انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 178/هكذا قال زرادشت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 178/هكذا قال زرادشت

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1936


4 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

خطب زرادشت

التحول في ثلاث مراحل

سأشرح لكم تحوّل العقل في مراحله الثلاث فأنبئكم كيف استحال العقل جملاً، وكيف استحال الجمل أسداً، وكيف استحال الأسد أخيراً فصار ولداً.

إنها لعديدة تلك الأحمال التي تثقل العقل الجَلْد الصليب الذي يتجلى الوقار فيه، فأن صلابته تتوق إلى الحمل الثقيل بل إلى الحمل الأثقل.

يفتّش العقل السليم عن أثقل الأحمال فينيخ كالجمل ظهره متوقعاً رفع خير حمل إليه. أن العقل السليم ينادي الأبطال قائلاً: أيّ حمل هو الأثقل لأرفعه فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل الأحمال هو في الاتضاع لإنزال العذاب بالغرور؟ أفليس أثقلها أن يبدي الإنسان اختلالاً لتظهر حكمته جنوناً؟

أم أثقلها في تخليّ الإنسان عن مطلب حين يقترن هذا المطلب بالنصر، أم في ارتقاء قمم الجبال لتحدّي من يتحدّى؟

أم أثقلها في أن يتغذّى الإنسان بأقماع السنديان والأعشاب وبتحمّل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة.

أم أثقلها في احتمال المرض وطرد العائدين المعزّين، أم في مخادنة الصمّ الذين لا يسمعون ولا يعون ما تريد؟

أم أثقلها في الانحدار إلى المياه القذرة إذا كانت الحقيقة فيها والرضى بملامسة الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديداً

أم أثقلها في محبة من يحتقرنا وفي مد يدنا لمصافحة شبح يقصد إدخال الرعب إلى قلوبنا. أن العقل السليم يحمل ذاته جميع هذه الأثقال المرهقة، وكالجمل الذي يسارع إلى طريق الصحراء عندما يرفع الوقر عن ظهره ليندفع هو أيضاً نحو صحرائ وهنالك في الصحراء القاحلة يتمّ التحوّل الثاني إذ ينقلب العقل أسداً لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه

وفي هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنّين والتغلب عليه

ومن هو هذا التنّين الذي يتمرد العقل عليه فلا يريد بعد الآن أن يرى فيه ربه وسيده؟

إن التنين هو كلمة (يجب عليك) وعقل الأسد يريد أنينطق كلمة (أُريد)

(إن كلمة (الواجب) تترصد الأسد على الطريق تنّيناً يدَّرع بآلاف الأصداف وعلى كل قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة (يجب عليك)

وعلى هذه الأصداف تشع سنو ألف عام والتنّين الأعظم يعج قائلاً إن جميع السنين تتوهج عليّ

كل ما هو سنّةٌ قد أُوجد من قبل، وبي تتمثل جميع السنين الكائنة. والحق أن كلمة (أُريد) يجب ألا ينطق بها أحدٌ بعد! هكذا قال التنّين

فأية حاجةٍ لكم أيها الأخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل الممنّع بامتناعه؟

من اعبث أن تطمحوا إلى خلق سنين جديدة، إن الأسد نفسه ليعجز عن هذا الخلق إذ لا يسعه إلا أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد لأن قوته لن تتجاوز هذا الحد.

أيها الأخوة، إنّ العمل الذي تحتاجون فيه إلى الأسد إنما هو تحرير أنفسكم والوقوف ببطولة الامتناع في وجه كل شيء حتى وجه الواجب. ذلك أيها الأخوة هو العمل الذي تحتاجون إلى الأسد للقيام به.

إن الاستيلاء على حق إيجاد سنن جديدة يقضي بالجهاد العنيف على العقل الخشوع الصبور، ولا ريب أن في هذا الجهاد قسوة لا يتصف بها إلا الحيوانات المفترسة.

لقد كان العقل فيما مضى يتعشق كلمة (الواجب) كأنها أقدس حق له، وقد أصبح عليه الآن أن ينظر حتى إلى هذا الحق المفدّى فيراه توهماً واعتسافاً، ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستولي على حرّيته وليس غير الأسد من يقوم بهذا الجهاد.

ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب أن يتحوّل الأسد المكتسح إلى طفل؟ ذلك لأن الطفل طهرٌ ونيسانٌ، لأنه تجديد ولَعِب وعجلة تدور على ذاتها فهو حركة البداية وعقيدةٌ مقدَّسة.

أجل أيها الأخوة إن العمل الإلهي للإبداع يستلزم عقيدة مقدسة، فأن العقل يطلب الآن إرادته، ومن فقد الدنيا يريد الآن أن يجد دنياه.

لقد ذكرت لكم تحولات العقل الثلاثة فأوضحت كيف استحال العقل جملاً وكيف استحال أسداً وكيف استحال أخيراً إلى طفل.

هكذا قال زارا، وكان في ذلك الحين مقيماً في مدينة اسمها البقرة العديدة الألوان.

منابر الفضيلة

وبلغ زارا خبر حكيم أطنب الناس في علمه ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبوه بالتكريم والتبجيل واتبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب زارا وجلس معهم أمام المنبر مصغياً إلى الحكيم فكان يقول:

مجدوا الكرى وعظموه لأن له المقام الأول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق.

إن اللص ليقف خاشعاً أمام الكرى فيدلج في الليل مخرساً وقع أقدامه ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه

ليس بالسهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.

يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيئ المخدر لروحك.

عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فأن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك

عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلاتضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة.

عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحاً كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء.

قليل من يعرف هذا من الناس؛ ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل. فإذا ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة قريبة فقد حرم وسائل الهناء في نومه

غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يدفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب.

إن من الفضائل من هي كالغإنيات المتجنيات، فأقم بينهن حائلا كيلا ينتهين إلى عراك تكون أنت ضحيته.

ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنئ بدون هذا السلام. وسالم شيطان جارك أيضاً لئلا يراودك في رقادك.

أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء. إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء.

وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة.

إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء)

لا أطلب كثيراً من المجد ولا وفيراً من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكنّ المرء لا ينام هنيئاً ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال.

أفضّل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عشراء السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه ألاّ يطيل السمر عندي لئلا يعكّر صفو رقادي.

تسرني مجالسة البلهاء لأنهم يجلبون النعاس؛ ولشدّ ما يغتبطون عندما نحبذّ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.

على هذه الوتيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم. أما أنا فأنني إذا ما أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس لأنه سيد الفضائل ولا يرتاح إلى تحرش الساهرين.

وتحت جنح الظلام أستعرض ما فكّرت فيه وما فعلته في يومي فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرّات العشر التي أُفعمت بها

وبينما أكون مستغرقاً تهزني الأربعون خاطرة يستولي النعاس علي فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.

يشغل النعاس جفنيَّ فتغمضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحاً

إنه يدلف إليَّ كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصباً كعمود من خشب، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممدداً على فراشي

وبعد أن أصغى زارا إلى هذه الأقوال يقرع الحكيم بها الأسماع تملك ضحكة وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاه قائلا:

يترآى لي أن هذا الحكيم قد جُنّ كخواطره الأربعين.

ولكنه جد خبير بحالات الكرى. فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى وراء الجدران.

إن شيئاً من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثاً حول خطيب الفضائل.

إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي - اسهروا لتناموا - وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها فوجب أن اختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت أجد أفضل من هذه القاعدة.

لقد أدركت الآن ما كان يطلب الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون على أوليات الفضائل؛ إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلىَّ على مفرقها تاج المخدرات. وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، لقد نالوا الإعجاب والثناء إلا قاعدة النوم لا تقلقه الأحلام. إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة.

وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقلَّ إخلاصاً منه. ولكن هذا الزمان يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عن قريب سيُمددون.

طوبى لمن دبَّ إلى عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سيرقدون هكذا تكلم زارا.

(يتبع)

فليكس فارس