انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 177/في الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 177/في الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1936



للأستاذ السيد محمد زيادة

لست أكتب هذا لأكتب؛ وإنما هي شكوى أطرحها هنا. . . أما طرفها الأول فهو أنا، وأما طرفها الثاني فلا أدري أهو شعوري المرهف لكل كبيرة وكل صغيرة تمر به، أم هو وجداني المستوعب دائماً كل ما فيَّ وكل ما أنا فيه، أم هو نفسي المتفتحة لكل ما ينتهي إليها من أمرها ومن أمر غيرها!!. فأني في هذا الشعور بهذا الوجدان مع هذه النفس أعيش في الدنيا كسفينة المستكشف عملها في اليم أن تظل حائرة على الوجه اليم فلا تكاد ترسو إلى شاطئ إلا لتنشد غيره؛ ويتملك رأسي خيال يقظ لا يهجع. ويقظة الخيال شقاء من الفن فهي شقاء في كل مواقع الحس لكل نواحي الحس.

وأراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، ثم أراني أحبه ولا أحيا بغيره. . . فكأنما أنا بين بليّتين فيهما مشكلتان لا حل لهما فلا نجاة منهما. . .

وأحس أنني قد قدر علي أن أعيش هكذا حتى أموت هكذا؛ فما استريح يوماً من سعي الخيال وراء ما يعني وما لا يعني، ولا اقصر يوماً عن التفكير في صوره التي يستخرجها من صور الحياة. أتُراني مقطوعاً من قمة جبل محطوطاً عند سفحه، وأريد أن أرى وأنا عند السفح ما أراه وأنا في القمة؟. . أم تراني أخطأت إذ خلقت لتحتويني الدنيا فظننت أني خلقت لأحتويها؟. .

أمشي في الطريق فأرى قصاباً يمر بسكينه مرتين على رقبة ديك كبير، ثم يقذف به بعيداً؛ فيقف صامتاً تتدفق الدماء من عنقه، وتزوغ عيناه فتارة تشخص إلى القصاب، وتارة تتطلع إلى الصبية الملتفين حوله يشهدون مصرعه، وتارة تنظر إليّ وكأنها تقول كلاماً، ثم يرقص الديك رقصة الموت إذ ترنِّحه المنية، ثم يرتمي على الأرض. . . فأُلقي عليه نظرة ساكنة ثم ألتفت عنه وآخذ سبيلي فإذا هي على غير ما كانت عليه، وكأن الشارع بما فيه من سابلة وما يحفه من مبانٍ خلوة هادئة في وهدة غارقة بين نجدين. فأستعيد صورة الديك مضطرباً ثم مذبوحاً ثم هامداً فيخيل إلي أنه كان وقت ذبحه يقول: الآن قد آمنت بأنني ما خلقت إلا ليأكلني من كان يطعمني. .

ثم أغيب عن الوجود غيبة، وأظل أفكر ويشغل بالي التفكير. وقد يستنفذ هذا من وقتي ومن ذهني ما أنا في حاجة إليه لشؤوني.

وانطلق مع صديق لي إلى ناحية المروج في نزهة خلوية فتقابلنا على الأرض نملة تسعى، فيدوسها الصديق بقدمه عامداً إلى قتلها؛ ولكنه يتركها تتلوى فلا هي بالحية ولا هي بالميتة، فيشجر بيني وبينه شقاق في الرأي حول فعلته. . . أريد أن اثبت له أنه مخطئ وأن الله لم يجعله على الأرض مبيداً للحشرات، ويريد هو أن يثبت لي أنه مصيب وان الله لم يجعلني على الأرض مرشداً للناس. ويطول الخلاف بيني وبينه، فلا هو مقتنع بأن عمله هذا قسوة ولا هو مقنعي بأن عمله هذا رقة؛ فأضطر إلى السكوت على مضض وأمشي مشفقاً على النملة المتوجعة، متألماً لطغيان القوة على الضعف، متعجباً لاعوجاج معنى الحياة، حاملاً من إشفاقي وتألمي وتعجبي ثورة على صديقي. . . لقد ديست النملة وتحطمت وبقيت تتعذب حتى تموت فماذا جرى منها حتى نستحل ما جرى عليها؟. . وأين الرحمة؟ أين الرحمة؟

وأظل أتغيظ ويملأ الغيظ نفسي، وقد يذهب هذا من سروري ما أنا في حاجة إليه في نفسي.

ويصادفني في الطريق رجل كسير مسكين يترقرق الدمع في عينيه ويكاد يطفر، وتجول الحسرة الصامتة في جبينه وتكاد تتكلم؛ فتلتقي عيناي بعينيه في موقع الفاقة من هيكله، ثم يلتقي شعوري بشعوره في موضع الألم في نفسه. . . وأراه يتلفت عن يمينه وعن شماله متفرساً في وجوه المارين به مر الزوارق اللاهية بالصخرة الحزينة، فأذهب أتصور نفسي بائساً بؤسه حائراً حيرته واقفاً، وأمكث أتحرى في مسارح شعوري ما كنت أقوله لنفسي وما كانت نفسي تقوله لي. . . حتى أسمع في وجداني هذا الحديث: كنت أقول لنفسي: أنا جائع فهل من هؤلاء الناس السعداء من يعرف الجوع؟ وهل منهم من يرده؟. . . وتقول لي نفسي: أمسك على الطوى فليس بين الناس من يرجى، وليس غير الله من يسأل. . . فأقول لها وهل المحسن من الناس إلا يد من الله تمد بالحسنة؟. . . فتقول لي: يد الله لا تنتظر السؤال لتعطي. . .

ويتمطط حديث الوجدان ويطول، وأظل أتحسر ولا أستطيع إلا أن أتحسر؛ وقد يستغرق هذا من وجداني ومن خاطري ما أنا في حاجة إليه لعملي.

وأجلس في غرفتي مسهداً في هدأة الليل تشرف بي جلستي على دور ومن ورائها حقول ومن ورائها ما لا يرى. . . فتذهب عيني إلى مسارب الفكر، ويغوص فكري إلى أعماق الكيان. فماذا أجد هناك، وما تحمل نفسي من هناك؟!

أجد هناك إرادة الحياة تغالب إرادة الموت فتتجاذبان روح الإنسان، والإنسان بينهما عاجز لا حيلة له، ضعيف لا قوة فيه، مسخر لا رأي عنده. . . وما تزالان تصطرعان حتى تهتديان إلى حل تصطلحان عليه، هو أن يموت الإنسان جزءاً من اليوم على قدر استعداده للخمود والموت، ويحيا بقية اليوم على قدر استعداده للعمل والحياة؛ وتتفقان على أن تسمى تلك الموتة اليومية الصغيرة بالنوم، فيقال نام. . . حتى تعافه الحياة فتنزل عنه للموت فيقال مات. . .

وتحمل نفسي من هناك كلمة الفناء ومعها كلمة الألم؛ وأقول لنفسي: حقاً إن هذا الذي نسميه النوم ما هو إلا راحة أصغر من راحة، فهو موت أصغر من موت. . . يا عجباً!! أهكذا جُعل الموت على رقابنا حتى لم تخل منه الحياة نفسها؟! أهكذا خُلقنا لنموت ونحيا كل يوم ثم نموت في يوم فلا نحيا؟! ثم أقول: يا ويلتاه. . . لن ألبث إلا قليلاً حتى أكون في عداد هؤلاء الأموات الذين تركوا الدنيا وما يزالون فيها. . فمنهم من يبعث ليأرق ثم يموت، ومنهم من يبعث ليشرب ثم يموت، ومنهم من تدخله موتته الصغرى في موتته الكبرى فلا يبعث إلا يوم الحشر. . .

وأظل أتأمل وأتوزع بين التأملات؛ وقد يشغل هذا من بصيرتي ومن إدراكي ما أنا في حاجة إليه لقلبي.

وآوى إلى مضجعي قبيل الفجر مهدماً كالقادم من سفر طويل، مكدوداً كالفارغ من عمل شاق؛ وألقي برأسي على الوسادة ثقيلاً كالحجر، ساخناً كالأتون، ممتلئاً بما أفرغت فيه المشاهد والمشاعر من صور طول النهار ومعظم الليل. . . وفيما أنا أستشعر الخلو، وأتلمس الاستقرار، واستكفي مخي عناء التفكير، وأقنعه بضرورة الرقاد. . . يطرق مسمعيصوت بوم ينعب، وأنا لا أمقت كما أمقت البوم طائراً نافعاً أو ضاراً؛ فأنهض من فراشي لا لأغلق النافذة دون ذلك الصوت الكريه البعيد فأزيد بعده أو أصده؛ وإنما لأطل من النافذة فأقترب من ذلك الصوت الكريه البعيد فأسمعه جيداً لعلني أفهم غموضه فأفسره.

وتمر من الليل فترة وما تكاد تنقضي حتى أجدني قد انقلبت عاطفاً على البوم واجداً في نعيبه جمالاً ولذة؛ وما تغير هو حتى صار محبوباً، وما تغيرت أنا حتى صرت أحبه. . . ولكني إذا افتح لسماعه آذان نفسي أسمعه كالمغني، وإذا أفتح لعنائه آذان عقلي أتسمع فيه نداء المحب المشتاق للحبيب الغائب. . .

وأظل ألقي على نفسي في أنر البوم ونعيبه وشؤمه السؤال بعد السؤال؛ وقد يأخذ هذا من راحتي ما أنا في حاجة إليه لجسمي.

وهكذا أراني منكوباً بهذا الخيال مرزوءاً بهمه، حتى ليقودني إلى جنون شعري ثائر يفقدني لذة التمتع بمظاهر الكون وجماله في البحث عن حقيقة الكيان وأسراره.

والعزيز على هو أني لا أملك الخلاص من الخيال، فأنا لا أملك الخلاص من هذا التعب - اللهم إن كان هذا من فطرة الشعر فلبئست الفطرة، ولخير منها فطرة الجمود والبلادة.

إن من الناس أناساً يعيشون في هذه الحياة ليعيشوا فقط؛ لا فكر في أدمغتهم، ولا حرب في عقولهم، ولا نصب في أفئدتهم. . . كأنما خلقوا جسوماً بغير قلوب، ولكنهم سعداء أنهم يشعرون بأنهم سعداء!!

أريد أن أجرب هذه السعادة فأطرح هموم الخيال، وأنسى خيال الهموم، وأعيش بظاهر ما أرى. . أريد أن أفهم ولو يوماً واحداً أنني سعيد وإن فهم الناس في ذلك اليوم أنني شقي.

(طنطا)

السيد زيادة