انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 194/حديث المال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 194/حديث المال



بقلم إبراهيم عبد القادر المازني

جلسنا ثلاثة من الأخوان نتحدث عن المال وكيف ينال - فقد مات زخاروف رجل الأسرار أو الظلام كما يسمونه وصار ذكره على كل لسان ولهجت الصحف بملايينه وأعماله الصحيحة أو الموهومة وأخذ عنها الناس وراحوا يلغطون. وأحسب أن لو كان زخاروف حياً واستطاع أن يسمع ما يروى عنه ويعزى إليه لأذهله ذلك ويكفي أنه ما من ثورة أو حرب شبت في الخمسين سنة الأخيرة إلا وهو فيما يقال مضرم نارها.

وقلت لصديقي: (أما أنا فلست أعرف وسيلة للغنى إلا هذه - أفتح عيني في الصباح وأدس يدي تحت الوسادة لأتناول الساعة وأنظر إلى وجهها فأجد مكانها كوما عالياً من الأوراق المالية الكبيرة. وعلى ذكر هذه الأوراق الكبيرة أقول - ولا فخر - أني ما رأيت ورقة بمائة جنيه إلا مرة واحدة في حياتي. . أم تراها كانت بخمسين فقط. . والله ما أدري. . الحاصل. . أُعطيتُها لأبدلها وآخذ منها قدرا معينا وأرد الباقي فوضعتها في جيب البنطلون وأبقيت كفي عليها خوفاً من النشل وذهبت إلى البنك - المصرف كما لا يسمى - ولا أطيل. وحسبي أن أقول أن الرجل كان ينظر إلي نظرة من تحدثه نفسه بأنه يحسن حجزي حتى تجيء (النيابة). . وصار معي عدد كبير من الورق فوضعت حقي في جيب والباقي في جيب آخر اتقاءً للاختلاط والحاجة إلى إعادة العد والحساب. وقد تعلمان كرهي لهذا الحساب أو جهلي به على الأصح. وجاء الليل - وكنت أعمل في ذلك الوقت في جريدة صباحية، فأنا اعمل بالليل وأنام بالنهار - وتذكرت أني على موعد مع صديق في الساعة الحادية عشرة وكنت جائعاً فقلت أذهب إلى محل جديد في شارع عماد الدين وآكل لقمة أو اثنتين من (السندويتش) ثم أذهب إلى موعدي. وكنت قد وضعت الأوراق في المحفظة - على خلاف عادتي - ولم يكن معي من النقود الصغيرة غير قرش واحد. وحدثتني نفسي وأنا آكل أنه يحسن أن أشتري شيئاً من هذه الفاكهة فإن منظرها مغر، فأخرجت جنيهاً ولكن الزحام كان شديداً فكادت روحي تزهق ورأيت أن الأمر سيطول فدسست الجنيه في جيبي وانصرفت ولقيت صاحبي على (القهوة) وعدت إلى البيت فأحسست وأنا أخلع ثيابي أن (الجاكته) خفيفة فنظرت فيها فإذا المحفظة قد طارت. أي والله. قطع النشال الجيب بسكين أو موسى أو لا أدري ماذا وأخذ المحفظة. .)

وعدنا بعد هذه الذكرى الأليمة إلى زخاروف والملايين فقال أحد الصديقين: (لماذا لا نرى في الشرق ناساً يصبحون أصحاب ملايين كما يحدث في الغرب كثيراً. .)

فقال ثالثنا: (إن الغنى العريض الواسع يستفاد من الصناعة والتجارة لا من الزراعة فإنها محدودة وكل عمل لا يقبل التوسيع والنماء المطردين لا يمكن أن تجيء منه ملايين ولا ما يقرب منها)

فقلت: (ولا تنس يا صاحبي أن الخِطار في حكم المعدوم في الشرق. ولا بد من المغامرة لطالب الثروة الكبيرة السريعة. ولعل إخواننا العرب أعظم منا جرأةً وإقداما وأكثر استعداداً للمغامرة. والمحقق أن المصريين أطلب للراحة والدعة والاطمئنان على الرزق. وهم يرضون بالقليل إذا كفل لهم الاطمئنان وقد كانوا إلى بضع سنوات يعدون صاحب التجارة أحط مقاماً من صاحب الزراعة وأحسب أن هذا لأن رزق الزارع مكفول ولكن الرزق من التجارة على كف عفريت. واسمعوا هذه الحكاية: لما عدت في العام الماضي من العراق جاءني صديق حميم وذكر لي أن له صاحبا يشتغل بصناعة الجلود وأنه يرجو مني المعونة ليحتكر جلود الأضاحي في موسم الحج في الحجاز فقلت له: إني أعرف أن الحكومة العربية تكره الاحتكارات ولا ترضى أن تظلم رعاياها على نحو ما يبغي صاحبك ثم أني لا أستطيع أن استغل علاقتي بهؤلاء القوم، ولكني أشير بما هو خير من ذلك واجدي على صاحبك إذا كان عاقلاً. . واقترحت عليه أن يؤلف صاحبه شركة مصرية عراقية لإنشاء مصنع للجلود ومدبغة في بغداد وقلت له: إني أستطيع بمساعدة إخواني في مصر والعراق أن أُقنع جماعة من العراقيين بالدخول في هذه الشركة. ولصاحبك أن يدخل فيها بالقدر الذي هو في طوقه. والجلود في العراق وفيرة ورخيصة، وجلبها من البلاد العربية إلى بغداد أسهل وأقل كلفة من جلبها إلى مصر، أما الأسواق فعديدة. فهناك أسواق العراق نفسها - والقوم هناك وطنيون عمليون يؤثرون صناعات بلادهم، والحكومة عظيمة التشجيع لها ولا أعتقد أنها تتردد في أخذ حاجة جيشها من هذا المصنع إذا أُنشئ ثم أن هناك أسواق جزيرة العرب وأسواق فلسطين وأسواق الشام وفي هذه البلاد كلها يفضل الرجل مصنوعات بلاده فالمشروع ولا شك في حسن عائدته ولا خوف من الخسارة فيه وأنا مستعد أن أطلق الصحافة والأدب وأعمل معه وأقوم له بكل ما يستدعيه الحصول على رأس المال أولا واستيراد الجلود من الجهات المختلفة وتصريف المصنوعات في أسواق الجزيرة والعراق وفلسطين وسوريا، فاقترح هذا على صاحبك وانظر ماذا يرى. . ووقف الأمر عند هذا الحد لأن في المشروع مخاطرة بالمال!!. ولست أدري أين المخاطرة ولكن هذا ما كان. وهكذا ضاعت عليَّ فرصة حسنة للتحرر من رق الصحافة والأدب.)

فسألني أحدهما: (أو تكره الصحافة والأدب؟)

(قلت: لا أكرههما ولكن أعمل فيهما كالحمار ولا أفيد منهما إلا العناء. وإذا وسعني أن أهجرهما إلا ما هو خير وأجدى فلماذا لا أفعل؟ وصدقني حين أقول لك إني لا أكف عن التفكير في وسيلة للنجاة منهما. وقد خطر لي أن أتخذ جراجاً (ولكن الجراج) لا يكون إلا محدوداً وأنا أريد عملاً يحتمل التوسيع على الأيام. وخطر لي أن أتخذ مطبعة ولكني رأيت أن المنافسة الشديدة بين أصحاب المطابع توشك أن تؤدي إلى خرابهم جميعاً. وخطر لي أن أكون بائع (طعميه) وهذا لا يتطلب رأس مال يستحق الذكر، واقتنعت بأن هذا خير ما يمكن أن أصنع وأنه أحسن وجه للخلاص من الصحافة، فذهبت أبحث عن محل صالح ولكني كنت كلما عثرت على واحد واهتديت إلى مكان يمكن أن تروج فيه هذه البضاعة أجد أن غيري قد سبقني. . ولكني لم أقنط من رحمة الله. . وما زلت أرجو أن أوفق إلى عمل صالح غير هذا الأدب الذي لا فائدة منه لأحد)

فسألني ثانيهما: (هل تتكلم جاداً؟)

قلت: (أي والله. . لقد قرأت كل ما وسعني أن أقرأ وكتبت كل ما دخل في طوقي أن أكتب، فهل أفدت إلا الغرور والنفخة الكذابة والصيت الفارغ: وإلا العداوات والخصومات التي لا داعي لها. . لا يا سيدي. . وإني لمستعد أن أنزل لك عن نبوغي وعبقريتي وخيالي الخصب ونشاطي الجم ولا أطلب إلا دكاناً صغيرا أقلي فيه (الطعمية) في سيدنا الحسين أو السيدة زينب أو في بولاق. . أقف فيه وأمامي المقلاة وإلى جانبي الزيت - زيت الزيتون من فضلك - والفول المدقوق وعليَّ ثوب أبيض نظيف وورائي الموائد مصفوفة وعليها الأباريق والأكواب. وأُصص الزهر هنا وهناك. والأرض مفروشة بالرمل الأصفر، فإني أريد أن أُرقي صناعة (الطعمية) وأجعل منها فناً. . نعم، خذ أدبي كله وخلودي أيضاً إذا كانا يستحقان شيئاً واعطني هذا الدكان الصغير وزرني بعد ذلك وشرفني بالأكل عندي وعلى موائدي الأنيقة الجميلة واحسدني يومئذ)

وقمنا صامتين لأن كلامي لم يعجبهما. . ولو أعجبهما لرجوت أن أقنعهما بهذه المبادلة. . ولكن لا بأس. . لا بأس. . ولا بأس أيضاً فلن أعدم صناعة أخرى أهتدي إليها في يوم من الأيام. والعمر الطويل يبلغ الأمل كما تقول العامة في أمثالها الحكيمة التي هي عصارة التجارب الإنسانية على الدهور

إبراهيم عبد القادر المازني