انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 195/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 195/القصص

ملاحظات: الوالد Le Père هي قصة قصيرة بقلم غي دي موباسان نشرت عام 1883. نشرت هذه الترجمة في العدد 195 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 29 مارس 1937



الوالد

للكاتب القصصي جي دو موباسان

جان دوفالنوا صاحب لي لا أفتأ أزوره الفينة بعد الفينة. وهو يقيم في قصر له على ضفة جدول في بعض الغياض، وقد لاذ بهذا الكن بعد أن قصف وترف في باريس خمسة عشر عاماً سوية. وقد عرته بغتة ملالة من كل ما في هذه المدينة من مناعم ومآدب ورجال ونساء وملاعب، وجاء يعتزل في هذه الدار التي فيها ولد وفيها نشأ.

ونمضي إليه اثنين أو ثلاثة من الصحب نقضي معه أسابيع معدودات، ولقد كان سروره بنا إذ يلقانا بعد نأي، بالغاً شديداً، وابتهاجه باسترجاع ما أفلت منه من حبور بعزلته إذ نتولى عنه جماً وفيراً.

ولقد وفدت عليه في الأسبوع الماضي فهش وبش. وكنا نقطع الساعات تارة جميعاً وتارة منفردين، والعادة أن يقرأ هو واشتغل أنا بالنهار، وحين تأخذ عين الشمس في الإغتماض نقبل على السمر إلى أنصاف الليل.

وكنا في يوم الثلاثاء الماضي، وكان يوماً حروراً متلظياً، قد جلسنا في جنح ليله نتأمل جريان الماء في الجدول تحت أقدامنا، وكنا نتساجل ما يتوارد علينا من أفكار شديدة الغموض عن النجوم الخائضة في الماء وكأنها بين أيدينا تمرح سبحاً. كنا نتناقل ما تتمخض به أذهاننا من خواطر كثر غموضها واشتد اختلاطها وأفحش إيجازها، ذلك أن عقولنا شديد قصورها، مستفحل ضعفها. بالغ عجزها. أما أنا فقد كنت مشفقاً على الشمس المتوارية في الحجب لدى الطفل، كنا نفكر في هذه الكائنات المبثوثة في هذه العوالم، ومختلف أشكالها العجيبة التي يتقاصر دونها وهم الإنسان، وخواصها التي لا تدرك كنهها الفطن، وأعضائها الخفية المحجوبة. والحيوان والنبات وكافة الأجناس وسائر الجواهر وشتى المواد، مما لا تكاد ترتفع إليه أذهان الإنسان.

وبينما نحن كذلك إذا بصوت على بعد يصيح:

- سيدي، سيدي:

فقال جان: هلم يا يا تيست

فلما اهتدى إلينا الخادم قال:

- الغجرية يا سيدي

فجعل صاحبي يضحك كمن به مس، وما عهدته يضحك كذلك إلا نادراً، ثم قال:

إنا إذن في 19 يوليو؟

- نعم يا سيدي

- إذن قل لها تنتظر وأعد لها الطعام فإني عائد بعد عشر دقائق.

ولما انصرف الخادم أخذ صاحبي بذراعي وقال:

- فلنمش على مهل، إني قاص عليك قصة هذه المرأة.

منذ سبع سنين أي في السنة التي حللت بها هنا: خرجت في أصيل يوم أطوف في الغابة. وكان يوماً طلقاً صافياً كيومنا هذا وجعلت أسير متئداً تحت أفنان الدوح أتأمل نجوم السماء من خلل أوراقها، مستجلباً لرئتي بليل نسمات الليل وطيب زهر الغابة.

وكنت قريب عهد بهجري باريس. إذ تملكني سأم شديد وعافت نفسي كل ما رأت عيني وأخذت منه بنصيب من كل سخيف وزري وذميم مدة خمسة عشر عاماً.

وأمعنت في السير وتوغلت في مسالك هذه الغابة ومضيت في فج مها عميق يؤدي إلى قرية جروزي على مدى غلوة من هنا، وإذا بكلبي قد وقف فجأة ونبح، فظننت أنه رأى ذئباً أو وحشاً ضارياً فدلفت متسللاً كظيم الخطو ولكني سمعت بغتة صراخاً علا، صراخ إنسان يستغيث مختنقاً تتمزق له نياط القلوب من رحمة. فما شككت أنه رجل يغتاله مغتال في خميلة فعدوت لنجدته وبيميني هراوة غليظة ضربتها مردية

دنوت ن هذا الصراخ الذي كان ينجلي كلما قاربته ولكنه خفيض مع ذلك مكظوم، كأنه صادر من بيت، وربما من خص حطاب، وكان كلبي بوك يتقدمني على قيد خطوات تارة يعدو، وتارة يقف، ثم ينطلق انطلاق السهم هائجاً حنقاً مسترسل الهرير ولم نلبث أن برز لنا كلب آخر أسود عظيم الهيكل كأن عينيه جمرتان قد كشر عن أنياب عصل يلمع بين شدقيه بياضها

فهممت أن أهوي عليه بهرواتي ولكن بوك سبقني إليه فتلاحما وتصارعا وتجاولا، ومضيت أنا قدماً، وإذا بي أكاد أتعثر بجواد متطرح في الطريق، وإذ وقفت مبهوتاً أتأمل هذه الدابة لمحت عربة أمامي، بل بيتا طائفاً، أحد مساكن هؤلاء الباعة المتجولين

ومن ههنا كان مصدر هذا الصراخ الفظيع المتلاحق. ولما كان الباب من الناحية الأخرى، فقد درت بهذه العربة واندفعت أرقى الدرجات الثلاث الخشبية وأنا أهم بأن أصرع المعتدي بهراوتي

ولكني شاهدت عجباً، والتبس علي الأمر فلم أفقه لأول وهلة شيئاً: هذا رجل قد جثا على الأرض كأنه يصلي، وعلى الفراش الذي استوى في جوف هذه العربة شيء قد جثم لا سبيل إلى تمييزه: بشر نصف عار قد انطوى على نفسه وهو يتلوى كالثعبان لا أرى وجهه، يميد ويضطرب وكأن صراخه خوار ثور

فإذا هي امرأة تعاني آلام الوضع

فما إن أدركت كنه الأمر وتبين لي ما غمض من حقيقة هذا الحادث الذي كان عنه هذا الصراخ حتى أذنتهما بوجودي، فجعل الرجل وهو يشبه أهالي مارسيليا يسألني ملحاً ذاهب اللب أن أغيثه وأغيثها وهو يواثقني بكلام لا آخر له على الوفاء والذكر لجميل، بما أقضي منه عجباً. ولم أك قد رأيت ولادة قط، ولا أسعفت أنثى قط في مثل هذه الأحوال، وذكرت له ذلك في بساطة، وأنا أنظر ذاهلاً إلى هذه التي تصم الآذان جلجلة صراخها في هذا الفراش

ثم سألت الرجل الواهن الحسير وقد استرددت جأشي: ما بالك لا تذهب إلى القرية القريبة؟ فقال إن جواده هوى في حفير فانكسرت ساقه فهو رازح لا يريم

- فقلت له: يا هذا لا بأس عليك. الآن نحن اثنان. إنا سنتعاون في جر العربة بامرأتك إلى بيتي.

ولكنا لم يسعنا إلا الخروج إلى الكلبين. إذ علا هريرهما وما فصلناهما إلا بضرب بالهراوة شديد كاد يخمد أنفاسهما، ثم خطر لي أن أشدهما بين أقدامنا إلى العربة استعانة بهما، هذا يمنة وذاك يسرة وما انقضت عشر دقائق حتى كنا على تمام الأهبة. وأخذت العربة تسير الهوينا، فترج - باهتزاز عجلاتها فيما تخط في الأرض ممعنة من أخاديد - تلك المرأة المسكينة الممزقة الأحشاء ويالها من طريق! كنا نسير لاهثين لنا زفير مرتفع، وعرق ناضح، نزلق حيناً، وحيناً نقع، بينما الكلبان المسكينان يزفران بين أرجلنا كزفير النار

وقضينا ثلاث ساعات حتى بلغنا القصر، وإذ دنونا من الباب انقطع الصراخ داخل العربة. وإذا الأم والمولود في أحسن حال، وأرقدنا الأم وطفلها في فراش وثير. ثم ركبت عربتي لأستحضر الطبيب بينما كان صاحبنا المارسيلي وقد اطمأنت نفسه، يلتهم الطعام في شراهة ويحتسي حتى لا يعي من سكر ابتهاجاً بهذه الولادة السعيدة وكانت بنتاً

وأقام عندي هؤلاء النفر ثمانية أيام، والوالدة وهي السيدة ألمير لها بصر بالغيب عجيب، وقد بشرتني بحياة مديدة ومناعم عديدة

وفي العام الذي بعده وفي مثل هذا اليوم لدى الغسق جاء الخادم الذي حضر من هنيهة يدعونا، وكنت في حجرة التدخين بعد طعام العشاء، يقول: (غجرية العام الماضي جاءت تشكر سيدي)

فأمرت بدخولها، وعرتني دهشة إذ رأيت بجانبها غلاماً بالغاً أشده، ممتلئاً شحماً ولحماً، أشقر اللون من أهالي الشمال، فسلم علي ثم جعل يقول كزعيم لطائفته إنه علم ما كان من إكرامي للسيدة إلمير، وأراد أن لا تمر هذه الذكرى دون أن يفدا للشكر والاعتراف بيدي عليهما

وقد أكرمت مثواهما وأمرت بإحضار الطعام لهما في المطبخ وأوفرت قراهما ليلتهما، واحتملا في الغد

وهكذا في كل عام في نفس اليوم تفد هذه المرأة مع مولودها ذاك، وهي طفلة رائعة الحسن، وفي كل مرة مع. . . رجل جديد. إلا واحداً منهم فقط هو من أهالي أوفرنيا وقد بالغ في شكري وأجزل لي الثناء، حضر معها حولين متتاليين، والصبية تدعوهم جميعاً (بابا) كما نقول (سيدي) عندنا

وكنا بلغنا القصر فلمحنا أما السلم ثلاثة أشخاص في انتظارنا وخطا أطولهم نحونا بضع خطوات وحيانا أحسن تحية ثم قال:

- سيدي الكونت إنما حضرنا اليوم لنبدي لك آيات الشكر. . . أما هذا الرجل فكان بلجيكياً

ثم تكلمت بعده أصغر الثلاثة بتلك اللهجة المدربة المتكلفة في الأطفال إذ يلقون عليك تهنئة أو ثناء

أما أنا فقد أبديت البساطة وانتحيت بالسيدة إلمير ناحية وبعد حديث قصير قلت لها:

- أهذا أبو طفلتك؟

- كلا يا سيدي

- أمات أبوها؟

- كلا يا سيدي. ما نبرح يلقاني وألقاه أحياناً. وهو من رجال العسس

- عجباً! أليس هو إذاً ذاك المارسيلي الأول صاحب يوم الولادة؟

- كلا يا سيدي، ما كان ذاك إلا وغداً زنيماً سلبني مدخر مالي

- ورجل الدرك والد ابنتك الحقيقي أيعرف ابنته؟

- نعم يا سيدي، بل هو شديد الحب لها، ولكنه لا يستطيع تعهدها، إذ له من امرأته أولاد غيرها

أحمد أبو الخضر منسي