انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 186/في النسيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 186/في النسيان

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أعوذ بالله من قولة (أنا)؛ ولكني مصاب بنفسي وهذا عذري، وشر ما أصبت به منها النسيان؛ وحسبك به بلاء عظيماً. وقد صرت بفضله - أو من جرائه - امرأ له الساعة التي هو فيها، فأعفيت من الهموم كما أعفيت من اللذاذات أو المسرات ومن ذكرياتها الحلوة. ولا آسف على ذلك فقد تكافأ الربح والخسارة. ولو أراحني الناس كما أراحتني نفسي لتمت لي السعادة في هذه الدنيا الدنية. ويبلغ من نسياني إني أكون ذاهباً إلى فراشي في الليل فأراني اقف أمام السرير متردداً حائراً لا ادري ماذا جاء بي إلى هنا. . أهي علبة السجائر، أم أريد المعطف أو العباءة؟ هذا في الشتاء - أم ماذا يا ترى؟ ثم استخير الله وأقول لنفسي: (نم يا شيخ وأرح نفسك من عناء المحاولة فما فيها فائدة).

وارقد على فراشي، فتدور في نفسي معان وتتمثل لذهني صور أتعلق منها بما يروقني فاغمض عيني - وقد قرت - وأقول إن شاء الله في الصباح اكتب الفصل أو ارسم الصورة أو أقص القصة. . واقرأ الفاتحة للموتى وآية الكرسي ليحفظني الله من العين وأنام. . ويطلع الصبح فاستيقظ مع الدجاج فإذا بي قد نسيت كل شيء، وإذا بالصور والمعاني قد مسحت بقدرة ربك من اللوح ولم يبق منها ولا اثر ضئيل يدل عليها ويهدي إليها، ويساعد على رجع ما ولى منها، فأتعزى بان الذي لا أجده لا يزال هناك وانه غاب ولكنه لم يمح، وقد تنتعش الذاكرة فجأة فيطفو ما رسب.

ويتفق أن اقف أمام المرآة لأسرح شعري أو أسوي ربطة الرقبة أو افعل غير ذلك من الشؤون التي تحوج في العادة إلى المرايا - وان كنت أنا أستطيع ذلك كله بغير معونتها - حتى إذا صرت أمامها وقفت متعجباً متسائلاً: (لماذا يا ترى انظر في المرآة؟) وارفع يدي إلى جبيني وافركه وأحاول أن أتذكر، ولكن الأمر يعييني فأهز رأسي وامضي لشأني.

وأقول وأنا ماض إلى عملي اليومي: إني سأكتب كيت وكيت، ويشغلني ذلك طول الطريق، واصعد إلى مكتبي والتقي بإخواني وزملائي ويجر اللقاء إلى التحدث في أمور شتى من عامة وخاصة، حتى إذا خلا المكان وتناولت القلم وأقمت سنه على الورقة رأيتني أتساءل: في أي شيء كنت أنوي أن أكتب يا ترى؟. وكيف أمكن أن أنسى بهذه السرعة العجيبة وقد كنت مشغولاً به طول الطرق؟. وأحتاج أن أبحث عن موضوع آخر. . ومن يدري. . فقد يكون الموضوع الذي أهتدي إليه بعد العناء هو بعينه الذي نسيته وأنا أحسبه غيره.

ومن كثرة نسياني تحتاج الخادمة أن تحاسبني كلما هممت بالدخول أو الخروج، فأني أفقد مناديلي لأني أنسى أين أتركها، أو القيها ولا أذكر ماذا صنعت بها، وزوجتي تعدها مسئولة عن هذه المناديل التي لا ينتهي الخلاف عليها ولا ينقطع الجدال من جرائها. فأنا أزعم أني تركتها حيث ينبغي أن تترك هذه الأشياء، والخادمة تنفي ذلك وتؤكد أني لم أفعل - بأدب طبعاً - وتقسم أنها عدتها فألفتها ناقصة؛ وزوجتي تحدق في وجهي وتسألني: هل أكون مستريح الضمير إذا صدقوني؟ ومتى وصل الأمر إلى الضمير والذمة فأنه لا يسعني إلا أن أتردد وأقول بالأرجح والمعقول كأنها قضية منطقية.

فتشير زوجتي إلى الخادمة وتقول: (يكفي. . . اذهبي يا بنت) فتذهب البنت ولكنها تواجهني حين أهم بالخروج وتسألني كم منديلاً معي؟ فأصيح (أوووه). . وهل أنا أعرف؟. سبحان الله العظيم! ألا يمكن أن يستريح المرء في هذا البيت؟. ما معنى هذا التعطيل؟. تنحي من فضلك.

فتقول: (أرجو أن تعدها).

فأقول: (وما الفائدة، ما دامت تضيع. . . . هه) وأخرجها من الجيوب وأعدها وأقول: (ثلاثة) مثلاً.

فترجو ألا أنسى أنها ثلاثة، فأقول: (طيب. طيب).

وتفتح لي الباب وأنا عائد وتسألني عن المناديل، فأخرج ما أحمل منها وأرمي به إليها وأمضي عنها، فتدركني وهي تصيح وتقول: (هذه أربعة. . . من أين جاء الرابع؟).

فأتعجب وأقول: (من أين جاء؟. . ماذا تعنين. . ربما كنت اشتريته).

فتقول: (ألا يمكن أن تكون أخذت منديل صديق وأنت. . . وأنت. . .!)

ويمنعها الأدب والحياء أن تنطق باللفظ فأنوب أنا عنها وأقول (ذاهل. . . أليس كذلك. . . كلا لم يبلغ الأمر هذا الحد. .)

فتلح وتقول: (ولكن من أين جاء إذن؟).

فأقول متململاً: (أووووه. . . إن شكواك لا تنقطع من أن المناديل تنقص وأنت الآن تزعمين أنها زادت واحداً فاحمدي الله إذن وأريحيني)

ولكني لا أرتاح منها ولا من ستها ولا من الأطفال، ولا أزال أرى من يجري ورائي منهم ويخبرني إني نسيت الجورب أو لبست اثنين مختلفين، أو تركت الطربوش ويوشك أن أخرج برأسي عارياً، إلى آخر هذه التوافه التي لا أعرف لها آخراً.

وأحسب أن نسياني إنما يشتد لأن رأسي لا يخلو من شيء يدور عليه تفكيري ويستغرقني ذلك حتى لأذهل عما عداه؛ وقد كانت أمي - عليها رحمة الله - تتعجب لأمري وتقول لي: (يا بني ما الذي يطير عقلك؟)

فلا يعجبني هذا وأقول معترضاً: (إن عقلي لم يطر. . ثم إن هذا غير معقول. . أم تظنينه حمامة)

فتقول غير عابئة بملاحظتي: (لم يكن أبوك هكذا. . ولا أنا مثلك. . إنك لا تتذكر شيئاً أبداً)

فأقول: (إني من صنعكما - أنت وأبي المحترم - فأين ذنبي بالله؟)

فتقول مستاءة: (لماذا لا تتكلم خيراً؟)

فأقبلها وألثم يدها وأسترضيها وأقول معتذراً: (ماذا أصنع إذا كان ربي قد خلقني هكذا. . . واسع خروق الرأس كالغربال القديم)

فتبتسم وتدعو لي الله أن يرد علي ما غرب من عقلي، فأتقبل دعاءها بالشكر وأمري إلى الله.

والأم تحتمل ابنها وتصبر على ما يكون من ذهوله، ولا تسيء به الظن، وليست هكذا الزوجة فإنها تحمل ذلك على غير محمله، وتؤوله بأنه قلة اكتراث وعدم مبالاة، وأن الرجل لا يفكر فيها ولا يفرض لها وجوداً ولا يقيم لها وزناً إلى آخر هذا الهراء؛ وهي سليمة لا تخونها الذاكرة، فليس في وسعها أن تدرك بلاء النسيان وأن تعذر المنكوب به. ومن العبث أن يقول لها المرء إن كثرة المشاغل هي التي تطير من الرأس كل ما عسى أن يكون فيه. إذن لماذا لا يشغل الرجل بها هي ولا ينسى ما عداها هي. . .؟ هذا هو المشكل

وما دخلت البيت مرة إلا شعرت أني لا بد أن أكون قد نسيت شيئاً أوصتني به زوجتي، فأقول لنفسي: (سترك اللهم. . وعونك أيضاً) وقد أكون مخطئاً ولكن الخطأ لا يمنع الشعور الثقيل. وكثيراً ما يتفق أن يكون ظني في محله، فلا تكاد ترى وجهي الناطق بتوقع اللوم حتى تبتدرني بقولها: (بالطبع نسيت) فأقول وأنا أتكلف الضحك: (أي والله. . صدقت. . الحق أن فراستك قوية)

فتقول: (وما العمل؟)

فأسال متحرزاً: (في أي شيء؟)

فتقول: (في أن تذكر. . كيف نحملك على التذكر؟)

فأقول: (اربطي لعبة في رجلي فأضطر أن أتذكر كلما سمعت كركرتها)

فتقول: (إني جادة)

فأقول: (نكتب الشيء في ورقة وأضعها في جيبي أو مع الساعة)

فتقول: (وتنساها في جيبك. . وتخرج الساعة فترى الورقة فترميها وأنت ذاهل)

فأقول: (ألبسيني الجاكتة مقلوبة. . أزرارها إلى الخلف)

فتهز رأسها وتقول آسفة (كلا. . لا فائدة. . الأمر لله. . لو كان شيئاً يعالج. . ولكنه مستعص. . لا علاج له).

فأقول متشهداً: (صدقت يا امرأة. . أما والله إنك لمنصفة. . جزاك الله خيراً وقواك على احتمالي)

وأعترف أني كثيراً ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني، فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت: (وهل أنا أعرف؟. وأين العقل الذي يتذكر؟. .)

وما قرأت كتاباً إلا نسيت ما فيه - نسيته جملة وتفصيلاً؛ حتى اسمه واسم كاتبه؛ وقد أعود إليه كأني ما قرأته ولا سمعت به، فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات؛ وهذا نافع لان فيه اقتصاداً. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغرباً متسائلاً: أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل. . أم لم أفتحه. . على كل حال. . الأمران سيان. . توكلنا على الله)

وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين. ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.

إبراهيم عبد القادر المازني