرياته الحلوة الطيبة، ومصادفاته الغربية
وها هم أولاء قد أخذوا مجلسهم على عادتهم في نظام واجد وأنصتوا. انتصب ذاكر منهم كان عليه حق الجماعة، ومن واجبه (حديث السمر) في تلك الليلة فقال: لقد انحدرت مع قومي فيما سلف من الزمن إلى بغداد، فاكترينا داراً شارعة على أحد الطرق المعمورة بالناس، وكنا في عيشنا نجري على طبيعة الدهر من الرخاء والبؤس، فمرة يغمرنا اليسر والرغد وطوراً يشملنا العسر والفاقة! لله تلك النفوس الطيبة يا إخوان؛ لقد كنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه؛ ولقد يبقى الواحد فينا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، وانحدرنا إلى اسفل الدار، ننتهب اللهو، ونهتاج العواطف بالطرب، فإذا ما عدمنا ذلك انصرفنا إلى غرفة نتمتع منها بالنظر إلى الناس، ولكن لا اعرف أن النبيذ خلا من أيدينا على أية حال.
فأنا لفي يوم من الأيام، صادفنا فيه افتقار القوت، وسعدنا منه بوفرة النبيذ وإذا بفتى يطرق علينا الباب طرقا، فلما صعد إلينا بعد الإذن ألفيناه حلو الوجه سري الهيئة، ينبئ رواؤه عن الخير، ويدل مظهره على النعمة، ابتدأنا بالتحية واستمر يقول: لقد سمعت بمجتمعكم، وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم. وعلمت كأنما أدرجتم في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني، وخذوني بأوضاع الاخوة لا بواجب الضيافة، فكنا في انس بلقياه، ونشوة من حديثه، ولكنا كنا أيضاً في هم وفكر من تدبير القوت له والحصول على الزاد الواجب لغذائه.
ولم يمضي كثير حتى أشار الفتى إلى غلامه فوضع بين أيدينا سلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وخلة، وأجبنا صاحبنا إلى ما طلب من حق الأخوة فلم نحتشم طعامه فحططنا فيه، ثم أفضنا في الشراب وأفضنا في الحديث، وانبسط الفتى معنا في الكلام فإذا به أحلى خلق الله إذا حدث، وأحسنهم استماعاً إذا حدث، وامسكهم عن ملامة إذا خولف. ثم أفضينا منه - على طول المقام - إلى اكرم محالفة، واجمل مساعدة، وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره. نطالع ذلك في إشراق وجهه. وانبساط أساريره، فصرنا نغنى به عن حسن الغناء، وشغلنا بأخباره وآدابه، وشغفتنا نوادره وآماليحه، ومع ذلك فما وقفنا على اسمه، ولا حققنا نسبه، وإنما عرفناه بأبي الفضل، وكنا ندعوه بذلك
وجلس في يوم يطرفنا بنوادره ويقص علينا شيئاً من تاريخه فقال: ألا أخبركم بم عرفتكم، ولماذا آثرت صحبتكم؟ قلنا: أنا لنحب ذلك ونطمع فيه، قال: لقد أحببت جارية في جواركم، فشغفت نفسي حبا، وتدله قلبي في هواها! فكنت اجلس في الطريق التمس اجتيازها فاراها! ودمت على ذلك حتى اخلقني الجلوس على الطريق، وأنكرت من نظرات السابلة، ورأيت غرفتكم هذه، ووقفت على خبركم في العيش وأخذكم بالائتلاف والمساعدة، فكان الدخول فيما أنتم فيه اسر عندي من تلك الجارية!
فقلنا: هون على نفسك يا ابن العم، وتمن في تحقيق مأربك، وسنجد في اختداع الفتاة حتى تصير إليك! فقال: حسبكم يا إخوان: إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراما قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها، وبغير هذا لا يكون الوصول إليها مني على بال.
وأمضى الرجل في اخوتنا شهرين فكنا في اغتباط بقربه، وانس من صحبته، ثم خالسنا الفراق على غفلة فنالنا بذلك ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، وما كنا نعرف له منزلا فنلتمسه، لا بابا فنطرقه. فوالله لقد كدر علينا بعده بقدر ما طاب لنا بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غما إلا ذكرناه لأفضال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته وغيابه، فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما انفك منهم على ذكر
وتصرمت على غيابه عشرون يوماً وكأنها الدهر، وما لنا مطمع في لقياه ثانية، فأن فترات الصفو محدودة، والحياة ضنينة في إرجاع ما كان، فبينا نحن نجتاز الرصافة يوما إذا به يطالعنا في موكب نبيل، وزي جميل، وما ابصر بنا حتى انحط عن راحلته وانحط غلمانه، وإني ما زلت المحه في أعطاف الماضي وهو مقبل نحونا في لهفة يقول: والله يا إخواني ما هنا لي بعدكم عيش، ولا طاب لي انس، ولا عرفت في نفسي معنى الصفو، ولست أماطلكم بخبري فإني أتبين فيكم اللهفة إلى ذلك فميلوا بنا إلى المنزل وهو قريب، فملنا معه عن رغبة، ولما تم بنا المجلس قال: لقد آن لي أن اكشف لكم عن نفسي! أنا العباس ابن الأحنف وطبعا سقط لكم شيء من أمري، وكان من خبري بعدكم أني تركتكم اطلب منزلي لحاجة، فإذا بالشرطة في طلبي، وفي كثير من السرعة مضوا بي إلى دار الخلافة ودارة الملك، فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس؛ إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك؛ وان الذي ندبتك في شأنه لجليل. فأنت اعرف بخطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن (ماردة) هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وقد جرى بينهما عتب، فهي بدل المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يتعالى على ذلك. فقل شعرا يسهل عليه سبيل الوصل، ويقرب له شقة المعاودة. ثم اطرحني إلى غرفة خالية وقدم القرطاس والدواة وقال هيا يا عباس!!
ولا أكتمكم يا إخوان لقد شرد مني الذهن وتبلد الفكر، فتعذرت على كل عروض ونفرت عني كل قافية، والرسل في كل فترة تعتبني والأمير يستحثني فما زلت أحاول وأداول حتى انفتح لي شيء فجئت بأربعة أبيات رضيتها إذ وقعت صحيحة المعنى، سهلة اللفظ، ملائمة لما طلب مني، وأخبرت عنها الوزير فقال في لهجة المستعجل: هاتها ففي اقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير الروي، ثم كتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصدَّ مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن الميتم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلوله وعز المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
فدفع يحيى بالرقعة إلى من حملها إلى الرشيد، فلما وقف عليها قال: والله ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به قصداً، ثم أخذ يعاود قراءتها وهو يقول: نعم! نعم! راجع من يهوى على رغم أي والله أراجع على رغمي، لقد تمادى الهجر فلا بد أن أراجع، هات يا غلام النعل، ونهض فوصل ما انقطع وكأن الخليفة قد أذهله السرور، فلم يسأل عن الشاعر الذي اطربه، ومضت فترة الرجاء وحسبت أني نسيت فراودت نفسي بالانصراف وغدوت على يحيى أستأذنه في ذلك فقال: مهلا يا عباس! لقد أمسيت أنبل الناس، إن ماردة لما وصلها الخليفة سألت عما حمله على ذلك فعلمت انه الشعر، وقد همها وهم الخليفة أن يعرفا الشاعر الذي قدم لهما هذه اليد فجاء الرسول يسألني في ذلك فقلت له انه (العباس بن الأحنف) فأمر لك الخليفة بجائزة طائلة، وأمرت لك ماردة بأخرى ولك مني يا عباس الثالثة، وان من تمام اليد عندك ألا تخرج إلا في الزي الجليل، والمركب الفاره!!
فهذا يا إخواني ما عاقني عنكم، فهلموا أقاسمكم ما نلت وأشاطركم ما كسبت فأبينا وأبى، وتمنعنا وأصرّ. ثم ذكر لنا الجارية، وقال هيا نمضي إليها حتى نشتريها، فمشينا إلى صاحبها وكانت جارية حلوة ظريفة لا تحسن شيئاً، اكثر ما عندها ظرف اللسان وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى ميل المشتري أسام بها خمسمائة فلما أجبناه بالعجب حط مائة ثم حط مائة، فقال العباس: مهلا يا إخوان، إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي. فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها، دعوني أعطه الخمسمائة كما طلب، قلنا: وانه قد حط مائتين، قال: وان فعل؛ فصادف ذلك من مولاها رجلا حراً فاخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين، وحملها إليه! ألا رحم الله العباس وطيب ثراه، فإنه مازال إلينا محسناً يرعى حق الأخوة فينا حتى فرق بيننا الموت!
محمد فهمي عبد اللطيف