انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 196/نتاج العبقرية المنسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 196/نتاج العبقرية المنسية

مجلة الرسالة - العدد 196
نتاج العبقرية المنسية
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



في الحسن بن الهيثم

للأستاذ قدري حافظ طوقان

يفكر الدكتور النابغ الأستاذ مشرفة عميد كلية العلوم للجامعة المصرية في إقامة مهرجان لأحياء ذكرى ابن الهيثم في العام المقبل بمناسبة مرور 900 عام على وفاته

ولا عجب إذ فكر العميد في هذا، فابن الهيثم من عباقرة العرب الذين نبغوا في الطبيعة والرياضيات والهندسة وقدموا جليل الخدمات لها، ولولاه ما كان علم البصريات (الضوء) على ما هو عليه الآن

ويؤلمني أن أقول إنه لو كان ابن الهيثم من أبناء أمة أوربية لرأيت كيف يكون التقدير وكيف يذاع اسمه وتنشر سيرته على الناس وتدخل في برامج التعليم ليأخذ منها الأجيال إلهاماً وحافزاً يدفعهم إلى الاقتداء به والسير على طريقته

أليس في عدم معرفة ناشئتنا وشبابنا شيئاً عن ابن الهيثم إجحاف وعيب فاضح؟ أليس إهمالا منا أن نعرف عن بطليموس وكيلر وباكون أكثر مما نعرف عن ابن الهيثم؟

ألا يدل هذا على نقص معيب في برامجنا الثقافية القومية؟ ولا يظن القارئ أن ابن الهيثم وحيد في هذا الإجحاف والإهمال فليس حظ أكثر علماء العرب ونوابغهم وعباقرتهم بأحسن من حظه، فها هي ذي حياتهم ومآثرهم لا تزال محاطة بغيوم الغموض وعدم الاعتناء وهي في أشد الحاجة إلى أناس يتعهدون إزالة الغيوم وإظهار المآثر على حقيقتها للناس. ولاشك أن في إظهارها إنصافاً لهم وخدمة للحقيقة، كما أن في عرضها على الناشئة من العوامل التي توجد فيهم الاعتزاز بالقومية والاعتقاد بالقابلية وشعوراً يدفعهم إلى السير على نهج الأجداد في رفع مستوى المدنية. ولا يخفى ما في هذا كله من قوى تدفع الأمة إلى حيث المجد والسؤدد، قوى تمهد السبل لتقوم (الأمة) بواجبها نحو نفسها ونحو الإنسانية فتساهم في بناء الحضارة وإعلاء شأنها

والآن نرجع إلى ابن الهيثم فنقول إنه ظهر في أوائل القرن الخامس للهجرة في البصرة ونزل مصر واستوطنها إلى أن مات سنة 1038م. وقد عرف الأقدمون فضله وقدروا نبوغه وعلمه فقال ابن أبي أصيبعة: (وكان ابن الهيثم فاضل النفس قوي الذكاء متفننا ف العلوم لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف وافر التزهد. . .) وقال ابن القفطي: (إنه صاحب تصانيف وتآليف في الهندسة، كان عالماً بهذا الشأن متقناً له متفننا فيه، قيما بغوامضه ومعانيه، مشاركا في علوم الأوائل أخذ عنه الناس واستفادوا. .)

وكذلك عرف الإفرنج قيمة ابن الهيثم فأنصفوه بعض الإنصاف واعترفوا بتفوقه وخصب قريحته فنجد دائرة المعارف البريطانية تقول: (إن ابن الهيثم كان أول مكتشف ظهر بعد بطليموس في علم البصريات. . .)

وجاء في كتاب تراث الإسلام: (إن علم البصريات وصل إلى أعلى درجة من التقدم بفضل ابن الهيثم) واعترف العالم الفرنسي لوتير فياردو بأن كبلر أخذ معلوماته في الضوء ولاسيما. ما يتعلق بانكسار الضوء في الجو من كتب ابن الهيثم. ويقول سارطون (إن ابن الهيثم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله. . .).

ولعل الأستاذ (مصطفى نظيف) أول عربي في هذا العصر أنصف ابن الهيثم بعض الأنصاف ووقف على التراث الضخم الذي خلفه في الطبيعة ولاسيما فيما يتعلق ببحوث الضوء. قال الأستاذ نظيف في مقدمة كتابه النفيس الفريد (البصريات) ما يلي:. . (والذي جعلني أبدأ بعلم الضوء دون فروع علم الطبيعة الأخرى أن علماً ازدهر في عصر التمدن الإسلامي وكان من أعظم مؤسسيه شأناً ورفعة وأثراً الحسن بن الهيثم الذي كانت مؤلفاته ومباحثه المرجع المعتمد عند أهل أوروبا حتى القرن السادس عشر. . .) فلقد بقيت كتبه منهلا عاماً نهل منه أكثر علماء القرون الوسطى كروجر باكن وكبلر وليونارده فنسي وبووتيلو وغيرهم. وكتبه هذه وما تحويه من بحوث مبتكرة في الضوء هي التي جعلت ماكسي وماير هوف يقول صراحة: (إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في علم البصريات. . .)

ومن أهم كتب ابن الهيثم وأكثرها استيفاء لبحوث الضوء كتاب (المناظر) ويتبين من هذا الكتاب أن ابن الهيثم هو الذي أضاف قانون الانعكاس القائل بأن زاويتي السقوط والانعكاس واقعتان في مستوى واحد. وقد أدخل فيه أيضا مسائل مهمة عرفت (بمسائل ابن الهيثم) اشتهر بعضها كثيراً كالمسألة الآتية: إذا علم موضع نقطة مضيئة ووضع العين، فكيف تجد على المرايا الكرية والأسطوانية والمخروطية النقطة التي تتجمع فيها الأشعة بعد انعكاسها. ويعود سبب شهرة هذه المسألة إلى صعوبات هندسية تظهر في أثناء الحل إذ ينشأ عن ذلك معادلة من الدرجة الرابعة استطاع أن يحلها (ابن الهيثم) باستعمال القطع الزائد. وأجرى تجارب عديدة تبين له منها أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة أثناء سيره في الهواء أو في وسط آخر، وأن الضوء إذا سار من وسط إلى وسط آخر انعطف عن استقامته. وقاس كلا من زاويتي السقوط والانكسار وبين أن بطليموس كان مخطئاً في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاويتي السقوط والانكسار ثابتة، وقال بأن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير ولكنه على الرغم من ذلك لم يوفق إلى إيجاد القانون الحقيقي للانكسار. واستعمل آلة لإيجاد العلاقة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار وهي تشبه الآلة التي نستعملها الآن. وعمل جداول أدق من جداول بطليموس في معاملات الانكسار لبعض المواد. وأتى على تجارب عديدة اثبت فيها انعطف الأشعة عند سيرها من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف. وقد شرح في بعض كتبه الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار فكان أسبق العلماء إلى ذلك. ومن هذه الظواهر التي ذكرها وشرحها الانكسار الفلكي أي أن الضوء الذي يصل إلينا من الأجرام السماوية يعاني انكساراً باختراقه الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض، ومن ذلك ينتج انحراف في الأشعة، ولا يخفى ما لهذا من شأن في الرصد. فمثلا يظهر النجم على الأفق قبل أن يكون قد بلغه فعلا، وكذلك نرى الشمس أو القمر على الأفق عند الشروق والغروب وهما في الحقيقة يكونان تحته. ومن نتائج الانكسار أن قرص الشمس أو قرص القمر لا يظهر بالقرب من الأفق مستديراً بل بيضوياً. هذه الظواهر وغيرها استطاع ابن الهيثم تعليلها تعليلا صحيحاً واستطاع أيضاً الوقوف على أسبابها الحقيقية. ومن الحوادث الجوية التي عللها الهالة التي ترى حول الشمس أو القمر. وقال بان ذلك ينتج عن الانكسار حينما يكون في الهواء بلورات صغيرة من الثلج أو الجليد فالنور الذي يمر فيها ينكسر وينحرف مع زاوية معلومة، وحينئذ يصل النور إلى عين الرأي كأنه صادر من نقط حول القمر أو الشمس فتظهر الأشعة دائرة حول الجرمين المذكورين أو حول أحدهما. وهو من الذين لم يأخذوا برأي اقليدس واتباع بطليموس القائل بأن شعاع النور يخرج من العين إلى الجسم المرئي، بل قال بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وبحث في كتابه أيضاً في قوى تكبير العدسات؛ ويرى كثيرون إن ما كتبه في هذا الصدد قد مهد السبيل لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين. وكتب في الزيغ الكرى وفي تعليل الشفق وقال انه يظهر ويختف عند ما تهبط الشمس 19 درجة تحت الأفق، وأن بعض أشعة النور الصادرة من الشمس تنعكس عما في الهواء من ذرات عائمة وترتد إلينا فنرى بها ما انعكست عنه. وبين أن الزيادة الظاهرة في قطري الشمس والقمر حينما يكونان قريبين من الأفق وهمية؛ وقد علل هذا الوهم تعليلا عملياً صحيحاً لم يسبق إليه، بناء على أن الإنسان يحكم على كبر الجسم أو صغره بشيئين: الأول الزاوية التي يبصر منها أو زاوية الرؤية، والثاني قرب الجسم أو بعده من العين. وابن الهيثم أول من كتب عن أقسام العين وأول من رسمها بوضوح تام. وقد اعتمد في بحوثه هذه على كتب التشريح التي كانت في زمانه، ووضع أسماء لبعض أقسام العين وأخذها عنه الإفرنج وترجموها إلى لغاتهم. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن ابن الهيثم كتب في تشريح العين وفي وظيفة كل قسم منها. وقد بين كيف ننظر إلى الأشياء بالعينين في آن واحد، وأن الأشعة من النور تسير من الجسم المرئي إلى العينين، ومن ذلك تقع صورتان على الشبكية في محلين متماثلين. ولعل هذا الرأي هو أساس آلة الاستريسكوب

وفوق ذلك هو أول من بين أن الصور التي تنشأ من وقوع صورة المرئي على شبكية العين تتكون بنفس الطريقة التي تتكون بها صورة جسم مرئي تمر أشعته الضوئية من ثقب في محل مظلم، ثم تقع على سطح يقابل الثقب الذي دخل منه النور، والسطح يقابله في العين الشبكية الشديدة الإحساس بالضوء، فإذا ما وقع الضوء حدث تأثير انتقل إلى المخ، ومن ذلك تتكون صورة المرئي في الدماغ. وله أيضاً معرفة بخاصيات العدسات اللامة والمفرقة والمرايا في تكوين الصور؛ وكتب في المرايا المحرقة وأجاد في ذلك إجادة دلت على إحاطته الكلية بمبدأ تجمع الأشعة التي تسقط على السطح موازية للمحور بعد انعكاسها عنه وكذلك بمبدأ تكبير الصور وانقلابها وتكوين الحلقات والألوان.

ويظن البعض أن ابن الهيثم لم يشتغل في الرياضيات، مع أن الواقع خلاف ذلك فله فيها بحوث تدل على سعة اطلاعه ونضجه العلمي، فلقد بحث في المعادلات التكعيبة بواسطة قطوع المخروط. ويقال إن الخيام رجع إليها واستعملها. وقد حل كثيراً من المعادلات بطريقة تقاطع المنحنيين وتمكن من إيجاد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محور السينات أو محور الصادات. وتنسب إليه بعض رسائل في المربعات السحرية واستعمل نظرية إفناء الفرق ووضع أربعة قوانين لإيجاد مجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوى 1، 2، 3، 4. وله بحوث في الهندسة تدل على تعمقه في علوم زمانه. ولقد طبق الهندسة على المنطق وألف كتابا يقول فيه. . . (. . . كتب جمعت فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب أقليدس وابلونيوس ونوعت فيه الأصول وقسمتها وبرهنت عليها ببراهين نظمتها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي اقليدس وابلونيوس. وله مؤلفات أخرى قيمة في الرياضيات والطبيعة منها كتاب شرح أصول اقليدس في الهندسة والعدد وتلخيصه كتاب الجامع في أصول الحساب. وكتاب في تحليل المسائل الهندسية، وكتاب في تحليل المسائل العديدة بجهة الجبر والمقابلة مبرهناً، وكتاب في حساب المعاملات وكتب أخرى في بحوث رياضية عالية. وله غير كتبه في الرياضيات والطبيعة كتب في الإلهيات والطب يربو عددها على الخمسين.

واشتغل ابن الهيثم في الفلك ويعترف بذلك سيدليو فيقول: (وخلف ابن يونس في الاهتمام بعلم الفلك جمع منهم حسن بن الهيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابا ومجموعة في الأرصاد وتفسير المجسطي. . .)

هذا بعض ما أنتجه ابن الهيثم في ميادين العلوم الطبيعة والرياضية يتجلى للقارئ منها الخدمات الجليلة التي قدمها لهذه العلوم والمآثر التي أورثها إلى الأجيال والتراث القيم الذي خلفه للعلماء والباحثين مما ساعد كثيراً على تقدم علم الضوء الذي يشغل فراغاً كبيراً في الطبيعة، والذي له اتصال وثيق بكثير من المخترعات والمكتشفات، والذي لولاه لما تقدم علما الفلك والطبيعة تقدمها العجيب، تقدماً مكن الإنسان من الوقوف على بعض أسرار المادة في دقائقها وجواهرها وكهاربها وعلى الاطلاع على ما يجري في الأجرام السماوية من مدهشات ومحيرات.

والآن نقف عند هذا الحد آملين أن تخرج فكرة الدكتور مشرفة إلى حيز الوجود فيكون بذلك قد أنصف عالما عالميا من أفذاذ علماء الطبيعة والرياضة. ويكون أيضاً قد أدى واجبا ثقافيا وطنيا هو من أقدس الواجبات، وأضاف مأثرة إلى مآثره العديدة في خدمة الثقافة العربية وبعثها.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان