انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 181/تاريخ العرب الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 181/تاريخ العرب الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 12 - 1936


9 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الثاني

لم ينس العرب هذه الحوادث فبعثت فيهم الكبرياء القومي، فقالوا إن الجيوش الرومانية سارت ذات مرة - على أية حال - تحت لواء أميرة عربية، ولكن القصة - كما نستدل من أخبارهم - ذات صلة قليلة بالواقع، ولم يقتصر التغيير على أسماء الأشخاص والأماكن فحسب، (كما حدث في اختلاط اسم زينوبيا باسم وزيرها زبدي) بل إن الوضع التاريخي قد أصبح مستحيلاً على التمييز. وكل ما بقى لا يتعدّى قصة من قصص المخاطرات التي كان عرب الجاهلية يميلون إلى سماعها، وكما هو الحال اليوم في أبنائهم المحدثين الذين لا يملون سماع قصة عنتر أو ألف ليلة وليلة

ويقال إن أول ملك من العرب الذين استقروا في العراق هو مالك الأزدي الذي رمى بقوس من يد ابنه سليمان وقبل أن يسلم الروح قال بيتاً راح فيما بعد مضرب المثل:

أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني

وقد وحّد مملكة مالك - إذا جاز أن توصف بهذا اللقب - ونظم أمورها ابنُه جذيمة الأبرش (وهو تصحيف أدبي لكلمة أبرص)، الذي حكم كتابع لأردشير بابكان (226م) مؤسس الدولة الساسانية في فارس، التي استمرت مسيطرة على عرب العراق طول فترة ما قبل الإسلام، وإن جذيمة هذا لبطل كثير من الخرافات والأمثال، وكان من كبريائه - كما يقال - إنه لم يكن ليسمح لأحد ما بمجالسته ومنادمته سوى نجمين يسميان بالفرقدين، فإذا ما عاقر الحان صبّ لكل منهما كأساً، وقد علقت أخته بوصيف له يدعى (عديا بن نصر)، وفي لحظة لعبت الخمر برأس جذيمة رضى بزواجها إياه، فبنى عدي بها؛ وفي الصباح، عندما عاد أخوها إلى رشده، وثاب إلى صوابه تميز من الغيظ من تلك الخديعة التي جازت عليه فأطاح رأس الزوج المسكين، وأرغم أخته أن تتزوّج من عبد حقير، ومع ذلك فلما وضعت غلاماً تبنّاه جذيمة وكلأه بعطفه وحدبه؛ واختفى الشاب عمرو ذات يوم فجأة ويئس الجميع من وجوده، وانقضى زمن طويل لم يعثر أحد فيه له على أثر حتى صادفه أخوان: هما مالك وعقيل، وقد وجداه عرياناً متوحشاً يهيم على وجهه، فاهتما به وألبساه ومثلا به أمام الملك الذي غلب عليه السرور فوعدهما ألا يرد لهما طلبة يسألانه إيّاها، فاختارا الشرف الذي لم يجرؤ على طلبه إنسان قبلهما قط: وهو أن يكونا نديميه، وعرفا فيما بعد باسم (ندماني جذيمة)

وكان جذيمة هذا أميراً مفكراً شجاعاً، وفي إحدى حملاته ذبح عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة، وهو رئيس عشيرة عربية كان قد ضم جزءاً من سورية الشرقية وأرض الجزيرة إلى نفوذه، والذي يتضح لنا أنه (كما هو ظاهر من اسم أذينة) كان بعينه أذينة زوج زينوبيا، يؤيد هذا الرأي ما قاله ابن قتيبة (وخطب جذيمةُ الزباء، وكانت بنت ملك الجزيرة وملكت بعد زوجها) وطبقاً لما يراه المؤرخون المسلمون، فقد كانت الزباء ابنة عمرو بن ظرب، واختيرت لتكون خليفته، بعد ترديته في ساحة القتال، ومهما يكن هذا الأمر فقد برهنت على أنها امرأة نادرة الشجاعة ذات عزم جبار، ولكي تأمن شر الغارات شيدت حصنين قويين على شاطئ الفرات جعلت بينهما نفقاً، وأقامت هي في أحدهما وسكنت أختها زينب في الآخر، فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة لأبيها فكتبت تقول له إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده، وإنها في ضعف من سلطانها وقلة ضبط لمملكتها وإنها لم تجد كفؤاً غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه، فلما وصل ذلك إليه استخفه الطرب ولم ينتصح برأي مشيره، فقال له قصير مرشده في طريقه (انصرف ودمك في وجهك) حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير: (ما الرأي) قال: (ببقّة تركت الرأي) فراحت مثلاً، ثم استقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال: (يا قصير كيف ترى؟) قال: (خطر يسير في خطب كبير، وستلقاك الخيول، فأن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون، اركب العصا (أي فرسه) فإنها لا تدرك ولا تسبق قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك) فلم يفعل، ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا، وقد بعدت ثلاثين ميلاً، وأدخل جذيمة على الزباء، ثم أمرت جواريها أن يقطعن رواهشه في طست من ذهب وقالت: (يا جذيمة لا يضيعن من دمك شيء فإنما أريده للخبل)، ثم سقطت نقطة من دمه على اسطوانة رخام ومات ومضى قصير إلى عمرو بن عدي وطلب إليه أن يثأر لخاله، فقال عمرو: (كيف وهي أمنع من عقاب الجو)، فجدع قصير أنفه وأذنه ودخل على الزباء، وأخبرها أن عمْراً لاحق به لقتله جزاء خيانته فصدقته وأعطته مالاً للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف به إليها، ففرحت به، ثم قال لها يوماً: (إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها) فقالت له: (قد اتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي) وأرته إياه، فأظهر لها سروره بذلك وخرج في تجارته وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق، حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل وقال لها: (اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك)، فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعكام، فأصاب خاصرة رجل فصاح، فقال البواب: (شر والله عكمتم به في الجواليق) فثاروا بأهل المدينة وانصرفت الزباء راجعة، فلقيت عمرو بن عدي فمصت خاتمها، وقالت: (بيد لا بيد عمرو)

ولقد بلغت الثقافة في مملكتي الحيرة وغسّان في عصر ما قبل الإسلام شأواً بعيداً في الرقيّ وشعشعت أنوارها، وعمّ أثرها جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس من الإسراف في القول أن نذكر في هذا المجال تاريخ وملابسات الظروف، التي مكنتهم من القيام بنشر الرقي والحضارة

في مستهل القرن الثالث بعد الميلاد كانت هناك بعض قبائل يرجع كلها أو بعضها إلى أصل يمني، وقد عقدت فيما بينها حلفاً وسميت في مجموعها (بتنوخ)، وكانت تلك القبائل تثير بين آن وآخر كثيراً من الاضطرابات، وانتشرت في جميع ربوع إمبراطورية وأغارت على العراق، حتى ألقت عصا التسيار في إقليم غرب الفرات الخصيب، وبينما ظلّ بعض المغيرين يحيون حياة بدوية محضة، اشتغل آخرون بفلاحة الأرض وزرعها، وعلى كر الأيام نشأت المدن والقرى، وكان أعظمها أهمية الحيرة (أي المعسكر) ذات الموقع الصحيّ الجميل وعلى مسيرة عدة أميال قليلة من جنوب الكوفة، بالقرب من بابليون القديم، وطبقا لما ذكره هشام بن محمد الكلبي (+ 819 أو 821م) المؤلف العظيم عن عصر الجاهلية، فقد كان سكان الحيرة في عهد أزدشير بابكان أول ملك ساساني لفارس (226 - 240م) يتكوّنون من ثلاث طوائف هي:

(1) تنوخ: وتسكن غرب الفرات بين الحيرة والأنبار في طنب من وبر الجمال

(2) العباد: ويسكنون البيوت في الحيرة

(3) الأحلاف: ولم يكونوا ينتمون إلى إحدى الطائفتين السابقتين بل ألحقوا أنفسهم بأهل الحيرة، وعاشوا بينهم كأنهم آبقون قتلة يلاحقهم الثأر، أو مهاجرون معوزون يحاولون الاطمئنان على مستقبلهم

وطبيعي أن يؤثر أهل المدن إلى حد بعيد في السكان، ولقد رأينا هشاما يسميهم (العباد) وهذا لفظ غير دقيق تماماً إذ العباد عرب الحيرة المسيحيون، وقد سموا بذلك لاعتناقهم النصرانية، أما العرب الوثنيون الذين سكنوا الحيرة منذ أن أنشئت، وظلوا مقيمين بها، فلم يكونوا يدلون على نقيض المعنى المفهوم من الوثنية. أما لفظ (العباد) فيقصد به خُدَّام الله والمسيح، ولا نستطيع أن نحدد تماماً أيان بدئ إطلاق هذا اللقب على أولئك المتدينين الذين كانوا من قبائل مختلفة، كانت تسكن الحيرة أثناء القرن السادس، وليست التواريخ ذات قيمة كبيرة نسبياً، بيد أن الأمر الذي تجب الإشارة إليه، هو وجود جماعة عربية في فترة ما قبل الإسلام لم تكن قائمة على صلات الدم أو تجمها العصبية، ولكن تربطها روابط روحية أعني بذلك الإيمان العام. أما ثقافة وديانة (العباد) فقد تسرّ بنا إلى أقصى الأماكن والجهات النائية المنعزلة في شبه جزيرة العرب كما سترى ذلك مفصلاً في مكانه الخاص، وكان هؤلاء أساتذة العرب الوثنيين الذين قليلاً ما كانوا يقرءون أو يكتبون كما كانوا عازفين عن التعليم فخورين بجهلهم بالتهذيب الذي يرون فيه نوعاً من المذلة، ومع ذلك نرى أن أرقى العقول ثقافة بين البدو كانت مجذوبة بلا نزاع إلى الحيرة، ولقد وجد شعراء هاتيك الأيام في الأمراء خير مشجع، فزار كثير من شعراء الجاهلية بلاط اللخميين كما اتخذها بعضهم كالنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص دار إقامة

وليس من المهم أن ندخل في تفاصيل غير مجدية كأصل ونشأة دولة اللخميين في الحيرة، ويذكر هشام بن محمد الكلبي إن أول حاكم لخمي كان يدعى (عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن لخم) وهو الذي تبنّى جذيمة والذي انتقم له من الملكة الزّباء، ولسنا ندري في الغالب شيئاً عن خلفائه، حتى نصل إلى النعمان الأول المسمّى بالأعور، والذي كان حكمه في الربع الأول من القرن الخامس الميلادي، وقد اشتهر النعمان هذا بأنه باني الخورنق، وهو قصر فخم بقرب الحيرة بناه في عصر الملك الساساني يزدجرد الأول الذي أراد مسكناً صحياً لابنه الأمير بهرام جور، وعند إتمامه أمر النعمان بأن يلقى مهندسه الروماني سنمار من شاهق البنيان، إما لافتخاره بأنه كان يستطيع إقامته بناء عجيباً يدور مع الشمس حيث دارت، أو خوفاً من أن يذيع مكان حجر خاص إذ أزيح من مكانه انهار البناء كله. وفي صباح يوم من أيام الربيع أخذ النعمان مجلسه في الخورنق مع وزيره، وأشرف على النجف وحدائقها وما فيها من نخيل وعيون، وأدار بصره في جميع النواحي شرقاً وغرباً، فلما امتلأت نفسه بسحر ما رأى قال لوزيره:

- أرأيت مثل هذا؟

- كلا. ولكن لو دام!

- وما الذي يخلد؟

- ما عند الله في السماوات

فسأله النعمان: كيف يتوصل المرء إلى ذلك؟ فأجابه الوزير: بالعزوف عن الدنيا والتفاني في خدمة الاله، والكفاح من اجله. ويقال إن النعمان آلى على نفسه حينئذ أن يهجر مملكته، حتى إذا ما أقبل الليل تدثر بثوب خشن، وتسلّل في جنح الظلام، وساح في الأرض فلم يره أحد بعد ذلك؛ ويظهر أن هذه الأسطورة قد تبلورت وتضخمت من هذه الأبيات التي نظمها عدي بن زيد العبادي:

وتدبّر ربّ الخورْنق إذ أش ... رف يوماً والهدى تفكيرُ

سره حاله وكثرة ما يم ... لك والبحرُ معرضاً والسدير

فأرعوى قلبه فقال: (وما غِبْ_طة حي إلى المماتِ يصيرٌ؟

ثم بعد الفلاحِ والملك والأمَّ ... ة وارتهمُ هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور

أما ما يراه جمهرة مؤلفي العرب من اعتناق النعمان المسيحية فليس له أساس من الصحة، وإن كان هناك ما يبعث على الاعتقاد بأنه كان ميالاً إليها، إذ كانت الحرية الدينية مطلقة لرعاياه المسيحيين، كما ورد ذكر حبر مسيحي بالحيرة سنة 410م (يتبع)

ترجمة حسن حبشي