مجلة الرسالة/العدد 191/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 191/الكتب
المتنبي مع طه حسين
للدكتور محمد عوض محمد
إن الذين يطالعون الكتاب الذي بين أيدينا على أنه كتاب لطه حسين في المتنبي سيخطئون القصد ويفوتون على أنفسهم اللذة الحقيقية والمتعة العظيمة التي يستطيعون أن ينالوها من مطالعة هذا الكتاب على الوجه الصحيح: أي على أنه كتاب أدبي أو قصة أدبية شائقة لها بطلان المتنبي وطه حسين معاً. فليس الكتاب بحثاً تاريخياً جافا، أو نقداً موضوعياً، بل قصة ممتعة تشترك فيها شخصية المؤلف الأديب وشخصية المتنبي المدهشة. . . ولهذا يجمل بنا أن ندعو الكتاب طه حسين مع المتنبي، أو المتنبي مع طه حسين؛ كما ينادون في بعض المطاعم على الأصناف اللذيذة بأن يقولوا فراخ مع الأرز، أو كوارع مع الفتة. . .
فالكتاب الذي نحن في حديثه الآن اسمه الصحيح إذن هو المتنبي مع طه حسين. . . .
والمتنبي مع طه حسين مظلوم!. . فقد كان طه حسين معرضاً عنه إعراضاً تاماً؛ وظل معرضاً عنه زمناً كدنا إلا نعرف له آخر. . وقد قرر طه حسين أن يعرض عن المتنبي كل هذا الأعراض، منذ أن كان يطلب العلم في الأزهر الشريف. ثم لم يزل معرضاً عنه ممعنا في الإعراض. لا يستمع لصوته القوي، ولا يستجيب لندائه العذب. وهو يستعين على هذا الإعراض بضروب من الوسائل؛ فجعل يضع القطن الغليظ في أذنيه، ويقيم الحجب والجدران بينه وبينه، ويقول له: ابعد عني! لا أريد أن أصغي إليك. . .
وهكذا ظل المتنبي يهيب بالأديب الكبير، والأديب الكبير ليس له - كما تقول العامة - سوى أذن من طين وإذن من عجين
ولكن لم كل هذا الإعراض، أو التجني، أو التمتع؟
سيقول لك خلطاؤه الذين لا ينظرون إلا إلى ظاهر الأمور إن إعراض طه حسين يرجع إلى الخصومات التي تنشأ بين الطلبة، وتذهب بهم في التشيع الأدبي مذاهب مدهشة، فكان يكفي أن ينادي زيد بأن الطائي شاعر كبير، لكي يخاصمه في ذلك عمرو وبكر وخالد؛ وكان يكفي أن يشتد إعجاب بكر بشعر المتنبي ويسرف في مدحه، حتى يتألف عليه الآخرون، ويقاطعوا المتنبي المسكين من غير جريرة ولا ذن أقول إن هذا ما يزعمه الزاعمون. وقد يكون هذا ما يزعم طه حسين نفسه إذا سألته عن سبب إعراضه الطويل. ولكن الحقيقة أعمق وأبعد غوراً من هذا كله: وقد خفيت حتى على المؤلف نفسه. ذلك أن طه حسين كان يحس - إحساساً مبعثه الإلهام الذي لا حول له فيه ولا قوة - أن شعر المتنبي متعة هائلة أولى به أن يدخرها، وأن يؤجل التمتع بها كما يترك المرء أطيب الثمار إلى آخر الوجبة، بادئاً بالفج الثقيل منها. قال لي بعض الناس مرة: هل رأيت إيقوسيا؟ قلت: لا! قال فإني أحسدك على هذا اشد الحسد. إني لأعطي كل ما عندي لكي أرى إيقوسيا للمرة الأولى!
ومن هذا الجامد البخيل الذي لا يعطي كل ما عنده لكي يدرس شعر المتنبي للمرة الأولى؟
ذلك هو السبب الحقيقي لهذا الإعراض الطويل؛ وكان لابد لصاحبه إذا سأله لماذا لا تعنى بدراسة المتنبي أن يجيبك بأعذار ينتحلها انتحالا، وإذا هو يصطنع خصومة بينه وبينه، وقد ينتهي به الأمر إلى تصديق هذه الأعذار والإيمان بأن تلك الخصومة المفتعلة تقوم على أساس أو شبه أساس.
إلى أن جاء الوقت، واستطاع المتنبي أن يرغم طه حسين على أن يسهر مع الساهرين من اجل شوارد شعره التي كان ينام عنها هو ملء جفنه. وأن يكب على دراسة المتنبي انكبابا عجيبا، وأن يقيم للمتنبي أسبوعا كان من أجل وأروع أسابيع الجامعة المصرية، وأن يصطحب المتنبي معه إلى أوربا، وأن ينزله معه في الباخرة وفي القطارات وفي مختلف الفنادق والديار!!
وهكذا اضطر طه حسين إلى أن يرى نفسه - على كره منه كما يقول - منصرفا إلى دراسة المتنبي، وأن يبادر إلى المتعة التي ادخرها لنفسه هذا الدهر الطويل، وأن يسلط على هذه الدراسة ما وهبه الله من ذكاء خصب، واطلاع واسع، وملاحظة دقيقة، وقدرة على استنباط الحقائق من ايسر المعلومات التي يمر بها الناس مرا دون أن يروها. . ثم استطاع بعد ذلك أن يصور لنا المتنبي، فإذا نحن نحسه وإذا نحن نلمسه، وإذا نحن نراه ماثلا أمامنا، وإذا نحن نسير وإياه جنبا إلى جنب، وإذا شخصية المتنبي تبرز لنا من وسط هذه الصفحات بروزا غير محاط بلبس ولا إبهام
وطه حسين الذي أبدع هذه الصورة يقول لنا مع إنه ليس من المعجبين بالمتنبي، المشغوفين بشخصه وفنه، ولكنه لحسن الحظ لا يطلب منا أن نصدق كلامه هذا بل يقول لنا إننا مخيرون في أن نرى أن هذا الكلام يصدر عن تفكير أو هذيان أو شذوذ وجموح (ص70). . وأنا أفضل الرأي الأخير. . ومن الممكن للمصور البارع الذي أبدع الصورة وجلاها للناظرين أن يزعم أنه لا يحب صاحب هذه الصورة ولكنه لم يجد بين الناس من يصدقه
ليقل طه حسين إذن في علاقته الشخصية بالمتنبي ما يشاء. فإن القراء قد ظفروا منه على كل حال بكتاب ممتلئ حياة وقوة. ليس المتنبي فيه اسما يذكر وأشعارا تتلى وجدالا يسرد، بل شخصا حيا يسعى ويعمل، ويحس ويشعر، ونحن نشاركه كل هذه الحياة. واستطعنا بسبب هذا كله أن نزداد حبا للمتنبي وعطفا عليه. وهي نتيجة لم يكن المؤلف يريدها أو يفكر فيها. كذلك استطعنا أن نعجب بالمؤلف حين ينصف المتنبي، ويبرز الخفي من أركان هذه الحياة الثائرة العجيبة. واستطعنا أيضاً أن ننظر شزرا حين نرى المؤلف يحمل على المتنبي حملات أقل ما يقال عنها إنها لا تتفق مع ما يذكره المؤلف نفسه عن المتنبي حين يتناسى ما بينهما من الحزازات القديمة
ليس من الممكن هنا أن نعدد محاسن هذا الكتاب الذي قلما خدم شاعر في العربية كما خدم به أبو الطيب. وسيرى القارئ من غير مشقة كيف استطاع المؤلف أن يزيد لذتنا ومتعتنا بأشعار المتنبي أضعافا مضاعفة، فقصيدة مثل (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه) ونحوها. أصبحنا بعد أن صورت لنا حياة المتنبي والظروف المعقدة التي أنشدت فيها تلك القصائد - نرى فيها حياة وقوة وعمقا لم نكن نحس له وجودا
ومع هذا - وبعد هذا كله - فالمتنبي مع طه حسين مظلوم. لأن طه حسين لم يستطع دائما أن ينسى ما بينه وبين المتنبي من خصام، بل يتذكر هذا الخصام أحيانا فيعود إلى ظلم المتنبي، ويمعن في التشنيع عليه. أنظر إليه حين يريد أن يوهمنا بأن المتنبي مداح كسائر المداحين وأنه ينكر نفسه كلما اقتضت منه المنفعة العاجلة إنكارها. ويريد منا أن نصدق هذا، وهو نفسه الذي يرينا في صراحة وجلاء كيف أعرض المتنبي عن مدح اسحق بن كيغلغ ولم يعبأ بتهديده ووعيده. مع أن المنفعة العاجلة كانت تقضي من غير شك بإنكار النفس وبذل المدح ونحن نرى المتنبي لا يكتفي بهذا بل يهجوه هجاء مراً، ذلك لأن المتنبي كان غاضباً من هذا الرجل الذي أبى أن يقبل منه المدح فيما مضى، فجازاه المتنبي على إعراضه بأن أعرض عنه يوم أضحى شاعرا مشهوراً.
هذا كله لا يمكن أن يذكر للمتنبي إلا بالخير. فانظر كيف يصور لنا المؤلف هذا الحادث: (فلا تسل عن كبرياء الشاعر وما امتلأت به نفسه من الزهو والغرور، وإذا هو يمتنع على الأمير ويأبى أن يجيبه إلى المدح الذي رغبه فيه، ويحتال الأمير في ذلك فلا يوفق. وتشق عليه هذه الإهانة فيمسك الشاعر في طرابلس، ولا يخلي بينه وبين السفر، وإنما يمسكه سجيناً كالطليق، وطليقا كالسجين)
والمنطق السليم يقضي بأن مسلك أبي الطيب هذا ينطوي على كثير من العزة والشمم، ولا يدل مطلقاً على أنه يطلب العاجلة، فينكر نفسه. ولابد للمنصف أن يرى أن عبارة المؤلف في وصف ذلك الحادث قاصرة لم يمهلها الإنصاف، بل أن للحزازات القديمة أثراً فيها
وفي حياة أبي الطيب أمثلة من الوفاء والإخلاص، استطاع المؤلف أن يحولها إلى أمثلة من التزلف والخوف. انظر مثلا إلى الحادث الشهير يوم أن غضب أبو العشائر على أبي الطيب وأرسل غلمانه وراءه فرماه أحدهم بسهم وقال خذها وأنا غلام أبي العشائر. فأنشد أبو الطيب هذه الأبيات العجيبة الساحرة:
ومنتسب عندي إلى من أحبه ... وللنبل حولي من يديه حفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة ... حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف
ونفسي له - نفسي الفداء لنفسه، ... ولكن بعض المالكين عنيف
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا ... بكفيه فالقتل الشريف شريف
وليس هنا مجال لسرد الحادث كله، ولكن العجيب أن سرد المؤلف له يضع الذنب كله على المتنبي، لأنه أهمل مدح أبي العشائر وكأنه يلتمس العذر لهذا الرجل في غدره بأبي الطيب
لقد قرر المؤلف في نوبة من نوبات الظلم التي كانت تعاوده وهو يملي كتابه هذا: أن المتنبي (عبد للطمع والمال، لا للجمال والفن.) ولم يجد من الحوادث والأشعار مساعداً له على تأييد هذا الرأي، فاضطر إلى أن يصبغ الحوادث بالصبغة التي تتفق مع هذا الظلم، وأن يلتمس للشعر الخالص البريء أسباباً غير خالصة ولا بريئة
وقد وجد الأستاذ المؤلف نفسه في مأزق حرج أمام قصيد المتنبي (وا حر قلباه ممن قلبه شبم) فقد رأى المؤلف إنها قصيدة لا يمكن أن تصدر عن رجل خلقه الأساسي أنه عبد للطمع والمال لا للجمال والفن. فماذا يفعل بهذه القصيدة التي إن دلت على شيء فإنها تدل على أن المتنبي رجل خلقه الأساسي الشمم والأباء. لم يكن للمؤلف بد من أن يمر بهذه القصيدة مراً، وأن يختصر الكلام عنها، وعن الحادث الذي تدل عليه اختصاراً. وأن يعتذر عن ذلك بأن الناس قالوا فيها فأكثروا. . أما ما اشتملت عليه القصيدة من الفن الهائل فأنه لا يظفر من المؤلف إلا بالعبارة الآتية: نلاحظ مسرعين أن المتنبي قد وفق فيها إلى حظ لا باس به (كذا) من الإجادة الفنية. . سلك طريق ابن الرومي فألح في العتاب حتى كاد يبلغ الهجاء. وأسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب.)
هذا كل ما يقوله عن هذه القصيدة هذا المؤلف العجيب الذي يخصص ست صفحات من كتابه لقصيدة (كفرندى فرند سيفي الجراز)
ونحن نلاحظ هنا أمراً مدهشاً قد ساق المؤلف إليه إصراره على تجاهل هذه القصيدة. .
ولنمر أولا - مر الكرام، على قوله أن بها حظا لا باس به من الإجادة الفنية، ولكننا نقف قليلا عند قوله إن المتنبي أسرف في المدح ليصلح ما أفسده بالعتاب)
إن أقل إلمام بهذه القصيدة يرينا أن ما اشتملت عليه من المدح ليس من النوع الذي يوصف بالإسراف. ومهما يكن من شيء فإن هذا المدح مقدم في أول القصيدة، لا لإصلاح ما أفسده العتاب، بل توطئة للعتاب القاسي واللوم المر؛ والقصيدة تزداد شدة وعنفا كلما اقتربنا من النهاية؛ حتى تنتهي فعلا بتهديد سيف الدولة بالانصراف عنه والرحيل من دياره
وهذه القصيدة تدل على براعة فنية هائلة، وعلى خلق متين وعر. ولذلك لا نتفق مع الدعوى بأن المتنبي عبد للطمع والمال، ذليل للملك والسلطان، ولذلك تجاهلها المؤلف ومر بها مرا سريعاً. . .
وبعد فليست بي حاجة لأن أدلي بأمثلة أخرى يظهر فيها ما بين المؤلف والمتنبي من خصومة قديمة. . ففيما ذكرناه كفاية لأن يرى القارئ أن المتنبي مع طه حسين مظلوم.
ولكن من العدل أن نقرر أن طه حسين كثيراً ما كان ينسى هذه الخصومة. والكتاب ممتلئ بقطع عديدة، استطاع المتنبي أن يثأر بها لنفسه، وأن ينال من المؤلف كل إنصاف وتقدير بالرغم منه
والمواقف الظالمة التي وقفها المؤلف من الشاعر هي من الوضوح والظهور بحيث لن يخطئها القارئ؛ ونحن لا نشك في أنها البقية الباقية من أيام العهد القديم حين كان بعضنا يتعصب للمتنبي وبعضنا يتعصب عليه، وكان طه حسين دائما من الفريق الثاني. .
ولكننا برغم هذا التحامل - بل لسبب هذا التحامل - سنجد في مطالعة هذه الفصول متعة شائقة، بحيث لا يمكن أن نتناول الكتاب ثم نلقيه قبل أن نفرغ منه
يجب أن نطالع هذا الكتاب لا على أنه تاريخ أو نقد، بل على أنه قطعة أدبية فنية، تمثل صورة وتقص قصة. ولك أن تطالعه إذا شئت على أنه كتاب لطه حسين عن المتنبي. ولكنك بهذا ستضيع على نفسك لذة عظيمة ومتعة فائقة. فالوجه الصحيح للتمتع بهذا الكتاب هو أن تقرأه على حقيقته التي كشفت لك عنها في أول هذا المقال. فالموضوع الصحيح هو المتنبي مع طه حسين. أو إذا شئت اصطلاحا حسابيا فقل: (المتنبي مضروبا في طه حسين) فالكتاب هو حاصل هذا الضرب
وبهذا الاعتبار أو ذاك ستجد في مطالعة الكتاب لذة جديدة لم تكن تتاح لك من قبل. ولو كان في هذا الزمان إنصاف لشكرني الناس على الكشف الذي كشفت والهدي الذي هديت، ولكنا في زمن كما يقول صاحبنا:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
والآن فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن عشاق المتنبي أسجل هنا ما أحرزناه من النصر بانضمام عدو عنيد إلى صفوفنا.
محمد عوض محمد