مجلة الرسالة/العدد 18/ثروة تضيع
مجلة الرسالة/العدد 18/ثروة تضيع
للأستاذ أحمد أمين
هي ما خلفها لنا الجيل الماضي القريب، وتسلمناها منه يداً بيد، ولست اعني ما خلفه من شعر ونثر وكتب في مختلف العلوم والآداب، فهذه قد حفظناهاونشرنا بعضها وعنينا بها إلى حد ما، إنما أعنى ما صدر عنهم من قول وعمل، وما كان يدور في مجالسهم من حديث طريف أو نافع، وما وقع لهم من أحداث، وكيف تصرفوا فيها، وأنماط مجالسهم وأحاديثهم ومجتمعاتهم، ونحو ذلك مما يدلنا على حقيقة شخصيتهم، ويفيدنا في تعرف مجتمعهم، ويعين المؤرخ بعد على رسم صورة صحيحه صادقه لحال المجتمع في ذلك العصر وقدر نابغيه كان لعلى باشا مبارك (صالون) كبير في بيته بشارع المضفر يغشاه عظماء الرجال والشبان وطلبه المدارس. وكان يدور فيه كل ليله من ألوان الحديث وشتى المقترحات ما ينبغي أن يسجل، ومثل ذلك في منزل عبد الله باشا فكري ومحمد باشا قدري ورفاعه بك ومثالهم، وكان نوع أحاديثهم ومباحثاتهم شيقاً ممتعا يصور عصرهم خير تصوير، ثم كان صالون كصالون الأميرة نازلي هانم (بعابدين) يختلف إليه قاده الفكر وعظماء الرجال في العصر القريب، يتحدثون فيه عن الشرق والغرب، وتثار فيه أفكار لها قيمتها وخطرها، وكان نمطهم في أحاديثهم يخالف ما كان عليه رجال على باشا مبارك وأمثاله. وكان غير هذه الصالونات مجتمعات وأحاديث ونوادر وفكاهات في البيئات المختلفة من بيئة فلسفيه كبيئة السيد جمال الدين، أو دينية اجتماعية كبيئة الشيخ محمد عبدة، أو فكاهية كبيئة الشيخ حسن الآلاتي، أو بيئة المغنين أمثال الحامولي ومحمد عثمان، وكان يجري في جميعها أقوال وأفعال هي أدل على الذوق المصري والخلق المصري من كل ما خلفوا من مؤلفات ومجلات وصحف. هذه الثروة التي لا تقدر، آخذه مع الأسف الشديد، في الضياع، وليس يدون منها فيما أعلم شيء يذكر، واكثر الذين عنوا بترجمة هؤلاء الرجال أساءوا إليهم والى التاريخ كل الاساءة، اذكانت ترجمتهم (ترجمة رسمية) اقتصروا فيها على اسم المترجم له والمولد وتاريخ الولادة، والمعاهد التي تعلم فيها والأعمال التي تولاها، والكتب التي ألفها وغير ذلك مما يعد من الأغراض، فأما الجوهر، واما شخصية الرجل، وأما حياته الاجتماعية التي تدلنا على من هو من قومه، ومن هو في نفسه، فلا يعرضون لها بشيء.
وقد كان السابقون الأولون على تقدم عصورهم، اصح نظراً، وأحسن أداء، وأوفى للتاريخ فبين يدي الآن جزء من كتاب الأغاني فتحته حيثما اتفق فوقع نظري على ترجمة إبراهيم الموصلي، فذكر نسبه ونشأته، وذكر حكايات عدة حدثت له مع غلمانه وجواريه وأصحابه، وما وصل إليه من الأموال وما ورثه أهله، وأحاديث عن مروءته، وأحداثا حدثت له مع الرشيد ويحيى بن خالد، وكيفية تعليمه الغناء للجواري، واتصاله بالخلفاء وسيرته معهم، وعدد الأدوار التي غناها، وعشقه ومن عشق، وأثر أصواته في الناس، إلى آخره مما يستطيع الأديب أو المؤرخ أن يضع له صورة دقيقة تمثله، ويضع لمجتمعه رسماً واضحاً يبينه، وبين يدي كذلك الجزء الأول من كتاب جامع التواريخ المسمى (نشوار المحاضرة) للتنوخي، يقول في سبب تأليفه: انه قد اجتمع قديماً مع مشايخ فضلاء، علماء أدباء، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الملوك والدول، وأحاديث البخلاء والظرفاء، والعلماء والفلاسفة، والأغبياء وقطاع الطرق والمتلصصين، (وعدد كل أصناف الناس)، وكانوا يوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبعثه المفاوضة، فلما تطاولت السنون، ومات المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم ألا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، عمد من أجل ذلك إلى تدوين هذه الأحاديث في كتابه، والتزم أن يذكر فيه فقط ما يدور في المجالس مما لميذكر في كتاب ويقرؤه القارئ فيجده يصور عصره أجمل تصوير، وكتب الجاحظ لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أخبار عصره وأحداثه، الاجتماعية من الخصيان والغلمان، والبخلاء والظرفاء، والنبات والحيوان، ألا أحصته وشرحته في دقة وإسهاب، ومالنا نذهب بعيداً والعصر الذي نسميه مظلماً أنتج مثل (الجبرتي) الذي دون من الأحداث وتاريخ الرجال في عصره ما لم نفعله نحن لعصرنا أما كتبنا نحن فقد عمدت إلى خيرها وأخرجت منه ترجمه رفاعه بك، فوجدته يسرد ولادته وتاريخها والمدارس التي دخلها ورحلته إلى أوربا، والوظائف التي تولاها بعد عودته، وأسماء الكتب التي ألفها أو ترجمها، وسنة وفاته ولكنك تتساءل بعد قراءتها: من رفاعه بك؟ ما معيشته الاجتماعية؟ ما شخصيته؟، ما علاقته بقومه؟ فلا تجد شيئاً من ذلك. هذا حال رفاعه بك الذي ملاْ اسمه كل مكان، فما بالك بأمثال المغمورينظلماً، أمثال الشيخ حسن الطويل والشيخ حسين المرصفي وأمثالهما بل بالأمس القريب مات حافظ إبراهيم، وكانت حياته الاجتماعية أغنى ما تكون حياة، كل ليلة، يغشى جمعا أو يغشى بيته جمع، فيملاْ المجلس بأحاديثه العذبة، وفكاهته الحلوة، وهى في كثير منها تفوق ما دونه الأقدمون من ملح ونوادر، ولعلها أن جمعت ودونت أفادت تاريخ الاجتماع اكثر ما يفيده ديوانه، ومع هذا لم ينشط أحد لتدوينها، ولم يلتفت لقيمتها، وسيعفى عليها الزمن الذي عفى على ملح المويلحي والبابلي، وفي ذلك خسارة لا تقدر. ولقد حدثت بعض الأدباء في ذلك ورجوته في هذا العمل، فاعتذر بأن أكثر النوادر إنما تحسن ذا أديت باللغة العامية، وتفقد قيمتها إذا حكيت باللغة الفصحى، ولكن ما هذا الكبر على اللغة العامية، والسابقون من أعلام الأدب لم يكونوا يتحرجون من ذكر النادرة الحلوة باللغة العامية، إذا لم يحسن الأداء إلا بها، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين، وابن زولاق في أخبار سيبويه، والابشيهي في المستطرف. أن في ذمتنا للجيل القادم عهداً أن نسلم إليه تاريخه كاملاً متصل الحلقات كما تسلمناه، فاذا نحن لم نفعل فقد أضعنا الأمانة وخنا العهد، وفينا بحمد الله رجال شهدوا الجيل الماضي، وكان لهم من المنزاة ما استطاعوا معها أن يخالطوا البيئات المختلفة، ويطلعوا على خفاياها ودخائلها، ولهم من الذكاء وحسن النظر وصدق الرواية وقوة الحافظة وبلاغة اللسان والقلم، ما يمكنهم من الأداء على أحسن وجه، أمثال الهلباوي ولطفي السيد في نوع من الأوساط، والنجار والسكندري في نوع آخر، والسيد محمد الببلاوي وكبار علماء الأزهر في أوساطهم، وهكذا، فهل يشاركوننا في الشعور بما لديهم من ثروة حافلة، وفي الشعور بما عليهم من تبعة، فيقدمون للجيل الحاضر والقادم أثمن عمل تاريخي؟ فأن لم يفعلوا فهل للشبان أن يدركوا قيمة ما عندهم فينشطوا للاتصال بهم، وتدوين ما يأخذون عنهم، قبل أن تضيع الثروة، وتفلت الفرصة، أطال الله في أعمارهم.
العام الدراسي الجديد
مما أملاه علينا أساتذتنا في دروس التربية انه كان الغرض من إنشاء المدارس في مصر أعداد الموظفين الذين تحتاج إليهم الحكومة في دواوينها.
فلهذا أنشئت وعلى هذا كان نهجها. ولقد نجحت مدارسنا في ذلك نجاحا مشكورا.
تخيلت لها الحكومة الموظف الذي ترجوه. فأعدت المدارس للحكومة التلميذ الذي يكون منه ذلك الموظف، تخيلت الأولى في موظفها أن يكون في عمله من غير بصر ولا سمع ولا إحساس، فجاءت الثانية إلى عين التلميذ ففقأتها. والى أذنه فاصمتها. والى إحساسه فأماتته. حتى أنه ليسير في طريقه على أعين الناس وأفئدتهم، وبين أنينهم وعويلهم ثم تسأله: ماذا رأيت أو سمعت؟ فلا يكاد يذكر لك شيئاً. ذلك لأن مدرسته أخذته بالانقطاع عن كل شيء مهما صادفه. وهو يرجو أن يكون عندها محمودا.
تخيلت الأولى في موظفها حينذاك أن يكون غمرا خاملا جبانا، يرى في رئيسه ما يراه الجهلاء في آلهتها. فجاءت الثانية بحولها وطولها تفرغ فيه كل هذه، إفراغا، مرة باسم الأخلاق! وأخرى بالقهر والعسف. حتى تم لها ما أرادت، وأمتعت تلك الحكومات بهذا النوع من الموظفين. والآن وقد غصت الدواوين بالموظفين وفاض المتخرجون في المدارس، حتى أصبحوا عيالاً على ذويهم. وكلاّ على أهليهم إلا القليل منهم ممن اشتغل بعمل ما كان يخطر له على بال. فهل آن لرجال التربية والتعليم أن يعلنوا انقضاء أجل ذلك الغرض. وينادوا بالغرض الصحيح الذي يقّوم الأخلاق والعقول والأجسام ليأخذ الأبناء قسطهم من الحياة كاملا، ويؤدوا ما عليهم لبلادهم أحسن أداء؟؟ ذلك ما ننتظره.
إيرادات الدقهلية. إبراهيم مصطفى ناصف