مجلة الرسالة/العدد 189/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 189/الكتب
إحياء النحو
تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى
خير ما تقدم به هذا الكتاب القيم إلى القراء أن ننشر هذه المقدمة التي صدره بها مؤلفه الفاضل فقد حدد فيها الموضوع ورسم الطريق وبين الغاية. وللرسالة بعد ذلك كلمة فيه
هذا البحث من النحو عكفت عليه سبعة سنين وأقدمه إليك في صفحات. سبع سنين من أواسط أيام العمر وأحراها بالعمل، صدقت فيها الاعتكاف إلى النحو، وإلى ما يتصل بمباحثه، وأضعت له من حق الصديق والأهل والولد والنفس جميعاً.
كان سبيل النحو موحشاً شاقاً، وكان الإيغال فيه ينقض قواي نقضاً، ويزيدني من الناس بعداً ومن التقلب في هذه الدنيا حرماناً. ولكن أملاً كان يزجيني ويحدو بي في هذه السبيل الموحشة؛ أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين أصر هذا النحو، وأبدلهم منه أصولاً سهلة يسيرة، تقربهم من العربية، وتهديهم إلى حفظ من الفقه بأساليبها.
كانت بارقات الأمل - خادعة وصادقة - تدفعني في سبيلي، غير راحمة ولا وانية. فليكن ما أنفق من هذا العمر ذخراً في أعمار الدارسين من بعد، ولتكن شيخوخة هذا الشيخ فدى للعربية؛ أن تقرب من طالبيها، ويمهد السبل لمتعلميها.
اتصلت بدراسة النحو في كل معاهده التي يدرس فيها بمصر، وكان اتصالاً طويلاً وثيقاً؛ ورأيت عارضة واحدة، لا يكاد يختص بها معهد دون معهد، ولا تمتاز بها دراسة عن دراسة، وهي التبرم بالنحو، والضجر بقواعده وضيق الصدر بتحصيله؛ على أن ذلك من داء النحو قديماً، ولأجله ألف (التسهيل) و (التوضيح)، و (التقريب) واصطنع النظم لحفظ ضوابطه، وتقييد شوارده.
والنحو مع هذا لا يعطيك عند المشكلة، القول البات، والحكم الفاصل. قد يهدي في سهل القول، من رفع فاعل ونصب مفعول. فإذا عرض أسلوب جديد، أو موضع دقيق، لم يسعفك النحو بالقول الفصل، واختلاف الأقوال، واضطراب الآراء وكثرة الجدل التي لا تنتهي إلى فيصل ولا حكم، كل ذلك قد أفسد النحو أو كاد، فلم يكن الميزان الصالح لتقدير الكلام، وتمييز صحيح القول من فاسده.
وإذا جئنا إلى مدارس الناشئين، كانت المشكلة في تعليمهم النحو أشد وأكد؛ فهو على ما تعلم من بعد تناوله، وصعوبة مباحثه، قد جعل المفتاح إلى تعلم العربية، وكتب على الناشئ أن يأخذ بنصيبه منه، منذ الخطوة الأولى في التعليم الابتدائي والثانوي، واختير له جملة من القواعد، قدر أنها تفي بما يحتاج إليه لإصلاح الكلام وتقويم اللسان، ثم كانت خصومة هادئة قاسية بين طبيعة التلميذ، وبين هذا المنهاج والقائمين عليه. أما التلميذ فقد بذل الجهد واعياً ولم يبلغ من تعلم العربية أرباً. وأما أصحاب المنهج. فقد رأوا أن يزيدوا في منهجهم، ويكملوا للتلميذ حظه من القواعد، فلا سبيل له إلى العربية غير هذا النحو؛ فزادوا في هوامش كتبهم ما يكمل القواعد ويتمم الشروط - ثم تسللت هذه الزيادات إلى جوف الكتاب فضخم، وزاد المنهاج المفروض - ولكن طبيعة التلميذ الصادقة في إباء هذه القواعد، والتململ بحفظها، لم تخف شهادتها، ولم يستطع جحدها، فكانت ثورة على المنهاج وأصحابه، وخفف منه، وانتقص من مسائله، والداء لم يبرأ، والعوارض لم تتغير، وتكررت الشكوى، وعادوا على المنهاج بالنقص، حتى كان المقرر قواعد من النحو مختلفة، كأنما هي نماذج يراد بها عرض نوع من مسائله قد كان في هذا، الشهادة الصريحة بفشل هذا النحو أن يكون السبيل إلى تعلم العربية، والمفتاح لبابها.
ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة، واصطنعت أصول التعليم اصطناعاً بارعاً، ليكون قريباً واضحاً؛ على أنه لم يتجه أحد إلى القواعد نفسها، وإلى الطريقة وضعها، فيسأل: ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية؟
هذا السؤال هو الذي بدا لي، وهو الذي شغلني جوابه طويلاً. ولقد تميز عندي نوعان من القواعد: نوع لا تجد في تعليمه عسراً، ولا في التزامه عناء، ولا ترى خلاف النحاة فيه كبيراً، وذلك كالعدد ورعاية أحكامه في مثل: قال رجلان، والرجلان قالا. وقال رجال والرجال قالوا. فمع دقة الحكم في رعاية العدد، واختلافه تبعاً لموضع الاسم والفعل من الجملة، لا تجد العناء في تصوره، ولا المزلة في استعماله.
ونوع آخر لا يسهل درسه ولا يؤمن الزلل فيه، وقد يكثر عنده خلاف النحاة، ويشتد جدلهم، كرفع الاسم أو نصبه في مواضع من الكلام.
ثم رأيت علامات العدد تصور جزءاً من المعنى يحسه المتكلم حين يتكلم، ويدركه السامع حين يسمع. أما علامات الإعراب، فقل أن ترى لاختلافها أثراً في تصوير المعنى، وقل أن يشعرنا النحاة بفرق بين أن تنصب أو ترفع؛ ولو أنه تبع هذا التبديل في الأعراب تبديل في المعنى. لكان ذلك هو الحكم بين النحاة فيما اختلفوا فيه، ولكان هو الهادئ للمتكلم أن يتبع في كلامه وجهاً من الأعراب.
فلو أن حركات الأعراب كانت دوال على شيء في الكلام، وكان لها أثر في تصوير المعنى، يحسه المتكلم ويدرك ما فيه من الإشارة ومن وجه الدلالة، لما كان الأعراب موضع هذا الخلاف بين النحاة ولا كان تعلمه بهذه المكانة من الصعوبة، وزواله بتلك المنزلة من السرعة.
ألهذه العلامات الإعرابية معان تشير إليها في القول؟ أتصور شيئاً مما في نفس المتكلم، وتؤدي به إلى ذهن السامع؟ وما هي هذه المعاني؟؟
والعربية - لغة القصد والإيجاز - أتلتزم علامات الإعراب على غير فائدة في المعنى، ولا أثر في تصويره؟
لقد أطلت تتبع الكلام، أبحث عن معاني لهذه العلامات الإعرابية، ولقد هداني الله - وله خالص الإخبات والشكر - إلى شيء أراه قريباً واضحاً، وأبادر إليك الآن بتلخيصه:
(1) إن الرفع علم الإسناد. ودليل إن الكلمة يتحدث عنها
(2) إن الجر علم الإضافة، سواء أكانت بحرف أو بغير حرف
(3) إن الفتحة ليست بعلم على إعراب، ولكنها الحركة الخفيفة المستحبة، التي يحب العرب أن يختموا بها كلماتهم ما لم يلفتهم عنها لافت؛ فهي بمنزلة السكون في لغتنا الدارجة
(4) إن علامات الأعراب في الاسم لا تخرج عن هذا إلا في بناء أو نوع من الأتباع، وقد بيناه أيضاً.
فهذا جماع أحكام الإعراب؛ ولقد تتبعت أبواب النحو باباً باباً واعتبرتها بهذا الأصل القريب اليسير، فصح أمره، وأطرد فيها حكمه.
ثم زدت في تتبع هذا الأصل، فتجاوزت حركات الإعراب، ودوست التنوين على أنه منبئ عن معنى في الكلام، فصح لي الحكم واستقام، وبدلت قواعد (مالا ينصرف) ووضعت للباب أصولاً أيسر وأنفذ في العربية مما رسم النحاة للباب. ولا أؤجل عنك إجمال هذه الأصول أيضاً.
(1) إن التنوين علم التنكرين
(2) لك في كل علم ألا تنونه، وإنما تلحقه التنوين إذا كان فيه حظ من التنكير
(3) لا تحرم الصفة التنوين حتى يكون لها حظ من التعريف
والبحث الذي أقدمه إليك الآن، هو شرح موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا موجز لهذه الفكرة ودرس لها في أبواب النحو المختلفة، وبيان لما رأينا من الأدلة لتأييدها وكنت أريد أن أشكر لصديقي الدكتور طه حسين، وأذكر فضله في إتمام البحث وإخراج الكتاب؛ ولكنه آثر أن يقدم الكتاب، وانزلق إلى الثناء على صاحبه، فأجررت أن أتكلم.
وحق علي أن أشكر تلاميذي الذين عاونوني في شيء من المباحث، وإن لم أملك الآن أن أسميهم وأعمالهم.
وأحمد الله حمداً ملؤه التوحيد والتمجيد والشكر.
قصة الكفاح بين روما وقرطاجة
تأليف الأديب توفيق الطويل
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
ما زال الناس يستلهمون التاريخ ويستمدون منه العبرة كلما ألجأتهم ضرورة في حاضرهم إلى ذلك، فإن تجربة العصور في حاضرها لا تغني الناس إذا شاءوا التماس الحكمة أو استبانة القانون الإنساني، وذلك أن حوادث السنين لا تتصل نتائجها بمقدماتها إلا بعد مضي القرون ولا تكمل عبرتها إلا بعد توالي الأجيال. وليس في تكرار التمثل بعبر الزمان إعادة ولا في تعدد النظرات إليها إباحة لها أو ابتذال، فان الحادثة الواحدة قد تنطوي على ما لا حد له من العظات، وقد يتناولها الناس في كل عصر فيجد كل منهم فيها ناحية من المعنى مخالفة لما وجده سواه من معانيها. ولقد كان النضال بين قرطاجة ورومة أحد هذه المواقف التاريخية الفذة التي هزت العالم هزة قوية في أبانها، وما زالت العصور التالية ترجع وتلتفت صوبه، وكل منها يشير إلى ما يبتغي من عبرة فيه أو يتحدث عنه حديثاً يوحيه إليه موقع الضوء عليه في ناظره، وهكذا كان شأن الأستاذ (توفيق الطويل) مؤلف هذا الكتاب عندما تناول بالبحث هذا النضال.
لقد نظر المؤلف الفاضل إلى تلك الحرب التي يسميها التاريخ بالحرب اليونانية كما نظر سواه إليها ووصفها ورسم لنا منها صورة خاصة لا أظن أنها تشابه صورة أخرى رسمها أحد في لغة العروبة فهو قد استدرج الذهن من موقعه إلى موقعة ومن صورة إلى صورة حتى بلغ به النهاية فأشار إليه مومئاً إلى ما تحت قدميه، فإذا بالعبرة التي كان يرمي إليها ماثلة واضحة لا يستطيع أحد أن يخالف فيها ولقد كانت الشعوب الإنسانية منذ القدم ينافس بعضها بعضاً في كل ميادين النشاط والمطامع، فلقد كانت تتنافس في امتلاك الأراضي وفي الانتفاع بالمراعي، وكانت تتنافس في القوة والمنعة ثم هي تتنافس اليوم في كل هذه المعاني بوسائل سلمية تارة وحربية أخرى. غير أن ذلك التنافس الإنساني كانت له مظاهر عدة، فقد كان يحدث بين وحدات القبائل الصغيرة في دائرة محدودة كما كان يحدث بين الأجناس والشعوب في دوائر أوسع، فأنا لا نكاد نجد عصراً خلا من محاولة شعب من شعوب الأرض سيادة سائر الشعوب ونبوغ شعب آخر يتصدى له بالدفاع، فإذا بشعوب الأرض موزعة بين الزعيمين المتناضلين حتى ينتهي الأمر بإذعان أحدهما أو انقراضه وضياع سلطانه. وقد حاول بعض علماء التاريخ أو الاجتماع أن يخلصوا من استقراء ما حدث من ذلك النضال في كل العصور إلى أن أجناس العالم بينها طائفتان كبريان لا تفتأ تميل إلى النزاع والنضال على سيادة الأرض، فيسمون طائفة من الطائفتين شرقاً والطائفة الأخرى غرباً، ويقول هؤلاء العلماء إن النضال بين هاتين الطائفتين دائب مستمر استمرار الليل والنهار فقد يحدث أن شعبين من طائفة واحدة يثوران حيناً للنضال ثم لا يلبثان أن يستقرا على نوع من التفاهم والتجاور، في حين أن الطائفتين الكبريين لا يستقر بينهما النضال بل لا تزالان تتصاولان وتتصارعان. فإما إحداهما سيدة غالبة، والأخرى تناضل في سبيل الحياة تجاهها، وإما أن تنقلب الآية فتصبح السيدة مسودة والمستضعفة سيدة، وهؤلاء العلماء يجعلون قرطاجة وروما رمزيين لهاتين الطائفتين الكبريين في العصور التي سبقت الميلاد بقرنين أو ثلاثة. كما أنهم يجعلون حرب الفرس واليونان رمزاً لذلك النضال قبل ذلك، وحرب العرب والروم ثم الفرنج رمزاً له في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمر هذا الرأي فأنا لا نستطيع أن نغضي عما فيه من الضعف والتعسف، فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن أمم الأرض تتنازع وتتناضل فيما بينها. وان ما بقي بعد ذلك من التحديد ناشئ من الظروف والحوادث. ولقد كان نضال قرطاجة ورومة بغير شك من أروع مواقف النزاع العالمي، ولكن لم تكن رومة لتمثل عند ذلك شيئاً اسمه الغرب، ولم تكن قرطاجنة تمثل شيئاً اسمه الشرق، فقد كانت مصر عند ذلك تحت سلطان البطالسة العظام، وما كانت قرطاجنة إلا مدينة نامية تستولي على المال وتستخدمه في سبيل بسطة سلطانها بأن تسخر الجيوش لتنتصر لها في حروبها، وما كان لمثل هذه المدينة أن تكون زعيمة الشرق أو الآخذة بزمامه في نضال السيادة العالمية، بل لقد كانت مصر أجدر منها بذلك وأحرى
ويلوح لي أن المؤلف الفاضل لا يذهب مع أصحاب الرأي المتقدم فأنه علم أن قرطاجنة لها رحم بالساميين لم يجعلها ممثلة الشرق في نزاع الأجناس، بل نظر نظرة أخرى تختلف كل الاختلاف عن تلك الوجهة التي أشرنا إليها، فهو لا يتعصب لها ولا يراها تمثل مثلاً من أمثلة الشرق العليا، بل أنه لينظر إلى المثل العليا لروما على أنها أقرب إلى تمثيل مثل الإنسانية عامة، وهو يتحدث عن حوادث نضال قرطاجنة وروما حديث من يريد أن يتغلغل دون السطح ليتخذ من بحثه عظة وتنفعنا في حاضرنا فهو يريد أن يوجه أنظارنا إلى أن قرطاجنة قد فنيت لأنها كانتا جديرة بالفناء، وأن روما قد بقيت ونمت لأنها كانت جديرة بالبقاء والنمو، ثم هو يشير لنا وهو يسير في حديثه إلى الأسرار التي أهلت كلاً من المدينتين إلى مصيرها وجعلتها جديرة بما نالها.
خلفت الأساطير قصتين عن منشأ المدينتين المتناضلتين، وما أحرى هاتين الأسطورتين أن تكونا مختصرة لتاريخهما. فروما تنشأ في العراء وتغذوها الوحوش ثم ترويها الدماء ولكنها ترفض الاستكانة إلى الدعة ويطلب أهلها العيش في ظلال المكارم، فلا تزال مثلها العليا الخشونة والقوة والقسوة. وقرطاجنة تنشأ هرباً من مطامع الطامعين لتنفرد في مأمن تتمتع في برغد العيش وذكريات السعادة ولكنها لا تلبث أن تحرق نفسها دفاعاً لمطامع جديدة اتجهت إليها من ناحية أخرى. وما كانت التاريخ ليحدثنا عن المدينتين إلا هكذا إذ شاء اختصار حكاية كل منهما في كلامات قليلة.
وانه لمن ألذ المطالعات أن يتتبع القارئ وصف هذا الكتاب لحوادث تلك الحقبة من الدهر، فان فيه خصالاً ثلاث تسمو به. دقة في البحث، ونفوذ في النظر، وجمال في الأسلوب.
وإني لأنتهز هذه الفرصة لتهنئته تهنئة حارة على ما أصاب من إجادة وتوفيق.
محمد فريد أبو حديد