مجلة الرسالة/العدد 196/على ذكر الحرب الأهلية في إسبانيا
مجلة الرسالة/العدد 196/على ذكر الحرب الأهلية في إسبانيا
نهضة العلوم الطبية في إسبانيا العربية وتأثيرها في أوربا
للدكتور زكي علي
من بين الكتب التي ظهرت أخيراً عن الحرب الأهلية المروعة القائمة في إسبانيا الآن كتاب (الثورة في إسبانيا) قال فيه مؤلفاه هاري جانس وتيودور رابارد في معرض الكلام عن ماضي إسبانيا: (إن طرد العرب من إسبانيا كان كارثة على مدنيتها وقد كان الباعث عليه التعصب للروح الإقطاعية السائدة في أوربا والرغبة في تقويض دعائم الثقافة العربية وتأثيرها)
وقد أعادت الحرب الحاضرة في إسبانيا ذكريات تاريخها الماضي وكيف كان عهد العرب أزهى عصورها، وكثيراً ما أشارت صحف أوربا إلى ذلك الماضي إما بالمقالات أو بالصور. وأذكر أنني رأيت صورتين رمزيتين تبعثان في النفس مزيد الاعتبار إحداهما في صحيفة أمريكية تمثل (عودة العرب) والأخرى على غلاف مجلة سويسرية مصورة تمثل (العرب على أبواب مدريد) إشارة إلى انتظام فرق من عرب المغرب الإسباني في سلك جيش الجنرال فرانكو لفتح إسبانيا، ولكن شتان بين الفتحين، وما أعظم الفرق بين العهدين. ولست بصدد الكلام عن تاريخ الفتوحات والحروب وإنما أحببت اتخاذاً الأحوال الحاضرة وسيلة للتذكير بما كانت عليه إسبانيا من النهضة على عهد العرب قاصراً الكلام على العلوم الطبية وما كان لها من تأثير ونفوذ في الحركة الفكرية في أوربا في ذلك الحين وهي التي صارت أساس نهضتها فيما بعد.
كان لتألق نجم الثقافة العربية في سماء إسبانيا على أثر الفتح الإسلامي أعظم الأثر في نهضة العلوم الطبية لا في إسبانيا وحدها بل في أوربا بأجمعها. وكان لما أولاه الخلفاء العلوم والفنون من العناية والتشجيع فضل كبير في ازدهار الحركة الفكرية والنشاط العقلي وانبعاث أضواء الحضارة العربية لتسري في سائر أنحاء أوروبا، وسرعان ما أصبحت إسبانيا أسطع درة في سلسلة الثقافة العربية الممتدة من ربوع الهند إلى أقصى غرب أوربا، وعن طريق هذه الحلقات المتصلة من مدنية الإسلام تدفقت الكنوز الضخمة من علوم الأقدمين التي كانت نسياً منسياً قبل أن يبعثها العرب ويضيفوا إليها كنوزاً غنية جديد بفضل عبقريتهم وأثر الإسلام في حضهم على البحث وحثهم على الكشف والدرس والتحصيل
وما أتى القرن العاشر للميلاد حتى كان العرب قد أحضروا إلى إسبانيا مجموعة ضخمة من التأليف العلمية والطبية الإغريقية العربية، ووضعوا بذلك أساس الحركة الفكرية التي دامت في عصرها الذهبي من القرن العاشر، إلى الثالث عشر، وجعلت إسبانيا في ذلك الحين، المركز الوحيد الذي يشع على أوروبا النور والعرفان، والذي سرت منه الثقافة العربية، حتى صارت ملموسة الأثر في سائر أنحاء الغرب
ونبغ في هذه الحركة طائفة كبيرة من علماء العرب وشخصياتهم الطبية البارزة، وكان لأعمالهم وتواليفهم أثر مباشر في نهضة العلوم الطبية لاسيما أن الخلفاء أكثروا من تشييد المستشفيات، وكانوا يلحقون بها المدارس الطبية ومدارس الصيدلة والمكاتب العلمية.
وقبل أن نخص بالذكر هنا اشهر البارزين في هذه النهضة نشير إلى ما يدل على مبلغ حضارة إسبانيا وازدهارها تحت حكم العرب، فنذكر أنه في القرن العاشر بلغ عدد سكان قرطبة أكثر من ثلاثمائة نفس، وكان بها خمسون مستشفى وتسعمائة حمام وثمانمائة مدرسة وستمائة مسجد ومكتبة ضخمة تحوي ستمائة ألف مجلد وسبعون مكتبة خاصة. وإذا ما أشرنا في هذا المقام إلى جامع قرطبة الشهير، الذي يعتبر من آيات الفن - لا في العصر الإسلام وحده بل في كل العصور - فإننا نذكر الكلمة الشهيرة التي وجهها شارل الخامس سنة 1526 إلى مجلس الكاتدرائية الكاثوليكية توبيخا لهم على تشييد الكنسية في قلب الجامع العظيم، إذ قال لهم: (قد بنيتم هنا ما تستطيعون، وكل واحد سواكم - بناءه في جهة أخرى ولكنكم خربتم ما كان فريدا في العالم كله)
وفي صدد الحضارة العربية أيضاً يقول الطبيب المؤرخ الأمريكي فكتور روبنصن صاحب (قصة الطب): (كانت أوروبا في ظلام حالك بعد غروب الشمس بينما كانت قرطبة تضيئها المصابيح العامة، كانت أوروبا قذرة، بينما قرطبة شيدت ألف حمام؛ كانت أوروبا تغطيها الهوام بينما كان أهل قرطبة مثال النظافة؛ كانت أوروبا غارقة في الوحل، بينما كانت قرطبة مرصوفة الشوارع؛ كانت سقوف القصور في أوروبا مملوءة بثقوب المداخن، بينما قصور قرطبة تزينها الزخرفة العربية العجيبة؛ كان أشراف أوروبا لا يستطيعون إمضاء أسمائهم بينما كان أطفال قرطبية العربية يذهبون إلى المدارس؛ كان رهبان أوربا يلحنون في تلاوة سفر الكنيسة بينما كان معلمو قرطبة قد أسسوا مكتبة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية العظيمة.)
والآن نعود لنذكر بين متقدمي المشاهير في النهضة الطبية ابن الوافد الذي اشتهر في أوربا باسم (997 - 1074) وكان طبيباً بمستشفى طليطلة وامتاز بأنه وضع أساس طريقة عقلية للعلاج مرتكزة على النظم الغذائية. وكان أشهر مؤلفاته كتاب الأدوية البسيطة طبع هذا الكتاب بعد ترجمته إلى اللاتينية أكثر من خمسين مرة. ثم هناك أبرز شخصية في النهضة الطبية العربية وفخر الجراحة العربية أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الذي عرفته أوروبا باسم (1013 - 1106) وإليه يرجع الفضل في النهوض بمهنة الجراحة إلى المركز اللائق بها وكانت قبله قد انحطت إلى الحضيض ولكن سرعان ما بلغت الجراحة على يد أبي القاسم الزهراوي أعلى مراتبها في ذلك العصر فانه ألف في الطب النظري والعملي كتابه الشهير (التصريف لمن عجز عن التأليف) وبه قسم خاص بالجراحة يقع في ثلاثة كتب استوفى فيها أبو القاسم علوم الجراحة وعملياتها وبين آلاتها بالصور فكان تأليفه هذا أول كتاب موضح بالصور والأشكال في الجراحة. ولا أجد في هذا المقام قولا أدل على مكانة الزهراوي من قول الأستاذ الشهير فورج من أعظم الجراحين الفرنسيين في الوقت الحاضر إذ كتب عنه منذ سنوات: (يعتبر الزهراوي بلا شك أعظم شخصية في الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجأ إليها كافة مؤلفي الجراحة العربية، وهو الحجة التي كان يلجئ إليها كافة مؤلفي الجراحة في العصور الوسطى مع أعظم الاحترام. وقد ولد في الزهراء (من ضواحي قرطبة) التي كان فرساي خلفاء بني أمية في الأندلس. ويستحق كتابه في (الجراحة) أن يبقى في تاريخنا كأول تأليف في الجراحة على أنها علم مستقل مؤسس على قواعد التشريح. وصار كتابه فيما بعد مرشد الجراحين منذ ترجمه إلى اللاتينية حول وسط القرن الثاني عشر جيرار دي كريمونا. ومما يبرهن على أن الزهراوي كان الثقة والعمدة في الجراحة والمشار إليه في علومها أن سلفنا العظيم جي دي شولياك جراح مونبلييه استشهد بأبي القاسم في مؤلفاته نحو مائتي مرة!
(ولا مراء في أن الجراحة العربية في ذلك الحين تقدمت تقدماً عظيما في الغرب. ويكفى أن نذكر أنه في أواخر القرن الثالث عشر لما قدم الجراح لانفرانك من إيطاليا ودرس مؤلفات أبى القاسم أصدر رأيه في جراحي باريس لذلك العهد بقوله: (يقومون بالعمليات الجراحية مع درجة من الجهل يكاد لا يوجد معها شخص واحد منهم يمكن أن يعد جراحاً حقيقياً! وقد كان أبو القاسم أول من كتب في علاج الأقواس الضرسية (في طب الأسنان) وتشوهات الفم، وأول من ربط الشرايين قبل امبرواز باريه الفرنسي. وقد وصف عمليات تفتت حصاة المثانة وعملية استخراجها بالشق، وتكلم عن مسألة التقيح ووصف الوضع المعروف باسم (وضع والحز) في التوليد، والشلل عقب كسر السلسلة الفقرية، وتكلم بدقة عن إزالة الأجسام الغريبة من الأذن، وأجرى عملية فتح قصبة الرئة وعالج الخراجات الكبيرة - بشقها وتفريغها تدريجاً، واستعمل محلول الملح في علاج الجروح، ووصف علاج الناسور بالكي. وهو أول من استعمل (السنارة) في استخراج الورم المسمى (يوليبوس) وتكلم في موضوع الولادة عن مجيء الجنين في الأوضاع غير المنتظمة، وعن التوليد بالآلات. وهو أول من أدخل استعمال الحرير وأوتار العود بهيئة خيوط للربط في العمليات الجراحية، وتكلم أيضاً عن وقف النزف بالكي، وقد بقي كتاب أبي القاسم في (الجراحة) أساس التعليم الجراحي ومزاولة مهنة الجراحة في أوربا عدة قرون، ونشرت ترجمته في فينا سنة 1497؛ وفي سنة 1500 كان المعول عليه في تعليم الجراحة في مدرسة البندقية بإيطاليا، وطبع أيضاً في (بال) بسويسرا سنة 1541
وأما أشهر أطباء العرب الاكلينكيين في الأندلس فهو محمد بن مروان بن زهر الاشبيلي وعرف في أوربا باسم (توفى سنة 1162) وهو ينحدر من عائلة عربية عريقة أنجبت كثيراً من الأطباء وذاعت شهرته الطبية في جميع الأنحاء. وهو أول من ثار على طريقة جالينوس وابتكر طرقا جديدة تدل على عبقريته؛ وأهم كتبه (التيسير) وفيه وصف شامل لأمراض عديدة. وكان ابن زهر أول من وصف التهاب التامور المصلي وخراج المنصف الصدري وشلل البلعوم والتهاب الأذن الوسطى. ووصف لبن الماعز في الدرن، ويعتبر أيضاً أول عالم بالطفيليات لأنه أول من أتقن وصف حيوان الجرب.
وأما أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي (1126 - 1198) الطبيب الفيلسوف العظيم فمع أنه بلغ ذروة الشهرة كفيلسوف الإسلام وشارح أرسطو فقد كان له أيضاً فضل لا ينكر في تقدم العلوم الطبية؛ وهو الذي هز بناء التعاليم الجالينية من أساسها، وزعزع نظرية صفة الأدوية الكثيرة في التذاكر الطبية، وهو أول من أشار إشارة علمية إلى الدورة الدموية في كتابه (الكليات) فسبق بذلك وليام هارفي. ومن أعظم الشخصيات الأندلسية في القرن الثاني عشر الفيلسوف الطبيب الإسرائيلي موسى بن ميمون الذي صار فيما بعد طبيباً خاصاً لسلطان صلاح الدين، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة والطب ترجمت من العربية إلى اللاتينية ومنها كتباه في (السموم والتحرز من الأدوية القتالة) وكتاب (البواسير) (وترى هنا صفحة من هذا الكتاب الأخير عن نسخة خطية نقلت عن الأصل الذي كتبه ابن ميمون بيده) وكتابا (الوصايا) في التغذية وقانون الصحة و (بيان الأعراض) و (مقالة في الربو) الخ.
ويمتاز ذلك العصر بازدهار فن الصيدلية أيضاً وظهور التواليف العديدة فيه. واسم (أبن البيطار) أشهر من أن يذكر، وقد ولد أبو محمد عبد الله بن احمد بن البيطار في (مالقة) وصار أوحد زمانه في علم النبات وأتقن دراية كتاب (ديسقوريدس) الإغريقي اتقانا بالغاً وكان حجة لا يباري في علوم الأدوية المفردة والحشائش، وأهم كتبه (الجامع في الأدوية المفردة) وهو فريد في بابه إذ يشتمل على وصف دقيق لأكثر من ألف وأربعمائة عقار كان جزء كبير منها جديداً في ذلك الوقت، وصار هذا الكتاب في الواقع المرجع الأساسي في أوروبا للمادة الطبية وعلوم الأغذية.
أما كتب الأدوية المركبة فكانت تسمى الأقرياذين (مأخوذة عن اليونانية) وهو اسم حرف فيما بعد في المحفوظات اللاتينية المترجمة عن العربية إلى كلمة والعرب هم أول من وضع دساتير الأدوية المعروفة الآن باسم (فارماكوبيا) وعنهم أخذتها أوروبا كما أخذت عنهم عادة وضع الأواني الزجاجية الكبيرة المحتوية على السوائل الملونة عند مدخل الصيدليات وكان نظام الصيدلة عند العرب يقضي بالتمييز بين مخازن العقاقير (ويقابله الآن لبيع العقاقير البسيطة بحسب تعريفة محددة وبين الصيدليات (الأجزاخات) لصرف العقاقير المركبة والتذاكر الطبية وكانت كلها موضوعة تحت الرقابة الشديدة بمقتضى القانون. وقد أدخل فردريك الثاني هذا النظام إلى أوروبا وأصدر سنة 1233 قانوناً بقي نافذ المفعول زماناً طويلا في صقلية، كان يكلف الطبيب بمقتضاه أن يبلغ عن أي صيدلاني (صيدلي) يثبت له أنه يبيع أدوية فاسدة
وقد أخذت أوروبا عن العرب استعمال كثير من الأدوية الجديدة ذات المفعول اللطيف والتي أدخلها العرب في المادة الطبية للعلاج مثل السنا المكي والراوند والتمر الهندي والمسك والقشية والمسن والكافور وجوز الطيب والقرنفل والزعفران والشمر وعرق السوس. وعن العرب أيضا أخذت أوروبا طريقة طلاء حبوب الأدوية بالورق المذهب أو المفضض وتقطير ماء الورد، كما أن أوروبا مدينة للعرب بإدخال الجوز المقيئ في القرن الحادي عشر والأكونيت (خانق الذئب) وشرح تأثير الإِرجوت (الجويدار) والحنظل والقنب الهندي والعنبر. وكان دستور الأدوية (الفارماكوبيا الإسلامية) في إسبانيا يحتوي على أكثر من مائتي نبات جديد لم تعرفها أوروبا من قبل. ولا يزال كثير من الكلمات العربية الأصل مستعملة في الصيدلة إلى اليوم منها الكحول والشراب والقلي والنفط والبازهر (بنزهير) والجلاب
ثم كان من مفاخر المدنية الإسلامية إنشاء المستشفيات في معظم المدن الكبيرة مثل قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة وبلنسية ومرسية والمرية ومالقة وغيرها، وكان نظام هذه المستشفيات وإدارتها وتجهيزها تجهيزاً وافياً على نسق لم تعرفه أوروبا في ذلك العهد. وفضلا عن أن هذه المستشفيات كانت مراكز لعلاج الأمراض فقد كانت أيضاً معاهد للتعليم الأكلينيكي وأكاديميات للمعارف الطبية، وكانت مجهزة بمكاتب طبية نفيسة. ويعزى إلى العرب أيضا الفضل الأول في إيجاد المستشفيات الخاصة بذوي الأمراض العقلية ومن أهم تلك المستشفيات ما أنشئوه في بلنسية، وقد شهد جميع مؤرخي الطب بأن للعرب فخر معاملة هؤلاء المرضى بالرفق والشفقة والإنسانية بينما كان (المجانين) في أوروبا يعاملون إذ ذاك كالمجرمين يعذبون ويضطهدون. وقد أعاد جوان جيلابرت جوفريه بناء مستشفى بلنسية للأمراض العقلية عام 1410
كذلك لما أراد فيليب الثاني عام 1566 أن يعيد تنظيم المستشفيات في مجريط (مدريد) أقام على أنقاض معهد سان لازاروا (وكان في الأصل مستشفى أسسه المسلمون) مستشفى جديداً باسم سان جوان دي ديوس، وضم إليه مستشفى دي لاباز للأمراض المعدية ولذوي العاهات.
وقد أظهر أطباء العرب في إسبانيا في فهم الأوبئة والعدوى مقدرة وذكاء منقطعي النظير بين كافة أطباء أوروبا في العصر القديم والعصور الوسطى، يدلك على ذلك إنهم بحثوا منشأ الأوبئة وانتشارها بالعدوى. وقد ألف الطبيب الشهير ابن الخطيب من غرناطة (1313 - 1374) كتاباً نفيساً عن (الطاعون) وصف فيه الطاعون الذي حل بأوروبا في القرن الرابع عشر وذكر فيه أن وجود العدوى تثبته التجربة ثم البحث ودليل الحواس ثم الرواية الموثوق بها عن انتقال المرض بالملابس والأوعية والحلي (كالقرط في الأذن) ومن شخص لآخر في المنزل الواحد وبإصابة ميناء سليم بوصول أناس مرضى من أرض موبوءة. . .!)
وكذلك كتب (ابن خاتمة) (توفي 1369) كتابا عن الطاعون الذي فتك بالمرية في إسبانيا في سنتي 1348 و1349، وهذا الكتاب يفوق في دقته كل ما كتب في أوروبا عن الطواعين من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر.
ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في ذكر سائر النوابغ من أطباء العرب في ذلك العصر. وإنما ننوه بأنه كان من أهم عوامل بث العلوم الطبية العربية ونشرها في أوروبا إنشاء مدارس الترجمة التي كانت أهمها مدرسة طليطلة التي شيدها في سنة 1130 الأسقف ريموند وازدهرت حتى القرن الثالث عشر.
وكانت جامعات العرب في إسبانيا إذ ذاك قبلة أنظار طلاب العلم من كافة أنحاء أوروبا فكانوا يفدون إليها من كل حدب وصوب لينكبوا على دراسة العلوم العربية وترجمتها ثم نقلها إلى بلادهم فظل النفوذ العربي سائداً في الغرب قروناً عديدة وظلت تآليف الأطباء العرب مدة خمسمائة سنة برنامجا لدراسة الطب في أوروبا.
ومما يدلك على مدى سريان النفوذ العربي وهيمنته على النهضة الطبية في أوروبا أن الطبيب الشهير بطرس ألفونسو (ولد سنة 1062) بعد أن أتقن الطب في مدارس العرب في إسبانيا قدم إلى إنجلترا ليكون طبيباً خاصاً للملك هنري الأول واشترك مع (والحز وبرايور أوف مالفرن) في وضع كتاب في الفلك اعتمد فيه على المصادر العربية، وكانت جهود هؤلاء الثلاثة بمثابة أول أثر للعلوم العربية في إنجلترا ثم لم ينقض بعد ذلك وقت طويل حتى امتاز أديلارد أوف بارت بكونه أول عالم أوربي كبير حضر إلى طليطلة للتخصص في العلوم العربية، فاتصلت بذلك الحلقة الثقافية بين إسبانيا العربية وإنجلترا. ومن ثم ازداد اهتمام العلماء في إنجلترا بعلوم العرب وتفوق من بينهم ميشيل سكوت (1175 - 1232) وروجر باكون (1214 - 1294)
فأما سكوت فكان طبيبا وفيلسوفا ومتضلعا في العربية، وبعد أن درس في اكسفورد وباريس انتقل إلى بالرمو وبولونيا بإيطاليا، ومن هناك واصل سفره في طلب العلم إلى طليطلة ليروي ظمأه من ينابيع حكمة العرب وعلومهم وفلسفتهم، واشتهر فيما بعد بتآليفه الكثيرة في الكيمياء والفلك والطب وكان أكثر اعتماده على المصادر العربية.
وأما روجر باكون فقد اشتهر في اكسفورد بكونه شارح الفلسفة العربية والارسطوطية وألف في علم البصريات كتابا نقل فيه عن كتب الخازن، وهناك في مكتبة مجلس كاتدرائية كانتربوري نسخة خطية مزخرفة من أواخر القرن الثالث عشر تسمى هي أقدم تفسير معروف لكتاب ارسطو في المنطق ظهر في إنجلترا على أثر إحياء العرب لفلسفة ارسطو، وهي تحمل اسم جون دي لندن الذي أخذ عن روجر باكون العلوم العربية.
ويرجع إلى العرب أيضاً فضل المحافظة على تراث الطب الإغريقي القديم وهناك حقيقة ذات أهمية قصوى في هذا الصدد وهي أن سبعة كتب من (تشريح جالينوس) وصلت أوربا عن طريق ترجمتها العربية أما أصولها الإغريقية فكانت قد فقدت.
وكان أشهر المترجمين للعلوم الطبية من العربية إلى اللاتينية (جيرار دي كريمونا) 1114 - 1187 الذي اشتغل في مدرسة طليطلة معظم حياته وأتم في العشرين السنة الأخيرة منها ثمانين ترجمة بعضها في غاية الأهمية، ومنها كتاب الجراحة لأبي القاسم الزهراوي وقانون ابن سينا، وكتاب المنصوري للرازي، وبعض أجزاء (الحاوي).
ومن أعظم المترجمين والمفكرين من الأوروبيين في العصور الوسطى جربرت دي أوريلاك (930 - 1003) الذي صار فيما بعد البابا سلفستر الثاني فإنه عبر جبال البرانس وأتى إلى طليطلة لتحصيل علوم المسلمين ونقلها إلى أوروبا القوطية، ثم إنه عاد إلى فرنسا وأذاع علوم العرب في مدينة (ريمس) ثم نقل تلك العلوم إلى أنحاء فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعتبر أحد واضعي أساس النهضة العملية والأدبية والدينية في أوروبا في القرن الحادي عشر ويقال إنه الذي أدخل إلى أوروبا الأرقام العربية.
ومن بين مشاهير الذين حضروا من إنجلترا إلى طليطلة روبرت أوف إنجلاند) (عاش حوالي 1143) وهو أول من ترجم القرآن ثم دانيل مورلي (1170)
وكان ارنولد دي فيلا نوفا (1235 - 1313) آخر العلماء الأسبان الذين كان لهم نصيب وافر من ترجمة مؤلفات العرب الطبية إلى لغات الغرب، وقد صار فيما بعد طبيبا خاصا لبطرس الثالث ملك أرغون، ودرس الطب في جامعة مونبلييه ونقل عن العرب استعمال الصبغات في الأدوية، وادخلها في دساتير الأدوية الأوروبية، كما أنه ترجم كتاب ابن سينا عن القلب
وقد أنار العرب لأوربا سبيل الدراسة المبينة على التجربة والمشاهدة ويقول مؤرخ مونبلييه الشهير جرمان (الفرنسي) إن بقاء مؤلفات الأطباء العرب في برنامج الدراسة الطبية في مونبلييه حتى ختام القرن السادس عشر خير شاهد على صفات الإيضاح والتنوير وعلى الطريقة التعليمية التهذيبية التي امتاز بها الكتاب العلميون في الأمة العربية)
وتوجد في سجلات كلية الطب بباريس قائمة جرد للكتاب الطبية بها في سنة 1395 تحتوي على اثني عشر مجلدا كلها مؤلفات لأطباء العرب. وكان لويس الحادي عشر دائم القلق على صحته ولهذا كان حريصاً على أن تكون في مكتبته كتب (الرازي) الطبيب العربي الأشهر ولم يكن منها إذ ذاك في مكتبة مدرسة الطب بباريس سوى نسخة واحدة فاستعارها الملك بشرط أن يردها وقد فعل!
وأرى في ختام هذا البحث أن أذكر كلمة المؤرخ (لبري): (لو لم يظهر العرب في التاريخ لتأخرت نهضة العلوم والفنون (الرينسانس) في أوروبا قرونا عديدة).
(جنيف)
زكي علي