مجلة الرسالة/العدد 190/الصوت الخافت
مجلة الرسالة/العدد 190/الصوت الخافت
للأستاذ مصطفى حمدي القوني
(مهداة إلى صديقي الكاتب السويسري جوستاف بيل)
- 1 -
ما كان يدور بخلدي قط أن يكون هذا كل نصيبي من الدنيا، لقد طالما حلمت إبان صباي وفي فجر شبابي أني سوف أدير كرة الأرض على أناملي، وأني سوف أمثل باسمي الأفواه والأسماع والقلوب. والآن وقد نقضت أيام الصبا فإذا لي دنياي أديرها في غير جهد، وإذا أفواه وأسماع وقلوب يملؤها أسمي، وإذا أيد ترتفع إلى الجباه تحييني كلما أقبلت على عملي أو أدبرت عنه. ويا ما أكثر ما يتملقني تلاميذي!
واليوم إذ خرجت في الصباح إلى المدرسة بدأت تطوف برأسي هذه الخواطر: كنت في الماضي أصور الآمال وانتظر تحقيقها في أيام مقبلة، وأقبلت هذه الأيام فإذا آمالي ليس إلى تحقيقها من سبيل، فأصابني شيء من الرضا والقناعة وطفئت حرارة الصبى وجرأته، وأصبح الصبى وآماله حطاما، وإن عاودتني أحيانا ذكراه فلا أكاد أصدق أني كنت في يوم الأيام
إني أحيا الآن ولكن. . . عاريا عن الآمال والعواطف. لقد سقطت عني عواطفي وآمالي كما تساقط عن الشجرة الذاوية أوراقها؛ وكثيراً ما أشعر أني كالغريق الملقى على ضفة اليم ينتظر النهاية.
لست آسف على الماضي ولا أؤمل في المستقبل ولا أبالي كيف يكون، ولكني اقف الآن حيث أنا فاتحا يدي للقدر يلقي فيهما ما به يجود. . .
وإني لأدخل حجرة الدراسة - وأنا لا أزال غارقا في مثل هذه الخواطر - إذ تسألني نفسي:
- أكان من الممكن أن تقنع بمثل هذا في الماضي؟
وإذا بي أسمع صوتا ساخراً يقول مجيباً:
- ولم لا؟ ألم يكن يحلم بشجرة الخلد وملك لا يبلى و. . . عرش عظيم؟ واعتليت المنصة!
ووقف التلاميذ رافعين أيديهم بالتحية، وإذ رفعت يدي أرد تحيتهم جلسوا صامتين، وبدأت قائلا:
- واجب الدرس السابق
ففهموا بذلك أني أريد أن يقف المقصرون ويلقوا إليّ بأعذارهم عن التقصير فيما كلفتهم به؛ ووقف واحد من التلاميذ كان من أكثرهم جداً وعناية بعمله، ولكنه لم يلق إليّ بأي عذر وإنما بقى ساكناً صامتاً كأنما لا يبالي
ونزلت من على المنصة وتقدمت إليه في خطى ثابتة ورفعت يدي أريد أن ألطمه، وحينئذ انبرى زميل له يقول في صوت خافت:
- لا لا يا أستاذي! إن أباه قد مات البارحة.
ونزلت يدي إلى جانبي وعدت إلى مكاني من جديد والحجرة يخيم عليها سكون، وأنفاس التلاميذ كأنها محبوسة، ونظراتهم متعلقة بي تتبعني، ففتحت كتاباً أمامي وقلت لهم من دون أن أرفع نظري إليهم:
كتاب المحاسبة صفحة 65 التمرين الثاني. سوف أراه مع سابقه في الدرس القادم.
وفتحوا كتبهم في سكون وبدأت اذرع الغرفة جيئة وذهوباً ورأسي يدور، وقلبي كأن به بركاناً ثائراً
- 2 -
ودق الجرس فخرجت من الفصل ومن المدرسة إذ كان هذا هو درسي الوحيد في هذا اليوم، وبدأت أجوب شوارع المدينة ذاهلا عن كل ما حولي إذ بدأت أعود بالذاكرة إلى الماضي وكأنما بدأت أعيش فيه كرة أخرى:
(هذا أنا طفلا في المدرسة الابتدائية أسير إليها مع الشمس كل صباح وأعود منها كل أصيل. وهذا أنا أعود من المدرسة في أصيل يوم من الأيام فلا أجد أمي: لقد انتقلت إلى الريف تبتغي فيه شفاء من مرض ألم بها. وهذا أنا أعود في أصيل كل يوم أتنسم أخبارها، فإذا جن الليل سهرت من أجلها أدعو لها وأتمنى لها طيب الأماني. وهذا أنا أقوم إلى المدرسة ذات صباح فأجد رسولا من القرية جاء يستقدم أبي، فينقلب أملي شكا طاغياً جارفاً. وهذا أنا أخرج من المدرسة في أصيل هذا اليوم يائساً أشد اليأس، حزيناً أشد الحزن، أسرع الخطا ثم أبطئها، أسرع لأني أريد أن أعلم ماذا كان مصير أمي، ثم أحس كأن شيئاً يرد من خطاي ويصدني: لقد كان الشك يغمر نفسي
أذكر أن الشمس كانت جانحة إلى المغيب تلقي على طرق المدينة أشعة صفراء باهتة حزينة، وإني لازلت إلى الآن تفيض نفسي بالكآبة كلما رأيت مغرب الشمس.
وفي أول الطريق الذي ينتهي إلى بيتنا قابلني عمي ثم أجلسني إلى جانبه في دكان صغير هناك وجاء أحد الجيران يشتري بعض حاجة من الدكان، فألقى إلي نظرة ومال برأسه إلى صاحبه كأنما يسأله عن شيء، وهز صاحب الحانوت رأسه ومص الجار شدقيه راثياً، وقمت من مكاني وانفجرت باكيا وجريت إلى البيت لأسترسل في البكاء
وهناك كانت نسوة كثيرات - في ثياب سود - حاولن عبثاً أن يكفكفن من عبراتي. وهناك كانت أختي الصغيرة مدهوشة حيرى لا تدري ماذا جرى. وهناك كانت أختي التي تكبر هذه - في هدوئها وسكونها الدائمين - تسكب عبرات صامتة
وكانت ليلة. . .
- 3 -
وأصبح الصباح فإذا الشمس مشرقة كعادتها، وإذا بي أسير إلى المدرسة محني القامة خافض الهامة، أفكر فيما كان وفيما سيكون
وابتدأ الدرس الأول، وكان درس القواعد العربية، وإني لأذكر تماما الشيخ عبد الحميد رجلا قصير القامة مكور الوجه قاسيا، وأذكر أنه كان في هذا الصباح جاداً في إلقاء الدرس وشرح ما غمض منه على السبورة، ولكني لا اذكر ما هو الدرس الذي كان يلقيه، إذ أني نسيت - فيما نسيت - هذا الباب الذي من أمثلته (حضرموت وبختنصر)، ولكن ماذا يهمني من هذا، إن ما يزال عالقاً بذهني هو أني انتبهت لحظة للشيخ وللدرس، ورفعت نظري إلى السبورة أمامي فوجدت هاتين الكلمتين (حضرموت - بختنصر)
تأملت الكلمة الأولى وقرأتها هكذا (حَضَرَموْت) ثم بدأت أقول في نفسي:
- يا ما أسعد من لا تموت أمهاتهم! وهؤلاء الذين يحضرون موت أمهاتهم إنهم أسعد مني حالا، أنا الذي لم يحضر موتها ولا يدري ماذا مصيرها وحينئذ عن للشيخ أن يلقي إلي بسؤال - ولعله رآني عنه وعن درسه في شغل شاغل - ولكن كلمة واحدة لم تند عن شفتي جواباً لسؤاله
وكان أن تقدم إلي ولطمني لطمة قاسية. . . تقبلتها صامتاً. وماذا كانت هذه إلى جانب لطمة القدر؟
- 4 -
وحين وصلت بذكرياتي إلى هذا الحد - وكنت قد وصلت في سيري إلى شارع سليمان باشا - رفعت يدي إلى خدي كأنما أتحسس بها أثر اللطمة بعد هذه السنين الطوال. ثم تراءى لي - ويدي لا تزال على خدي - أن أعبر الشارع. وإني لأخطو أولى خطواتي إذ سمعت كأن صوتاً يناديني:
- إبراهيم! يا إبراهيم!
وكان الصوت خافتاً كأنه آت من بعيد، من أعماق هاوية، وقد خيل إلي أنه ليس غريباً عني، وأني سمعته قبل الآن، متى وأين لا أدري؟ وتلفت حولي واختل توازن خطاي وكادت سيارة تدهمني، فنظر إلي شرطي المرور كأنما يسألني ماذا بي. فقلت له في بساطة:
- إن اسمي إبراهيم!
فلم يبد على وجه الشرطي أنه فهم شيئاً
وطفت على شفتيه ابتسامة فيها سخرية وفيها رثاء.
مصطفى حمدي القوني