انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 178/العالم المسرحي والسينمائي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 178/العالم المسرحي والسينمائي

مجلة الرسالة - العدد 178
العالم المسرحي والسينمائي
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1936



الجريمة والعقاب لدستؤفسكي

على مسرح الأوبرا الملكية

لناقد (الرسالة) الفني

لم يكن ليدور بخلدي يوم قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية القصصية كما وضعها دستؤفسكي - وذلك منذ سنين بعيدة - أن هنالك من سيخاطر يوماً باقتباس مسرحية منها؛ فان من أصعب الأمور أن يعمد كاتب إلى هذا الاقتباس دون أن يحجم مرات خوف الفشل. فاقتباس مسرحية من رواية قصصية معناه تلخيصها، والتلخيص مهما كان وافياً يعطي صورة غير صحيحة عن الأصل، ولكن جاستون باتيه المخرج الفرنسي المعروف لم يعبأ بكل هذا واقتبسها وأخرجها على المسرح في باريس فلاقت من النجاح والإعجاب الشيء الكثير مما حدثتنا عنه الصحف الفرنسية.

حقاً إنه لحدث عظيم أن تظهر على مسرح مصري رواية لدستؤفسكي ذلك الكاتب الألماني العظيم الذي طبقت شهرته الآفاق، ونقلت مؤلفاته إلى جميع اللغات الحية؛ وإنه لنصر عظيم للفرقة القومية أن تخطو خطوة جريئة كهذه وتفتح موسمها الثاني بهذه الرواية أمام كبار رجال الدولة وشيوخ الأمة ونوابها، فتعلن فوز الفن العالي والأدب الرفيع.

والرواية تقوم على التحليل النفسي العميق، ولكن في بساطة ووضوح يسهل تناولها لمن كان على قليل من الثقافة؛ وهي خالية من العوامل المفاجئة والصناعة التي اعتدنا أن نراها في المسرحيات الفرنسية. وفيها أوضح المؤلف غاية الرجل الروسي - في أيام القيصرية - من الحياة، فهو لا يرى لها غاية غير الألم على عكس الرجل الأوربي الذي يرى غاية الحياة السعادة فيسعى إليها. أما الروسي فيفتتن بالألم ويتكالب عليه، بل يسعى إليه جاهداً ليصهر في بوتقته روحاً لا يراها مؤدية رسالتها في الحياة إلا من طريق التفكير والعذاب.

نقل المسرحية عن الفرنسية الشاعر الرقيق الدكتور إبراهيم ناجي، والممثل الأديب فتوح نشاطي، فجاءت الترجمة سلسلة سهلة مما يلائم موضوع القصة وبساطة الوسائل في معالجة المؤلف للموضوع، فكان إعجابنا بالترجمة قدر إعجابنا بالاقتباس.

ملخص القصة

الطالب راسكو لينكوف شاب روسي نفور عبوس، شديد الكبرياء على الرغم من طهارة قلبه؛ تسممت روحه بفلسفة القوة التي سادت أوربا في نهاية القرن التاسع عشر، فخيل إليه أنه شخص ممتاز، وأنه باعتباره عبقرياً وضع نفسه فوق القانون. وكان يسائل نفسه: (لو كان نابليون قد صادف في طريقه إلى المجد عوائق وعثرات، أكان ينكص على عقبيه، أم يتقدم في جرأة ويزيلها؟).

كان الرد الطبيعي على هذا التساؤل أن قتل مرابية عجوزاً ليثبت نفسه أنه يمتاز على الناس أجمعين بقوة تتسامى عن الخضوع للقوانين، ففي رأيه أن هناك أناساً يحق لهم أن يعتدوا على الحياة الإنسانية دون أي عقاب، ولكنه ما انتهى من جريمته حتى أضحى فريسة آلام مبرحة، فشعر بوحدته القاسية بين الناس ولم يطق البقاء حتى مع أمه وأخته، وهجر الجميع ليختلف إلى الحانات يختلط فيها بالأوساط الوضيعة.

وهناك يلتقي بسكير شيخ جعل يقص على الطالب آلامه وكيف أن إدمانه قد جر على أسرته الوبال من مرض اضطرت معه ابنته أن تسقط في مهاوي العار لتقوم بأودهم، فيعطف الطالب على هذا المخلوق الملوث. وتدهم هذا السكير عربة فيقضي نحبه، ويتعرف الطالب إلى الأسرة البائسة ويساعدها بما تملك يده ويحنو على الفتاة الساقطة التي تقوضت حياتها مثله ويرى فيها ملجأه الوحيد في هذا العالم.

وكان (بوفير) قاضي التحقيق الذي عهدت إليه قضية مقتل المرابية يشك في الطالب، وتشاء المصادفات أن يطلع على مقال بتوقيع راسكولنيكوف يشير فيه إلى أن هناك طبقة ممتازة من الناس تملك حق ارتكاب الجرائم، فيلاحقه في حذر ودهاء، فهو لا يملك برهاناً مادياً، لأن يقظة الطالب تفسد عليه كل شيء.

وهكذا لا تستطيع العدالة أن تقتص من القاتل، فهل ينجو من يقتل نفساً بشرية؟! لا، إنه الضمير يهيب في نفسه ويعذبه فتهن أعصابه ولا يستطيع أن يحتمل هذه الحياة، فيسير إلى الفتاة ليلقى على منكبيها هذا السر الذي أنقض ظهره وعجز عن احتماله، فترى الفتاة أن الإنسان وإن انتصر على عدالة الناس إلا أن في أعماق ضميره عدالة أسمى وأقسى لا يخفت لها صوت حتى يكفر عن جريمته، فيستمع لها ويخرج من بيتها فيلقى قاضي التحقيق فيناديه قائلاً: (بوفير. انتصر) ويركع أمام أكثر الأفراد الذين ظهروا في المسرحية ويعترف بجريمته.

الإخراج والتمثيل

جهود كبيرة ومصروفات باهظة جعلت الرواية مظاهرة إخراج هائلة. ولقد أعجبنا بالمناظر كل إعجاب، كما أعجبنا بالتاج القيصري الذي يعلو الستار الحريري الجميل الذي يحمل الشعار القيصري ويفصل بين المنظر والآخر، والحق أن الجهد الذي بذله الأستاذ عزيز عيد يستحق الشكر.

ولكن، هل فكر المخرج قليلاً أن طريقته هذه في الإخراج تتعارض وأهم خصائص الفن الروسي وهي البساطة؟

إن تعدد المناظر وإصرار المخرج عل إظهارها كاملة البناء جعل التمثيل يمتدد بالنظارة حتى منتصف الساعة الثانية صباحاً، فكنا نشهد تمثيل المنظر في وقت قصير ونبقى طويلاً وطويلاً جداً في انتظار تهيئة المنظر الذي يليه، وهكذا كان يضيع الأثر الذي تركه التمثيل من ملل الانتظار الطويل. ولقد كان (المايسترو) المسكين الذي يدير فرقة الموسيقى يعيد ويكرر المقطوعة الواحدة حتى يشغل النظارة فأرهق وضاعت آثار قطعه التي تعب كثيراً في إعدادها، ولولا ذلك لاستسغناها وصفقنا لكل مقطوعة منها.

إن أهم واجبات المخرج أن يعمل على تركيز إخراجه حتى تأتي الرواية والتمثيل بالثر المطلوب، لا أن يتركها هكذا مفككة؛ وأظن أنه رأى معنا إخراج هملت وروميو وجولييت من الفرقة الايرلندية التي عملت في الموسم الماضي على مسرح الأوبرا. لقد كانت كما قلت في حديث سابق على صفحات (الرسالة) تعتمد على منظر واحد وتستعين بستار صغير وبالضوء في تبديل المنظر، وهذا لا يستغرق بضع ثوان. ولو أن الأستاذ عزيز عيد عمد إلى هذه الطريقة أو قارب بينها وبين طريقته لما أضطر إلى حذف أربعة مناظر حتى لا يتأخر التمثيل عن منتصف الثانية صباحاً. فهل للمخرج أن يترفق بالجمهور؟!

تحدث معي أحد المعجبين بالأستاذ عزيز مؤيداً وجهة نظره في عرض المناظر في بناء كامل فهو يراها خير من استعمال الستائر مع (الفوندو)، وإني أخالف هذا الرأي، فأن استخدام الطريقة الثانية أجل إذ هي تجعل الجمهور أكثر انتباها وأكثر استخداما لعقله من الطريقة الأولى، وهذه الطريقة هي طريقة بدائية. ولو أنك عهد إلى ممثل مبتدأ باعداد مناظر رواية كبيرة لما فكر إلا في اختبار مناظر كاملة البناء لكل فصل وكل منظر من مناظر الرواية. أما الطريقة الأخرى فلا يلجأ إليها إلا الفنان القوي الذي يتغلب على الصعاب ويلجأ إلى كل جديد؛ واعتقادي في عزيز أنه يستطيع هذا، ولكن لا أدري لم لا يفعل؟

والإضاءة عادية تحتاج إلى بعض العناية؛ ويجب على المخرج أن يستخدمها اكثر من ذلك لتساعد ممثليه على قوة التعبير. وهناك بعض الاضطراب في إضاءة منظر المقابر ولا أظنه إلا خطأ غير مقصود نتيجة الإسراع، وأرجو أن يتلافاه رجال المسرح كما أرجو ألا يضاء الستار الحريري بضوء قوي صارخ بعد المناظر المؤثرة لأن هذا الضوء يضيع الأثر الحزين من النفوس.

لا يتسع لي المجال للتحدث عن التمثيل بإفاضة، واكتفي اليوم بأن اذكر أن جميع الأفراد قد أدوا جهوداً كبيرة في سبيل نجاح هذه الرواية؛ ولكني أحب أن ألفت نظر الأستاذ جورج أبيض إلى أنه لم يكن مستذكراً دوره، فكان صوت الملقن يرتفع لأسماعه فيصل ألينا في المقاعد الخلفية؛ وموقفه كذلك مع عباس فارسالذي يعترف له بأنه القاتل لا يحتاج إلى هذه الثورة وهذا الإلقاء التراجيدي. والآنسة زوزو الحكيم عليها أن تعني بالإلقاء ومخارج الألفاظ وبتلوين جملها؛ أما الآنسة أمينة نور الدين فكانت تلقي جملها في خشونة تشبه خشونة الرجال، وأرجو أن تترفق بالنظارة قليلاً وتخفف من حدتها؟

يوسف تادرس