انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 181/طور جديد في تاريخ أوربا السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 181/طور جديد في تاريخ أوربا السياسي

مجلة الرسالة - العدد 181
طور جديد في تاريخ أوربا السياسي
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 12 - 1936



بقلم باحث دبلوماسي كبير

تجوز أوربا اليوم مرحلة فاصلة في تاريخها القومي والسياسي. وقد ظهرت الأعراض الأولى لهذه المرحلة الجديدة في التاريخ الأوربي عقب الحرب الكبرى، إذ قامت عصبة الأمم لتحقق أمنية عالمية، ولتؤيد مبادئ السلام والتفاهم بين الأمم، ولتحاول القضاء على الحرب كأداة للسياسة القومية؛ وقد كان قيام العصبة وما تحمل من مبادئ ومثل جديدة في السياسة الدولية، وفي علائق الأمم ظاهرة جديدة في تاريخ أوربا السياسي؛ فقد كانت أوربا حتى الحرب الكبرى تمثل من الناحية العامة كتلة معنوية موحدة، وكانت تأخذ بزعامة العالم القديم، وتحاول دائماً أن تفرض عليه حضارتها وسلطانها السياسي؛ وكانت أوربا تحتفظ باستقلالها المعنوي وسيادتها القديمة بين الشرق القديم وأممه من ناحية وبين العالم الجديد (أمريكا) وأممه من ناحية أخرى؛ ولكن الحرب الكبرى أسفرت عن ظاهرة جديدة هي تراجع أوربا عن دعواها القديمة في الاستئثار بزعامة العالم القديم، وإفساحها المجال لزعامة أمة عظيمة ناهضة هي اليابان التي استطاعت في الأعوام العشرة الأخيرة أن تقوض أسس النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، وشهدت أوربا لأول مرة تدخل العالم الجديد في شؤونها الحيوية؛ وقامت عصبة الأمم لتجمع أمم الشرق وكثيراً من أمم العالم الجديد مع أوربا في صعيد واحد؛ وبذلك نزلت أوربا أمام تطور الظروف والحوادث العالمية عن زعامتها القديمة واستئثارها القديم بالقيادة السياسية والمعنوية في شؤون العالم

وهذا التطور في موقف أوربا يرجع إلى الثغرة العميقة التي أحدثتها الحرب الكبرى في القومية الأوربية؛ فقد خرجت أوربا من الحرب محطمة ناضبة الموارد، وانقسمت إلى معسكرين كبيرين هما معسكر الغالبين ومعسكر المغلوبين؛ واستأثر الفريق الظافر مدى حين بالزعامة في توجيه الشؤون، فأملى على المغلوب شروطه المرهقة، وعمل على تمزيق الوحدات السياسية القديمة، وإحياء قوميات ناشئة ليحقق بقيامها أغراضاً عسكرية وسياسية؛ وبذلك مزقت أوربا نفسها، واضطرمت الأحقاد القومية القديمة أضعاف ما كانت قبل الحرب؛ وكان اضطرامها أشد في الجبهة المغلوبة أو المغبونة؛ ولم يلبث أن أسفر هذا الاضطرام عن النتيجة المحتومة، أعني الانفجار؛ فقامت الفاشية في إيطاليا ساخطة على هذه الزعامة وهذا الاستئثار في استخلاص المغانم والأسلاب وفي توجيه الشؤون، وأخذت تعمل على إنشاء قومية إيطالية حديثة، تضطرم بمختلف الأطماع المشروعة وغير المشروعة، وتسرف في الحقد، وفي الوعيد والتحدي، وتمعن في انتهاك النظريات والمبادئ القديمة المتعلقة بالحقوق والحريات الشعبية، وتسخر من دعوة السلام ومن مبادئ العدالة الدولية. وقامت الاشتراكية الوطنية بعد ذلك في ألمانيا، وشعارها الانتصاف لألمانيا مما نزل بها من فروض مرهقة، وتحريرها من الأغلال التي طوق بها الغالب عنقها، والارتفاع بها إلى مكانتها القديمة في معترك الحرب والسياسة؛ ولكن الاشتراكية الوطنية، عملت من ناحية أخرى على إذكاء الأحقاد القومية والجنسية، بصورة لم يسمع بها، وقد فاقت الفاشية في عنف أساليبها، وفي نزعاتها العسكرية والاعتدائية، وفي سحق الحقوق والحريات الفردية، وإنكار الحقوق العامة، وفي تحدي كل مبادئ العدالة الدولية، وعادت النظرية الألمانية القديمة (الحق هو القوة) في أخطر صورها؛ ولم تشهد أوربا منذ حرب الثلاثين، والحروب الدينية موجة في الأحقاد والمنافسات القومية والجنسية أشد من تلك التي تثيرها اليوم الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية

تلك هي الظاهرة الأولى في انحلال القومية الأوربية. وأما الظاهرة الثانية فهي معركة المبادئ التي تضطرم اليوم في أوربا بصورة لم تشهدها منذ الثورة الفرنسية؛ ولقد بدأت هذه المعركة قبل نهاية الحرب الكبرى، حينما ظفرت البلشفية بتحطيم دولة القياصرة في روسيا، وأقامت مكانها جمهورية شيوعية تمثل سيادة الكتلة العاملة؛ وكانت المعركة يومئذ واضحة محدودة المدى؛ فقد كانت البلشفية في ناحية، وكانت أوربا كلها في الناحية الأخرى تناضلها وترد غزوها؛ بيد أن هذا النضال بين البلشفية والرأسمالية يغدو اليوم في المحل الثاني بالنسبة لمعركة أشد وأبعد مدى تضطرم بها أرجاء القارة الأوربية، تلك هي معركة الفاشية والديموقراطية؛ فالفاشية أو بعبارة أخرى نظم الطغيان العنيف التي تحمل لواءها إيطاليا وألمانيا، تحاول أن تغزو الديموقراطية الأوربية وأن تصرعها؛ والديموقراطية الأوربية تناضل عن كيانها بكل ما وسعت. وما زال حصن الديموقراطية في غرب أوربا: في فرنسا وإنكلترا؛ بيد أنه يمكن أن يقال أيضاً إن روسيا البلشفية تنحاز في هذا الصراع إلى جانب الديموقراطية؛ وليس أدل على خطورة هذا الصراع، مما نرى في الحرب الأهلية الأسبانية من انتظام القوى الفاشستية والقوى الديموقراطية وجهاً لوجه، واعتماد الأولى على معاونة إيطاليا وألمانيا، واعتماد الثانية على معاونة روسيا وفرنسا، وظهور الحرب الأسبانية كلها بمظهر الصراع بين هاتين الجبهتين الخصيمتين. فهذا الصراع المذهبي الذي يخرج اليوم من طور الجدل والنقاش، إلى طور النضال المادي، يهز أسس القوميات الأوربية ويهددها بأروع الأخطار التي يمكن تصورها

وهنالك ظاهرة عامة ليست أقل خطورة وأثراً من تطور تاريخ أوربا السياسي، تلك هي انهيار المبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الدولي، وانهيار الضمانات القومية والدولية التي كانت تكفل احترامه وتطبيقه. ففي الأعوام الأخيرة رأينا بعض الدول الكبرى، مثل اليابان وإيطاليا وألمانيا، تعمل على انتهاك المعاهدات والحقوق القومية والدولية بجرأة ترجع بالسياسة الدولية إلى فوضى العصور الوسطى؛ فاليابان تعتدي على منشوريا الصينية وتفتحها بالقوة المسلحة أمام سمع العالم وبصره، وتتحدى عصبة الأمم، ثم تغادرها لكي تطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية دون أي تدخل أو وازع، وما زالت تتابع اعتداءها على الأراضي الصينية طبقاً لخطة منظمة ترمى إلى بسط حمايتها المسلحة على هذه الإمبراطورية الشاسعة؛ وإيطاليا تحذو حذو اليابان، فتنظم اعتداءها على الحبشة، وتجرد أقوى وأحدث وحداتها على الشعب الحبشي الضعيف، وتمطره وابلاً من القنابل الجوية والغازات الخانقة، ثم تنتزع منه أرضه قسراً، وتضمها إلى إيطاليا؛ وذلك على رغم كل العهود والمواثيق الدولية التي قطعتها على نفسها باحترام استقلال الحبشة ووحدتها الجغرافية، وبرغم ما اتخذته عصبة الأمم في هذا الظرف من تقرير العقوبات الاقتصادية على إيطاليا؛ وها هي ذي الفاشية تباهي اليوم بظفرها، وتسخر جهاراً من عصبة الأمم ومن كل المعاهدات والمواثيق الدولية، وهي على أهبة لتمزيق أي ميثاق وأية معاهدة لا تتفق مع أطماعها العسكرية والاستعمارية. وأما ألمانيا الهتلرية، فقد خصت بضرباتها أعظم دستور دولي وضع لأوربا منذ معاهدة فينا، ونعني معاهدة الصلح أو معاهدة فرساي، فنقضت جميع نصوصها العسكرية التي كانت تقيد حريتها في التسليح، والتي تتعلق بتحريم منطقة الرين، ونقضت أخيراً نصوصها الخاصة بنظام الملاحة الدولية في بعض الأنهار الألمانية؛ ونقضت وثيقة دولية هامة أخرى هي ميثاق لوكارنو الذي عقد لتدعيم معاهدة فرساي وتأمين السلام في الحدود الفرنسية الألمانية؛ وحطمت ألمانيا بذلك آخر القيود العسكرية والسياسية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح. ومهما قيل في تبرير هذا النكث من جانب ألمانيا وكونها حملت عليه مضطرة لتقضي بذلك على الأغلال الظالمة التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، والانتصاف لسياستها القومية، وكرامتها كدولة عظمى، فإنها بلا ريب قد عملت أكثر من أي دولة أخرى لتمزيق العهود والمواثيق الدولية، ولتقويض أسس الثقة بين الأمم وإضعاف هيبة القانون الدولي؛ ولا ريب أنها قد أعادت للعالم ذكرى اعتدائها على البلجيك في سنة 1914 وذكرى نظريتها الشهيرة في المعاهدات الدولية بأنها (قصاصات ورق) لا يعتد بها

فهذه الظواهر والظروف الخطيرة تهز اليوم أسس الدستور الدولي الذي عاشت القارة الأوربية في ظله منذ معاهدة فينا، - أعني منذ قرن وربع - وتدفع بها إلى طريق جديد لم تتضح طوالعه بعد. بيد أن هنالك ما يدل على أن هذا المصير الذي تتهيأ أوربا لاستقباله سيكون هائلاً مروعاً؛ فالدول العظمى تستعد كلها لخوض أعظم معارك عرفها التاريخ؛ والدول الصغرى ترتجف كلها فرقاً من المستقبل، وتحسب لاعتداء القوة المسلحة أعظم حساب؛ وهي لا تستطيع أن تعتمد على قوة المواثيق والضمانات الدولية كما كانت في الماضي بعد الذي رأته من عبث بعض الدول العظمى بكل هذه المواثيق والضمانات، ولكنها تزمع في جميع الأحوال ألا تسقط دون دفاع: فالبلجيك وهولندة وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرة وغيرها من الدول الصغيرة تجد في تسليح نفسها بكل ما وسعت، وبعضها مثل البلجيك وهولندة ينظر بمنتهى الجزع إلى مصير أملاكه الاستعمارية الواسعة؛ على أن هذه الدول تندمج غالباً في إحدى الجبهتين الأوربيتين اللتين تستعدان لخوض المعركة القادمة، ومصيرها يتوقف على مصا ير المعركة ذاتها.

وقد فقدت أوربا القديمة زعامتها العالمية، وفقدت حتى زمام سياستها الخاصة؛ فاليوم نجد دولة أوربية عظمى هي ألمانيا تحالف دولة أسيوية عظمى هي اليابان ضد روسيا وضد الجبهة الأوربية التي تندمج فيها. وهذا تطور خطير في سياسة أوربا التقليدية التي حرصت دائماً أن تواجه الشرق متحدة؛ وهذه ظاهرة تعود بنا إلى القرن السادس عشر والسابع عشر حينما كانت فرنسا تستعين بمحالفة الدولة العثمانية على قتال خصومها الأوربيين ولا سيما أسبانيا؛ وقد استطاعت أوربا أن تقضي على هذه الظاهرة، وأن تقف طوال القرن التاسع عشر متحدة ضد الدولة العثمانية حتى انتهت بتمزيقها؛ وفي الحرب الروسية اليابانية كانت أوربا كلها تتوجس شراً من انتصار اليابان، ولو أن دولا أوربية كانت تتمنى ألا تنتصر روسيا انتصاراً يؤدي إلى تقوية سلطانها في القارة؛ ولما انتصرت اليابان ارتاعت أوربا، وذاعت من ذلك الحين صيحة الخطر الأصفر، واجتمعت أوربا على مقاومة الاستعمار الياباني حتى كانت الحرب الكبرى فانضمت اليابان إلى الحلفاء ضد ألمانيا، واستولت على أسلابها الاستعمارية في الصين. أما اليوم فان ألمانيا تحالف اليابان ضد أوربا، وتحدث بذلك ثغرة عميقة في إجماع أوربا القديم، وتجمع الشهوات العسكرية والاستعمارية بين الجنس الأصفر الذي اعتبر فيما مضى خطراً على أوربا، وبين الجنس (الآري) الذي تزعم ألمانيا الهتلرية أنه أفضل أجناس العالم

وأخيراً نجد العالم الجديد (أمريكا) يتأهب للأخذ بنصيبه في توجيه سياسة القارة القديمة؛ وقد دخلت أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء، وعاونت على ظفرهم في المعركة الحاسمة، واشتركت في شؤون أوربا مدى حين، ولكنها انسحبت منها حينما تفاقمت الفوضى الدولية في أوربا، وعادت إلى سياستها التقليدية من اعتزال الشؤون الأوربية، بيد أنه يلوح لنا أن التحالف الياباني الألماني قد يحملها على العود إلى الاشتراك في السياسة الأوربية مرة أخرى، والى محالفة الدول الغربية على العمل لمصالحها المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا عامل خطير أيضاً في إضعاف الطابع الأوربي للسياسة الدولية العامة

والخلاصة أن أوربا فقدت زعامتها السياسية والاجتماعية القديمة، وأخذت تندمج شيئاً فشيئاً في الوحدة العالمية الكبرى؛ وقد فقدت فكرة الحضارة الأوربية، وخصومة الشرق والغرب، والتضامن الأوربي في الشؤون الاستعمارية كثيراً من معانيها وأوضاعها القديمة التي كانت تسبغ على أوربا مكانة الزعامة والوحي والإرشاد

(* * *)