مجلة الرسالة/العدد 181/من ذكريات رحلة الجامعة المصرية إلى أوربا
مجلة الرسالة/العدد 181/من ذكريات رحلة الجامعة المصرية إلى أوربا
زاكوبانا
مدينة الأحلام والثلج
بقلم محمد عبد الرحيم عنبر
كان من برنامجنا الطويل أن نزور بولندا، فوصلنا عاصمتها الجديدة (فارسوفيا) في مساء 17 أغسطس الماضي، كما كان من المقرر أن نقيم فيها ثمانية أيام، إلا أن أموراً شاقة عرضت فجعلت رئيس الرحلة يغير وجهة السير، إذ أن شرذمة كبيرة من مهرة (النشالين اليهود) قد احتفت بمقدمنا الاحتفاء اللائق! ومما زاد في مضايقتنا إجراءات البوليس البولندي التي كان لها كل الفضل في تأخير وصلوا حقائبنا إلى (بيت الطلبة) القذر الذي هيئ لأقامتنا!. وكان أغلبنا قد غلبه النعاس من فرط الإعياء فأسلم عينيه لسلطان الكرى ونام ببذلته نوماً هنيئاً حتى تبدت خيوط الصباح في اليوم التالي. وفي ذلك اليوم استفحلت احتفاءات النشالين إلى درجة مزعجة
فكان طبيعياً أذن أن يستقر بنا الفكر على مغادرة فارسوفيا بعد إذ جاهدنا جهاد الأبطال في الذود عن (جيوبنا) مما محا من نفوسنا جمال كل رؤية!
وعلى رصيف المحطة حدثني أحد الأولاد البولنديين عن هذه الظاهرة في أسف قائلاً لي: (يؤلمنا جداً أن يزعجكم أولئك النشالون الدوليون من سفلة اليهود الذين تضيق بهم بلادنا!) فشكرته وطيبت خاطره لكي أذهب عن وجهه لمعة الخجل
وبعد سفر شاق دام عشر ساعات بالقطار بلغنا زاكوبانا. وكم كان المنظر رائعاً حين كنا نعدو سراعاً خفافاً، كل خمسة منا في عربة رشيقة صغيرة ذات حصان واحد ينهب الأرض نهباً، ويطوي المسافات الطويلة صاعداً فوق صدر ربوات عاليات في طريقنا إلى فندق (مارتون الجميل الذي يطل على قلب المدينة من فوق ارتفاع تسعمائة متر، ارتفاع شاهق يتيح للنزل أن يدوروا بأعينهم فوق آفاق الجبال السامقة المترامية الأطراف، ذات التيجان الثلجية؛ أو أن يرسلوا أنظارهم بعيداً إلى حيث تفترش أشعة الشمس رقع الأرض ذات الألوان الصارخة المختلفة؛ وأينما تقع أبصارهم يشاهدوا جمالاً أخاذاً، ويروا صوراً مختلفات من سحر الطبيعة الخالدة. فها هي ذي تلك الذرى الشاهقة - ذرى الجبال - تلتحف بأوشحة رمادية فاتنة من ضباب كثيف لا يلبث أن يستحيل رذاذاً خفيفاً ثم مطراً ثقيلاً يتجمع ليفترق لينتهي إلى جداول ضئيلة تتشابك أو تتشعب، وتلتوي أو تستقيم، وتنتهي بدورها إلى مجار أوسع تعترضها صخور ضخمة ترقاها المياه بعد صراع عنيف تنبعث في لحظات عنفوانه ألحان الانتصار وأنغام موسيقية شجية فتنة الناظرين ومرح السامعين!
وها هي ذي الغابات الكثيفة تزين كل مكان وتهز في النفوس حنين الالتجاء إلى أحضانها، في ظل أشجارها الباسقة، وتحت أغصانها المتهدلة، لقضاء ساعات طوال بين الخضرة والماء والوجه الحسن!
وههنا وهناك المنازل الخشبية الريفية على صدر الجبال وقممها أو على قلب السهول، متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً. وتبدو جلية طوراً تحت أشعة الشمس وبين الرياض النضرة كأنما هي زهرات من بنفسج فضاح! وشاحبة طورا بين لفائف الضباب كأنها فكرة سابحة في خيال شاعر مفتون!
فكيف إذن لا تكون زاكوبانا مدينة الخيال والأحلام؟
وزاكوبانا ليست مصيفاً فقط، كما أنها ليست مشتى فقط، بل هي هما معاً. فالمعجبون بها يرحلون إليها في الصيف كما يرحلون إليها في الشتاء، ويبهرهم جمالها في الفصلين. فإذا زرتها في الصيف فلست منتّهياً من سماع وصف الشتاء حين يهبط بثلوجه فتتحول تلك البقاع الخضراء الضاحكة إلى بساط فاتن من الثلج فتتيح للناس الانزواء في منازلهم يلتمسون الدفء والراحة. وتعطي الأزواج فرصة الأوبة إلى زوجاتهم مبكرين على غير العادة! ولا يخرج إلا أولئك الراغبون في الانزلاق على الجليد. عادة شائعة في تلك البلاد
فإذا كان الشتاء حدثوك عن جمال الصيف وسحره. الصيف المفتون حيث تطوى شمسه الدافئة ذلك البساط الرهيب وتدفع بأفواج الناس إلى أحضان الغابات، راجلين أو فوق ظهور الجياد. حيث تدب الحياة من جديد في الكائنات المقرورة. حيث تلبس الطبيعة رداءها الجديد! فالناس هناك لذلك تواقون إلى الرياضة العنيفة. وتتجلى هذه الروح في الطفل والشاب والشيخ! في الرجل والمرأة! في الفقير والغني! في العاشق والخلي! في كل كائن حي حتى الحيوان الذليل. . .
والقوم هناك لا يألون جهداً في توفير أسباب السعادة حيث يعيشون عيشة الفطرة وينزعون عن أجسامهم المنهكة أردية السهرات الأنيقة وملابس العمل الثقيلة. فلا كلفة ولا تصنع ولا رياء ولا حقد ولا مفاخرة كاذبة. تأويلهم المدنية كلهم على السواء، ولا تجعل لأحدهم مجال الفضل على آخر، كأنهم أسرة واحدة يخرجون إلى الشوارع (بالبيجامات) وأثواب النوم. ذلك الأمر المستقبح في مدن العمل والرسميات. يتبادلون المجاملات الرقيقة كأنهم متعارفون متوادون منذ زمن بعيد
ولم يحاول أهل تلك البلاد زخرفة الطبيعة. بل تركوها كما هي بزركشتها الإلهية. وإن كان هناك ثمة مجهود يبذله الإنسان فهو في الاستمتاع بسحر الطبيعة ليس إلا؛ فيتسلق الجبال أو ينزلق على الثلج،. . . الخ. وزاكوبانا في كل هذا كالجمهورية الفاضلة التي أسسها أفلاطون في خياله الواسع!.
تكفي نفسها بنفسها وتعيش بذاتها لذاتها. يكاد يشعر المقيم بها أن تلك المدينة الوديعة هي كل ما يستطيع أن يتصور من الدنيا
وفيها السهرات الصاخبة التي تصل الليل بالنهار، وتجعل السهران يستطيع أن يقول في شيء من الزهو - إن كان هناك ثمة مجال لزهو - (بدأت سهرتي تحت ضوء القمر وختمتها تحت ضوء الشمس!)
وإن أنس لا أنس تلك الليلة البارعة التي أمضيناها في كازينو وتشاسكا حيث سعدنا ساعتين أو يزيد بمشاهدة الرقصات القومية التقليدية التي يؤديها الوطنيون في ثوبهم الوطني الموشى بالقصب والحرير ذي الألوان الفاقعة. يؤدونها رجالاً ونساء وأطفالاً! يختلط الحابل فيهم بالنابل. يأخذ الرجل يد أية امرأة يقع عليها بصره! ويمسك الطفل الغرير - مازحاً - بذقن الشيخ العجوز المائل على حافة القبر! ويحتضن الشاب الغريب الفتاة المكتملة ذات الصدر الناضج! فيدورون جميعاً في حلبة الرقص، يتجاذبون ويصفقون ويلفون لفات سريعة بارعة على كعوب أحذيتهم أو أطراف أصابعهم! ضاحكين متراقصين
وصعدنا مرات جبال تاتري راجلين أو ممتطين (القطار المعلق) إلى حيث ارتفع بنا نحو ألفين وخمسمائة متر فوق سطح البحر! نوع غريب من المواصلات لا يوجد إلا حيث تتناهى الجبال إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق كسويسرا.
وهو عبارة عن صندوق ذي أركان من الصلب وجدران من الزنك، معلق في أسلاك قوية شدت إلى أعمدة متينة رفعت فوق ذرى الجبال السامقة. وفي كل ذروة محطة كبيرة، ومكتبة وبوفيه صغيران
وزاكوبانا ككل قرية أوربية بها دار للسينما وأخرى للتمثيل وناد للرياضة. وتتوفر فيها كل أسباب الحياة من حوانيت ومقاه ومستشفيات وفنادق. . . الخ
وتنتشر هناك على الأخص الصناعات الخشبية الرفيعة كالتماثيل وأدوات المكتب والزينة والعصي لوفرة الخشب المجلوب من الغابات الكثيفة
هذه هي زاكوبانا التي تفتح ذراعيها لكل قادم. وتتألم لكل راحل بعد إذ يكون قد أنشأ بينه وبين المقيمين بها علاقات ودِّ وصداقة! المدينة التي تأوي كل هارب من مضنيات الحياة، كل ناشد راحة ومتعة وسعادة وجمالاً!
وأخيراً! المدينة التي قضينا في رحابها ستة أيام بين جمال لا ينتهي وسحر لا يوصف. والتي غادرناها محملين منها في جعابنا بمقادير غير محصورة من الأحلام والشعر!
ولعل كثيراً منا دخل إليها وقد أقفلت دونه أبواب الشعر والنثر، وخرج منها شاعراً مجيداً وأديباً فريداً!!. . .
محمد عبد الرحيم عنبر
بكلية الحقوق - الجامعة المصرية