انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 183/حب الشاعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 183/حب الشاعر

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937



للأستاذ السيد محمد زيادة

يا حبها: أأنا مخلوق بك ومخلوق لك؟. . كيف أتَّقيها ولجمالها في كل مشرق من مشارقه صورة، وفي كل صورة معنى، وفي كل معنى خلابة وفتنة؟. .

كنا على موعد أنا وهي، وكان موعدنا بين الأصيل والغروب في حديقة سميناها حديقة الحب؛ تترامى أطرافها، وترى في مكانها من بعيد كأنها عاشق برح به هواء فذهب إلى الخلاء يتفرج بالوحدة، وترى من داخلها في جوها الشعري الغزلي كأنها جنة هيئت لعاشقين

وتقوم بين أفنانها ربوة صاحية نائمة. . . صاحية بنسيمها الرفاف الممطر، ونائمة بمنظرها السكران الحالم، وتظل هذه الربوة شجرة لقاء وارفة تعانقت أغصانها فكان لها مواقف الحب والشوق. . . وهناك على هذه الربوة تحت هذه الشجرة كان الموعد. . . والتقينا

وقبل أن يحين الملتقى بساعة كنت جالساً في حجر الشجرة أترقب من خلال أوراقها احمرار الشمس بعد تمايل الأصيل، وكان كل ما في الحديقة من أشجارها وزهرها يترجرج، كأنما كان للحديقة قلب ينتظر انتظار قلبي. . .

وسرب خيالي بين أنحاء الطبيعة في أنحاء الفكر؛ أما قلبي فكان معي ولم يكن معي!!. كنت أحس انه معي يدق ويرتعش وهو مطمئن خائف، وكنت أحس أنه بعيد عني بعد حبيبتي وأنه قادم معها بعد فترة

ومرت عليَّ الدقائق ثقيلة محببة، فكانت كل دقيقة تأتي بعد دقيقة كأنها اجل يمتد إلى اجل. . .

وإني لفي غرةٍ وذهول فكر إذ رأيت الحديقة تهتز فجأة كأنما راعها رائع. . . فتبينت فإذا بنسمة وردية تنفلق في جو الحديقة نصفين وينفذ من بينهما صوت ملاك. . . وتسمَّعت فإذا بها أغنية هي فن وسحر فن، وسمعت صوت الملاك يردد:

يا حبيب القلب مالي ... شغلت نجواك بالي

وأنصتُّ فإذا الصوت يقترب شيئاً فشيئاً، وإذا الحديقة تبتسم شيئاً فشيئاً، وإذا القلب يذوب شيئاً فشيئاً. . .

لقد جاءت الحسناء. . .

جاءت تترنم بهذه الترنيمة!! ومادت بي الربوة فلم اسمع إلا رعد فؤادي، ولم أر إلا برق خيالي؛ ثم انقشعت من فوق رأسي سحابة فنظرت فرأيت الحديقة ترقص، ورأيت الحسناء قد وافت باسمة مغنية متثنية. وخيل إليَّ أن الأشجار كلها قد تجمعت وسارت جحفلاً لتحيي جمالها وتزف إلى الطبيعة في قوامها غصناً خلقه الله ليحيا، وأحياه ليظل سراً وتظل الطبيعة عاجزة عن معرفة هذا السر

ومدت إليَّ يدها وهي ضاحكة وقالت: كأنك تناديني من بعيد، فهل أنت بعيد؟

قلت: كانت روحي بعيدة شاردة، وها قد رجعت لما سمعت صوتك. . . وأنا ألان أناديك منها

قالت: لعل روحك طويلة، ولعلك تناديني من أولها. . .

قلت: بل أناديك من آخرها، ولولا انك أدركتني فأدركت آخرها لضاع مني في الانتظار كما ضاع أولها

ثم ضحكت وافتنَّ مبسمها في الضحك فقلت: كأني بالحديقة كلها تضحك في وردة إذ تضحكين

قالت: هذا رأي خيالك

قلت: ورأي عينيَّ ورأى قلبي ورأى الحقيقة. . .

قالت: إذا كانت الحديقة تضحك فلم لا أراها كما تراها؟

قلت: لأنك لا ترين ثغرك الضاحك كما أراه

فضحك وجهها كله، ويا للجمال في ضحكة الوجه الجميل!!

لقد رايته يومض وميض قبلة دانية تمتنع، ويشع شعاع قبلة ممنوعة تدنو، فقلت: وهاهي الدنيا كلها تضحك

قالت: لقد كبرت الحديقة فصارت في خيالك دنيا. . .

قلت: لا. . . بل تبسمت الدنيا من حول الحديقة لان وجهك تبسم من حول ثغرك

فأطرقت إطراقة حنين وحب، وترقرقت في مفاتن حسنها معاني هواها فكانت فلسفة الجمال بين فلسفة العواطف؛ ثم رفعت رأسها ونظرت إلى السماء فسبحت عيناها في الشفق، ثم عادت إليَّ من غيبتها وقالت: ما ارق قلب الطبيعة، إنها الآن حانية. . . ألا توحي إليك؟. .

قلت: لقد أوحي إليّ بهذه الأبيات وأنت قادمة

قالت: ما أشوق نفسي ألان إلى الشعر

قلت: هذا هو شعر الحديقة:

صدْح البلابل فنٌّ من تغنيها ... يا سكرة اللحن لما مرَّ من فيها

البدر تفسير معنى من تلألئها ... والغصن تفسير معنى من تثنيها

كأنها آية قد أُلبست جسداً ... يحار في حسنها الرفاف رائيها

في صوتها رنة لم يعطها ملك ... تضنى قلوب الورى من حيث تشفيها

غنت فقال الهوى هذي مخلدتي ... هذي التي قدستني في أغانيها

فأسبلت أجفانها على نظرة صارخة ثم زفرت وقالت: آه منكم آيها الشعراء!! إنكم إذ تغوون لا ترشدون

قلت: وأين ألغي هنا؟

قالت: في لسانك من وراء شيطانك، من وراء قلبك. . . لقد جعلت الشعر مصيدة. . . إنك محتال شريف!!

قلت: إذا فما لشعري لم يصد؟

فسكتت هي وقالت عيناها وقالت: يا منكر الخير. . .

ثم سكتت عيناها وقالت هي:. . . ويحك

قلت: لو انك رأيت كيف كان اللحن بين شفتيك وأنت مقبلة عليَّ إقبال الدنيا على طريدها، وكيف كانت شفتاك في وجهك وكيف كان وجهك فوق قوامك، وكيف كان ميد قوامك بين ميد الغصون. . . لو انك ما رأيتِ هذا لكنتِ ألان شاعرة ولما قلت في وصف نفسك غير ما قلته؛. والله لكأن الفتنة ما خلقت إلا للمغنيات. . .

ونظرت إليها خلسة فرأيت وجهها ساكناً يحتج على أني أخطأت وعددت فتنته من فتنة غيره، ثم رفعت بصري لأخلس نظرة أخرى، فصدمتني منها نظرة حزينة وقالت: أكل المغنيات جميلات لديك؟. . .

قلت: ومن غيرك جمعت بين جمال الجسم وجمال الصوت في جمال ثالث هو انفرادها بالجمع بينهما؟؟. . فإذا كنت لم أحسن التعبير فليكن عذري أنني أحسنت القصد

ولكنها غضبت وطال منها الغضب، وتراءت لي كأنها تجادل قلبها في صوابه لترده إلى صوابها، ثم كأنها انتصرت وأمسكت قلبها بالحجة؛. . ثم تبسمت فتهكمت ثم قالت: يخيل إلى انك خلقت وفي قلبك أذن مرهفة للغناء فعشت لتهوى المغنيات، وتجعل من كل منهن قصة حب، وتفيد من كل منهن تجربة حب، وتحسب كلا منهن إنها نهاية فلا تلبث حتى تراها بداية؛ وجاء دوري عندك. . . ولكن أي حب؟!

قلت: حب الشاعر الجاعل روحه نسمة في جوك، الباذل لك من قلبه كل البذل

وقالت: كفى أن تقول حب الشاعر ليفهم سامعك أنه حب أيام أو أسابيع أو شهور، وأنه كالزهرة لا تكاد تينع حتى تجتني

قلت: لقد عكست الوضع يا آنستي؛ فحب الشاعر غير حب الناس، لا يكون له آخر كما يكون له أول؛ وإنما هو الحب الذي يبدأ ليظل حيث يبدأ فيرتبط بأجل الشاعر ما طال أجله ثم يبقى بعده ما بقى ذكره. . . أفلا تعلمين أن الشعراء هم اشد أهل الوفاء تمسكا بالوفاء، وأكثر أهل الحب صدقاً في الحب؟. .

قالت: هذا من وهم الشعر والشعراء

قلت: أفلا تعرفين أنهم يشقون ليسعدوا غيرهم؟. .

قالت: وهذا من أكاذيب الشعر والشعراء

قلت: أفلا تعتقدين أنهم مخلدون؟. .

قالت: وهذا من أحلام الشعر والشعراء

قلت: إذن فماذا تقولين فيهم؟

قالت: أقول إنهم شواذ الناس، أما خلالهم فهي الخير والشر، كلاهما يشق طريقه في جوف الأخر، وأما كلامهم فأجمل ما فيه أكذب ما فيه، وأما حياتهم فما منها غير تناقضها واضطرابها، وليس لها أن تركن إلى حال مهما تكن الحال. . .

قلت: وحبهم إذا كان من قلوبهم؟

قالت: أليس الشاعر كالطائر لا يطيب له عيشه إلا في تنقله بين الأفنان والادواح؟ ثم أليس من طبيعة الشاعر أنه طماح لا تقنع نفسه إلا بسعيه وراء الجديد حيث يكون؟ فهل مع هذا نصدق أن في طوقه أن يحب فتنفرد لديه حبيبته، ويحبس عليها قلبه؟

قلت: وهذه الحرق التي في كبدي منك، ما هي وما مصيرها

قالت: هي الهوى الغاوي ومصيرها إلى غيرها من غيري

ثم اضطجعت إلى ظهر المقعد تبتسم وتخفي ابتسامتها كأنها شاعرة بغيظ فؤادي فقلت: وهذه الألفة التي بين روحي وروحك من أين جاءت إذا لم تكن بنت الحب؟

فقطَّبت بعض جبينها الوضاح، وظهرت لي كأنها تنكرني وتتنكر لي، ففلقت بهذا كبدي ثم قالت: هذه الألفة؟. . سل عنها قلبك. . .

أواه منها!! أواه منها!! ما كان أقساها

وسكتنا فترة وكلانا في حاله. . . هي في دلالها تتأود وتهز ساقاً موضوعة فوق ساق، وأنا في حنقي أتلوَّى واضغط يداً مضمومة إلى يد، ثم نظرتُ إليها ونظرتْ إليَّ فقلت: هل تعلمين كيف أنت ألان في قلبي؟

قالت: لا إخالني إلا ممقوتة مقت الحقيقة عندما تكون مرة

قلت: بل محبوبة حب الدلال في الجمال. . . إني أراك ألان فاتنة أخرى ممثلاً في فتنتها عناد الفتنة؛ فأنت في عيني برق يثور على برق؛ أما أنا فلست أنا. انظري. . . هل تَرينني كما كنت قبل دقائق إنساناً بحالة إنسان؟

فسرّحتْ طرفها في هيكلي، فاقتحمتْ نظراتها إلى قلبي فذابت في دمي وجرت في عروقي، وكانت النظرات شيئاً حلواً في شيء مر. . . كانت رضا في غضب، وإغراء في صد، وليناً في صلابة

ثم كفتَّ الغادة بصرها وقالت: لو لم يكن غرام الشعراء غرام برهة من الدهر قد تطول وقد تقصر لما كان مزعزعاً مُخلّى، ولكان فيه أظهر ما في الغرام؛ ولكن من حكمة الله أنه يخلق في كل شيئا كامل شيئاً ناقصاً ليجعل الكمال في الدنيا غاية لا تدرك

قلت: الشاعر يخلق موعوداً بحبيبة يتناهى إليها الجمال في رأيه، فيعيش ما يعيش هائماً على وجهه بين مراتع الغيد يفتش عن تلك الحبيبة المجهولة، فتجنح به عيناه إلى كثيرات يتخايلن له بتلك التي في غيبه. . . حتى إذا صادفها وعرضت له جمعته على حبها وأخرجته من طور الفكرة المشعثة إلى طور الفكرة الملمومة. . . وهانت التي كانت في غيبتي فأصبحتْ في حياتي

قالت: لا أكاد أصدِّق هذا إلا لأكذِّبه، فما يثبت عندي أنني أول من توافي وأخر من تحب

قلت: كيف لا وأنت قد أصبحت لي في كل مالي، فأنا لا أرى الجمال إلا في جمالك أو في خلال جمالك؟. . إن خيالي ليقف عند نهايتك فليس فيه ما بعدك إلا أنت أو ما يجيء عنك. . .

يا رب سبحانك!! يا فاتح الروح للروح. . . يا هازم القلب بالقلب. . . يا فاعل ما تريد. . . يا رب سبحانك. . .

ماذا أقول؟. . . يا حبها أجب، فأنت السائل وأنت المجيب

آني رايتها تبكي ولكن بغير دموع، وسمعتها تضجُّ ولكن بغير صوت، ثم بدت في عينيها فترة كأنها سنة، ورأيتها في جلستها رخيّة رخيّة كأنها نائمة، وكانت حقاً نائمة نوم أحلام في يقظة فكر

قلت: آه ما أجملك!. . .

قالت: وما اجمل شيطانك. . .

ثم هزت رأسها هزة ضعف، ثم سكتت فتركتها تسكت لأرى ما في سكوتها من كلام حسنها. . . فماذا رأيت؟ رأيت وجهها يحمرُ ويحمر حتى يكاد يلتهب، ثم رايته يميل عني ليخفي ما سفر عليه مما احتجب خلفه، وأدركت ما بها فاستحييت أن أطيل النظر إلى شعاع السحر في احمرار الخفر على محيياها، فأغمضت جفوني على حلم سكران فلم أراها. . .

وسمعتها تتنهد، وجاوبها قلبي فتنهد، وفتحت عيني مخمورتين لأراها فإذا بجمالها ثائر فزع. . . عينان مهمومتان ووجه مرتبك

ثم رايتها وخزت شفتها بسنها، وقرصت إصبعاً بإصبعين، ودقت برجلها على الأرض دقة وقالت: ما أضعف الإنسان!!.

ثم تفتَّرت وتندَّى جبينها وهدأت هدوء الفكر المستسلم فقلت: وما أقوى الحب!!

(طنطا)

السيد محمد زياده