انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 178/صور سياحة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 178/صور سياحة

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1936



أيام في سويسرا

بقلم سائح متجول

غادرنا باريس في منتصف الليل قاصدين إلى سويسرا؛ وإذا كنا قد هبطنا باريس فرحين مغتبطين بزيارتها والتمتع برؤية معالمها ومعاهدها التاريخية، فقد غادرناها أيضاً دون أسف، بعد أن تركت في نفوسنا صوراً أخرى غير تلك الصور الخلابة التي ألفناها في كتب الأدب وفي المقالات والفصول الرنانة؛ وسار بنا القطار ينهب الأرض ليلاً متجهاً نحو الالزاس، فلما أسفر الصبح كنا نخترق أراضي الالزاس مارين بتلك المواقع الشهيرة في تأريخ الحرب والسياسة مثل بلفور وميلهوز وغيرهما؛ وقد لاحظنا مذ بدأنا نجوز الالزاس أننا نكاد نخترق أرضاً غير فرنسية، فالناس يتحدثون بالألمانية المحرفة (أو الألزاسية) في كل مكان حتى موظفي القطار يخاطبون الركاب بالألمانية، وكل ما هنالك من طبيعة ومناظر وأشخاص يكاد ينطق بأن الالزاس ليست فرنسية في طابعها وفي روحها، وإن كانت السياسة ومصاير الحرب قضت بأن ترد الالزاس واللورين إلى فرنسا عقب انتصارها في الحرب الكبرى.

ووصلنا إلى الحدود السويسرية في الصباح الباكر، ودخلنا محطة بازل (أوبال) حيث أجريت الإجراءات الجمركية في أدب وظرف؛ وشعرنا في اللحظات القليلة التي مرت حتى وصولنا إلى الفندق أننا نجوز إلى محيط آخر أرقى خلالاً ومدنية من محيط فرنسا والشعوب اللاتينية كلها؛ وإنك لتأنس نفس الشعور عندما تخترق الحدود الإيطالية مثلاً إلى النمسا، فتشعر في الحال أنك غادرت في إيطاليا محيطاً أقل مدنية وخلالاً وسويسرا موطن السياحة بحق، والسياحة أهم مواردها القومية، ولهذا تعني ولايات الاتحاد السويسري ومدنه المختلفة بتنظيم شؤون السياحة أحسن تنظيم وتذيع عن سويسرا ومصايفها ومشاتيها ومناظرها ونزهها نشرات بديعة جذابة، وتعني بتنظيم كل ما يتعلق براحة السياح ورفاهتهم مثل الفنادق والمطاعم وطرق المواصلات والألعاب والنزه ولاسيما النزه واللعاب الشتوية الجبلية والثلجية التي اشتهرت بها سويسرا؛ والفنادق السويسرية حسبما رأيناها في بازل وتسيريخ (زيوريخ) فنادق من الطراز الأول من حيث النظام والنظافة وما يتجلى فيها من الأناقة وحسن التنسيق، وكذلك المطاعم والمقاهي يبدو عليها طابع الأناقة والبهجة والذوق الحسن؛ ونستطيع أن نقول إن مدينة صغيرة مثل بازل أو تسيريخ تتمتع بمجموعة من الفنادق والمطاعم الأنيقة لا توجد في مدينة عظيمة كباريس، التي ما زالت فنادقها متأخرة من حيث الفخامة والتنسيق والرفاهة نحو نصف قرن عن فنادق العواصم الأخرى.

غير انه لا بد أن نقولهنا أن السائح يدفع لهذه الأناقة والرفاهة في سويسرا ثمناً غالياً، ذلك أن موجة من الغلاء المرهق تعم سويسرا؛ وقد كانت سويسرا وقت زيارتنا لها في أغسطس من أشد الدول تمسكاً بقاعدة الذهب، وقد كان الجنيه الإنكليزي يساوي 15 فرنكا سويسرياً فقط؛ ولم يمض علينا في بازل يوم واحد حتى أدركنا فداحة هذا الغلاء الذي ينغص على السائح كل شيء خصوصاً إذا كان يحمل نقداً خارجا عن عيار الذهب كالجنيه الإنكليزي أو المصري؛ فالسائح المتوسط لا يستطيع أن يعيش في سويسرا عيشة لائقة مريحة بأقل من 25 إلى 30 فرنكا في اليوم (160 إلى 200 قرش)، واليك بعض الأمثلة العملية؛ فأجرة الغرفة في فندق متوسط تساوي من 6 إلى 8 فرنكات يومياً (والفرنك ستة قروش ونصف) وأجرة الحمام فرنك ونصف ووجبة الطعام في مطعم لائق تساوي 3 - 4 فرنكات، والقهوة أو قدح البيرة يساوي فرنكا، وهكذا؛ وأذكر أنني دفعت حين وصولي إلى محطة بازل نحو ثلاثة فرنكات (عشرين قرشاً) أجرة لحمل حقيبتيّ من المحطة إلى الفندق الذي لا يبعد عنها أكثر من مائة متر ودفعت مثلها حين سفري من بازل، ووقع مثل ذلك كرة أخرى حين وصولي إلى تسريخ وسفري منها؛ وهذا من أشنع ما لقيت من صور الغلاء، وتقضي تعريفه الحمالين الرسمية بأن يدفع المسافر نصف فرنك (خمسين سنتاً) عن كل قطعة، وأن يضاعف هذا الأجر ما بين الساعة العاشرة مساء والساعة السادسة صباحاً، ولا يتعدى عمال المحطة باب الخروج حيث تقف عربات التاكسي، وعندئذ يتسلمك حمال الفندق أو تركب التاكسي، وكذلك لا يسمح لحمال الفندق أن يتعدى باب المحطة؛ ومن ذكريات هذا الغلاء الشنيع أيضاً أنني دفعت فرنكين ونصف (17 قرشاً) أجرة لقص الشعر! وهكذا قضينا بضعة أيام نكتوي في بازل وفي تسيربخ بنار هذا الغلاء الشنيع الذي لا يكاد يلطف من وقعه شيء.

ولقد اشتهرت سويسرا بأنها بلد السياحة، وقد حبتها الطبيعة فعلاً وحبت مجتمعاتها بكل ما يجذب السائح؛ ولكن الظاهر أن سويسرا تعول قبل كل شيء على السياحة الغالية أو السياحة المترفة؛ ولما كانت السياحة مورداً قومياً أساسياً في سويسرا، فالظاهر أنها تعمل كل ما وسعت لاستغلاله في جميع نواحيه. وحالة الرخاء المستمر التي تتمتع بها سويسرا تساعد في ارتفاع معيار العيش، وتحمل الشعب السويسري على طلب المزيد من ثمار هذا الاستغلال؛ ولكن الظاهر أن سويسرا شعرت أخيراً كما شعرت فرنسا أن هذا المورد قد أصابه النقص وأن دولاً أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا والمجر قد أخذت تجذب أنظار السياح وتستغل مورد السياحة بما قدمته من تسهيلات في النقد والسكك الحديد، وأن الخروج عن معيار الذهب في مسالة النقد وسيلة لاستدراك هذا النقص. وقد خرجت سويسرا فعلاً كما خرجت فرنسا عن معيار الذهب، وخفضت قيمة الفرنك السويسري نحو 30 ? بحيث أصبح الجنيه الإنكليزي يعادل 21 فرنكا؛ وربما كان في ذلك تخفيف على السائح وتخفيض معقول في مستوى المعيشة، ولكن ذلك يتوقف دائماً على المحافظة على مستوى الأثمان القائم، فإذا ارتفعت الأثمان تبعاً لنزول النقد، فأن السائح لا يستفيد شيئاً ويبقى الغلاء المرهق حيث هو.

ولنعد الآن إلى بازل؛ فهي مدينة أنيقة سكانها نحو مائة وخمسين ألفا، وتتمتع بموقع بديع على منعطف نهر الراين، والراين يخترق بازل، ولكنه يبدو متواضعاً هادئاً كأنه نهير صغير؛ وفي ظاهر بازل من الغرب تجتمع حدود أمم ثلاثة ترى على قيد البصر سويسرا وألمانيا وفرنسا؛ وفي بازل أقدم الجامعات السويسرية يرجع إنشاؤها إلى نحو خمسمائة عام، وبها مكتبة كبيرة تضم نحو نصف مليون مجلد، وعدة كنائس قديمة أشهرها وأفخمها كنيسة سانت مارتن. وشوارع بازل وطرقها حسنة التخطيط، ومبانيها منسقة متوسطة الارتفاع؛ وأهم ميادينها ميدان المحطة ' وعليه يشرف معظم الفنادق الكبيرة، ومنه يتفرع بحذاء المحطة أهم شوارعها، وهو (الشارع الحر) وهو الممتد في وسطها حتى النهر؛ ولبازل ضواح بديعة يمتد إليها خط ترام خاص من المدينة، يمر خلال مجموعة ساحرة من الوديان النضرة والقرى النظيفة الساحرة؛ ولقد ذهبنا ذات صباح نجوس خلال هذه المناظر الممتعة، وقصدنا إلى قرية دورناخ حيث يقوم معهد (الجتيانوم) فوق أكمة عالية تصل إليها من طرق صاعدة تقوم على ضفافها المنازل والحدائق الأنيقة؛ ولما وصلنا إلى (الجتيانوم) بعد رياضة مجهدة ألفينا بناء ضخما أبلق، قد بني على الطراز الإغريقي والقوطي؛ فجزنا إلى داخل المعهد وقابلنا سكرتيره ووقفنا منه على تأريخ المعهد ونظمه وغاياته؛ وخلاصة ما علمناه أن (الجتيانوم) أو (معهد جيته) معهد دولي للعلوم العقلية، سعى إلى تأسيسه الدكتور رودلف شتينر العلامة النمساوي في عام 1923، وبني على طراز الملاعب اليونانية القديمة؛ وأريد به أن يكون معهداً دولياً حراً لترقية العلوم العقلية يجري على مبدأ الثقافة الحرة المطلقة من كل قيد؛ وأنشئت فيه أقسام للتربية والفنون الموسيقية والطب والعلوم والفلسفة. وفي الصيف تلقى في المعهد دروس ومحاضرات دورية من أشهر الأساتذة في مختلف العلوم والفنون فيقبل على سماعها جمهور كبير من الزائرين، ومعظمهم من الإنكليز والأمريكيين والألمان، وقد شهدنا كثيرين منهم حول المعهد وداخله؛ وهنالك على مقربة من المعهد عدة فنادق منزلية تأوي زوار دورناخ، وإلى جانبه فوق الأكمة العالية مقهى أنيق يقصده الرواد والمتنزهون.

وبعد بازل قصدنا إلى تسيريخ (زيوريخ)، وهي اكبر المدن السويسرية وسكانها نحو ثلاثمائة ألف. وتقع تسيريخ على نهر ليمات أحد أفرع الراين عند مصبه في بحيرة (تسيريخ)، ويخترقها نهر ليتام وقد أنشئت عليه قناطر مدرجة لحبس المياه ودفعها بقوة لتوليد الكهرباء؛ وتقع بحيرة تسيريخ في نهاية المدينة شرقا، وهي من أبدع المناظر البحرية التي يمكن تصورها، وتكثر فيها القوارب البخارية المعدة للنزه القصيرة، وكذلك السفن المعدة للحفلات الراقصة؛ ويمتد أكبر شوارع تسيريخ، وهو شارع ' ما بين المحطة والبحيرة، وهو شارع طويل فخم وبه معظم البنوك والمحلات التجارية وإدارات الصحف الكبرى وقد رأينا منها إدارة (جريدة تسيريخ الجديدة) وفي تسيريخ أيضاً جامعة، ومتحف تاريخي كبير، والمدينة على وجه العموم كثيرة النظافة والأناقة تفيض حركة وحياة، غير أننا عانينا بها نفس الغلاء المرهق الذي أشرنا إليه. وقد رأينا في الأيام القليلة التي قضينا في هذه الربوع السويسرية الجميلة من خواص المجتمع السويسري كل ما يحمل على التقدير والإعجاب، فسويسرا الألمانية بلا ريب من أرقى بقع أوروبا وأعظمها حضارة، والشعب السويسري (الألماني) من أذكى الشعوب الأوربية، وأرفعها ثقافة وخلاقاً؛ فحيثما سرت رأيت أرقى مظاهر النظافة والصحة والعافية، وألفيت الشباب النضر يتدفق حياة وبهجة؛ وتمتاز الفتاة السويسرية برشاقتها ومظهرها الرياضي ولونها النضر، وجمالها الطبيعي الذي لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفي جميع طبقات المجتمع تسود الرقة والأدب الجم وحسن المعاملة والأمانة؛ ويلقى الغريب كل معاونة وتقدير واحترام؛ واللغة الألمانية هي اللغة السائدة في هذه المنطقة من سويسرا، وهم يتحدثونها بظرف ورشاقة، ولكنك تستطيع التفاهم أيضاً بالإنكليزية والفرنسية والإيطالية في معظم الأحوال

ولقد أنستنا هذه الأيام القليلة الممتعة، وما لقيناه خلالها من شمائل هذا الشعب الرفيع الدمث، ومظاهر حياته وذكائه ونشاطه التي تحمل على الإعجاب، ما لقيناه من متاعب الغلاء المرهق الذي يرجع بالأخص إلى تفاوت سعر النقد، وأنستنا بالأخص كثيرا مما لقيناه في فرنسا وباريس من مظاهر التكلف والخشونة والرياء والجشع، وكل ما هنالك من مظاهر حضارة تؤذن بالانحلال.