انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 189/الفنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 189/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1937



أكروبوليس أثينا

للدكتور أحمد موسى

(تابع)

وإذا أردنا أن نسجل هنا كل ما في معبد بارتنون من عجائب الفن وآياته، فإننا نحتاج إلى أعداد كاملة من (الرسالة)، ولكنا نقتصر على وصف أهم ما فيه مما يستطيع غير المشتغل بعلم الآثار أو بتاريخ الفن تفهمه وتذوقه

فالمثلثان المصوران بين السقف الجمالوني وأفريز المعبد من ولجهتيه حيث المدخل المؤدي للهيكل، اشتملا كما سبق القول على منحوتات غاية في الإبداع الفني وجمال الإنشاء المجموعي، كلها من خلق الفنان فيدياس.

وترى في (ش1) مجموعة منحوتات أحد المثالين، نقلها العلامة كاري عن الأصل بتصرف قليل أضطر إليه، وهي كما يتضح بالنظر إليها مبتورة الأجزاء، ومعظم هذه القطع موجود في المتحف البريطاني وبمتحف أثينا.

والصورة (ش2) تبين امرأتين جالستين، إحداهما قد اضطجعت مستندة إلى صدر الأخرى وواضعة يمناها على فخذها، على حين ترى ساقي الثانية كادا يلتصقان بالفخذين حتى يكون بذلك إخراجهما طبيعياً إلى أبعد حد.

والبناء العام لجسميهما مثل عال من أمثلة تناسب الأعضاء؛ وإذا رجعنا إلى أصول وقواعد النحت، نجد أن فيدياس من أقدم مؤسسي هذه الأصول والقواعد، كما يتضح هذا من منحوتاته، التي ترى الوحي فيها خارجاً عن دائرة حاجات النفس المادية، بل إنك إذا تفرغت بها للاستمتاع الذوقي ترى أنها تعرج بك إلى ملكوت الخيال السامي

ومهما وصفنا قطع فيدياس فأننا لا نزال نقصر عن وصف ما جال بخاطره عند نحتها الذي عبر به عن ثورة فنية رائعة تكاد تكون خارقة للمعقول، إذا علمنا أنها نحتت من الرخام في القرن الخامس قبل المسيح.

ولعل تمثال أثينا بارتنوس المصنوع من الرخام أيضاً (ش2) يعطينا فكرة عن تمثال أثي الذي قلنا في المقال السابق إنه كان من العاج الخالص والذهب وارتفاعه ثلاثة عشر متراً، والصورة هنا ليست على جانب كبير من الدقة، إلا أنها لا تخلو من إظهار الغاية التي عمل التمثال من أجلها

والمغادر لمعبد بارتنون يرى الناحية الشمالية على بعد قليل، معبد إرشتايون (انظر صورة أكروبوليس بالمقال الأول) وهو المعبد الذي مناه ككروبس لأثينا بولياس بأحجار نحتتها الآلهة وألقت بها من السماء إلى الأرض على هذه البقعة حيث تحاربت أثينا مع بوزيدون على امتلاك البلاد، كما كانت شجرة الزيتون التي غرستها أثينا والمنبع الملحي الذي حفره بوزيدون في هذا الموضع أيضاً

حطم كسركس هذا الموضع المقدس، ولكن إقامته أعيدت بكل نشاط في عصر بركليس، إلا أنه لم يتم نهائياً إلا عند انتهاء حرب بيلويونيز. والناظر إلى المجموع الإنشائي لهذا المعبد يرى أنه مكون من ثلاثة معابد: هي معبد أثينا ومعبد بوزيدون ارشتايوس (ارشتايون) وبانوروزوس لأن الرغبة كانت متجهة إلى المحافظة على هذه المساحة المشغولة بالثلاثة المعابد معاً، لذلك كان المجموع الإنشائي على شكل غير منسجم التكوين من حيث الوضع الهندسي للبناء، ولفظ ارشتايون باللغة الإغريقية معناه الأقدم، وقد أطلق على هذا المعبد نظراً لأنه مكون من الثلاثة معابد القديمة

وصالة كرياتيد (ش5) تحمل سقفها آنسات قد وقفن وعلى رؤوسهن السقف، ولم تظهر على وجوههن علائم التعب والإجهاد، بل إن وقفتهن تمثلن كما لو كان يحملن شيئاً مألوفاً. ويعطي قوامهن فكرة كاملة عن جمال الشابات الإغريقيات اللاتي لم تمتلئ أجسامهن بعد. والواقع أن جمال الأجسام لا يرتبط بضخامتها أو نحافتها، بل بتكوينها الكلي وحسن تناسب أجزائها وانسجامها بعضها مع بعض لتكوين المجموع، وهذا نفسه ما قرره أوجستينوس (354 - 320 ب. م.) في شرح الجمال ,

وإذا لاحظنا أن الأولى من اليمين تكاد تتشابه مع الثانية من حيث طريقة الوقوف، مع فارق ضئيل في كيفية امتداد الذراع، وأن الأولى من اليسار اختلفت في شكل امتداد الساق اليسرى بدلاً من اليمنى كما كان الحال في الاثنتين الأخريين، وعلمنا أنهن يشتركن جميعاً في حمل سقف واحد؛ أمكننا أن نتصور القدرة الهائلة في الإخراج، لأن أوليات قواعد الهندسة تحتم أن يكن كلهن في ارتفاع واحد ليستوي السقف. فترى الفنان مع هذا القيد الهام ووجوب مراعاته استطاع أن يخرج عن ضرورة التشابه خشية الإملال كما هو الحال في عمل الأعمدة، وتصرف في طريقة إخراج السيقان والأذرع فجعلها مختلفة دون إخلال بأصول التوازن

أما التيجان البسيطة التي علت الرؤوس، وما فوقها من الإفريز (الشامل للأسنان) فكل هذه في ضبط نحتها واستوا خطوطها مثل آخر من أمثلة الدقة

وفي (ش4) نعرف موقع الصالة المقول عنها. وكذلك الشكل الكلي للمعبد. وأهم ما يلفت النظر هو التكوين الشكلي للأعمدة، فهي مخالفة في قاعدتها السفلى والعليا لأعمدة بارتنون التي قلنا إنها من الطراز الدوري. أما هذه فهي من الطراز اليوني أعني أنها اختلفت عن اليونية بوجود قاعدة صغيرة أسفل كل عمود فضلاً عن التاج الدائري الجانبين على نهاية كل منها، وعلى هذه النهاية قام السقف الجمالوني الذي ترك مثلثاه دون منحوتات بداخلهما كتلك التي رأيناها في معبد بارتنون

والشجرة المغروسة إلى جانب الصورة تمثل شجرة الزيتون السابق ذكرها بالمقال الفائت. ولا نترك أكروبوليس أثينا دون تنويه بمعبد أثينانيكا القريب من المدخل العام (بروبيلين) وها هي ذي قطعة من أفريزة (ش6) تشمل أحد المناظر التي تجلت فيها قدرة الإخراج. فإذا تأملت الأشخاص وما مثلته من حركات الهجوم والمقاومة والانتصار والانهزام، رأيت أن المثال أخرجها في قوة جديرة بالتسجيل بالنظر لما فيها من دقة العضلات وتفاصيل الجسم وحسن التمثيل

أحمد موسى