انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 184/نظرية النبوة عند الفارابي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 184/نظرية النبوة عند الفارابي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 01 - 1937



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

- 8 -

انتهى بنا الحديث في المقال السابق إلى بيان اثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى. ويظهر أنها لم تقف عند هذا الحد بل جاوزته إلى التاريخ الحديث. ونرى واجبا علينا لإتمام هذا البحث أن نشير إلى بعض المفكرين المحدثين في الغرب والشرق الذين حاولوا تفسير النبوة تفسيرا يمت بصلة إلى النظرية الفارابية؛ ولن نتحدث من بين فلاسفة الغرب إلا عن اسبينوزا الذي أشرنا في بحث سابق إلى انه يلتقي مع الفارابي في نقط كثيرة. وأما مفكرو الشرق ومصلحوه فسنذكر من بينهم شخصيتين جليلتين كانت لهما اليد الطولى في نهضة الأمم الإسلامية الأخيرة وتقدمها العلمي والأدبي، وهما السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام. ولا نظن أحدا إلى الآن حاول أن يربط آراء هذين المصلحين ربطا وثيقا بنظريات علماء الإسلام الأول ومفكريه، اللهم إلا محاولات ضئيلة ترمي إلى أيجاد علاقة بينهما، أو بين الأستاذ الأمام بوجه خاص من جانب وابن قيم الجوزيه وابن تيميه والغزالي من جانب آخر. وإذا صح أن آراءهما الدينية قد ربطت بأقوال بعض أئمة السلف فأبحاثهما العقلية لا تزال حتى الساعة غير واضحة الصلة بنظريات فلاسفة الإسلام. وخطأ أن يظن أن هذه الصلة مقطوعة أو معدومة، فان السيد والأمام إنما تم تكوينهما أولا وبالذات على حساب المصادر العربية؛ وفي مجلة العروة الوثقى ما يشهد بأنهما كانا يدعوان إلى دراسة فلاسفة الإسلام وتفهم أفكارهم. وسنرى بعد قليل كيف يلتقيان في مشكلة من أهم مشاكل الإسلامية

كلنا يعلم أن الصلة بين العقل والنقل بين الفلسفة والدين شغلت الفلاسفة المحدثين كما كانت حجر الزاوي في فلسفة القرون الوسطى. وقد وقف اسبينوزا على هذا الموضوع كتابا مستقلا غير معروف من جمهور القراء، لان نفوذ كتابه الآخر المشهور (الأخلاق) غطى عليه، ونعنى به (رسالته الدينية السياسية) التي تتمم في رأينا مذهبه الفلسفي. ذلك لأنه إذ كان (كتاب الأخلاق) يوضح الحقائق العقلية، فأن هذه (الرسالة) تشرح الحقائق النقلية. وهذان الضربان من الحقائق متميزان عند اسبينوزا ومستقلان تمام الاستقلال ويقابلان علمين منفصلين: الحقيقة العقلية وموضوع الفلسفة، والحقيقة النقلية في موضوع علم الإلهيات، واسبينوزا فيلسوف وعالم في الإلهيات في أن واحد، فلا يستطيع أن يلغي إحدى هاتين الحقيقتين ولا أن يدمجها في الأخرى، بل يقرر أن كل واحدة منهما ضرورية ومطلقة النفوذ في مضمارها؛ والدين أن لم يكن الحقيقة كلها حقيقي في ذاته ولا غنى للجمعية عنه. غير أن الحقيقة الدينية تعتمد رأسا على الوحي والإلهام، فكيف يتم هذا الوحي وبأنه وسيلة يستطيع الأنبياء الوصول إليه؟ هذا هو السؤال الذي حاول اسبينوزا أن يجيب عليه. وفي رأيه أنا إذا تتبعنا الكتب المقدسة جميعها وجدنا إن الإلهامات النبوية المختلفة سواء أكانت عبارات صحيحة آم صورا رمزية إنما تتم بواسطة مخيلة قوية. وعلى هذا لا تتطلب النبوة شرطا آخر سوى أن يكون الأنبياء ذوي خيالة نشيطة متنبهة

لا يمكننا أن نمر بهذه الآراء دون أن نفكر على الفور في الفارابي وفي الدراسات الفلسفية اليهودية في القرون الوسطى. حقا أن المعرفة الناتجة عن الوحي والإلهام لا تساوي في نظر اسبينوزا المعرفة العقلية، مع انهما عند الفارابي متساويتان متكافئتان؛ ولعل هذا راجع إلى أن اسبينوزا فيلسوف قبل أن يكون لاهوتيا، وديكارتي قبل أن يكون فارابيا؛ ولا شك أن الأفكار الواضحة النيرة هي وحدها عند ديكارت سبيل المعرفة اليقينية غير انه بالرغم من هذا الخلاف فمن المسلم أن الفيلسوف العربي والفيلسوف اليهودي متفقان على أن قوة الخيالة شرط أساسي في النبوة. وهنا نتساءل: هل هذا الاتفاق مجرد مصادفة أو اخذ اسبينوزا عن الفارابي بعض آرائه في النبوة؟ إذا ما لاحظنا أن الأول درس في عناية مؤلفات ابن ميمون أمكننا أن ندرك الصلة بين الأفكار الاسبينوزية ونظرية النبوة الفارابية. ونحن نلحظ من جهة أخرى أن مذهب السببية عند الفيلسوفين متحد، وانهما يقبلان فكرة التنبؤ بالغيب دون أن يكون لها أي اثر في مجرى القوانين الطبيعية. ففي مقدور ذوي النفوس الممتازة أن يقفوا أثناء اليقظة أو في حالة النوم على الأمور المستقبلة ويتكهنوا ببعض الحوادث التي ستحصل غدا أو بعد غد لا محالة. وعلى كل حال فنحن لا نذهب مطلقا إلى أن اسبينوزا اخذ عن الفارابي مباشرة، لأنه ما كان يعرف العربية؛ وبعيد أن يكون قد وقع في يده شيء مما ترجم من كتب الفارابي إلى اللاتينية. وكل الذي نعتقده انه استقى بعض الأفكار العربية من مصدر ثابت هو كتاب (دلالة الحائرين) لابن ميمون، وفي هذا الكتاب، كما قدمنا قسط وافر عن نظرية النبوة

ولنعد الآن مرة أخرى إلى الشرق وإلى السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام بوجه خاص. فأما السيد فلم يخلف لنا مؤلفات كثيرة نستطيع أن نقرا فيها كل أبحاثه ونظرياته، وفيما وراء (رسالته في الرد على الدهريين) و (تاريخه للأفغان) لا نكاد نجد له إلا مقالات متفرقة في (العروة الوثقى) وفي بعض الصحف والمجلات الموجودة في ذلك العهد. وكأنه اكتفى بان يلقن اتباعه وتلاميذه تعاليمه دون أن يودعها بطون الكتب شان سقراط وطائفة من المصلحين. هذا إلى أن حياة الاضطراب والرحلة والانتقال التي قضاها ما كانت تسمح له بالهدوء الكافي للجمع والتأليف. ومهما يكن فقد أدلى في موضوع النبوة بآراء جديرة بان تسرد هنا. وذلك انه أثناء مقامه الأول في القسطنطينية سنة 1870 دعي إلى إلقاء محاضرة في دار الفنون. ويظهر انه شاء أن يكون موضوع المحاضرة متناسبا مع المكان الذي ألقيت فيه، ولهذا تحدث عن فائدة الفنون. وفي خلال هذا الحديث شبه الجمعية بجسم مرتبط الأجزاء والأعضاء، ولكل عضو من أعضائه خاصة. ثم انتقل من هذا إلى انه لا حياة للجسم إلا بالروح، وروح هذا الجسم هي النبوة أو الحكمة. فالنبي والحكيم من الجمعية الإنسانية بمنزلة الروح من البدن. وكل ما بينهما من فارق: هو أن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده (والله اعلم حيث يجعل رسالته) في حين أن الحكمة تنال بالبحث والنظر. وفوق ذلك فالنبي معصوم من الخطأ والزلل، بينما الحكيم يجوز عليه ذلك ويقع فيه وأول شيء يستخرج من التشبيه السابق أن النبي عضو وعضو هام من أعضاء الجمعية الإنسانية، وأن النبوة مهمة ووظيفة من الوظائف الضرورية للمجتمع. وفي هذا ما هيأ السبيل لشيخ الإسلام حسن فهمي أن يثيرها شعواء على السيد متهما إياه بأنه يزعم أن النبوة فن، وأن النبي صانع. وقد أحدثت هذه التهمة ضجة عنيفة في صحف الشرق المختلفة، وترتب عليها أن أرغم السيد على مفارقة استامبول سنة 1871

التتمة في العدد القادم إبراهيم بيومي مدكور