مجلة الرسالة/العدد 177/الفصل في نبوة المتنبي من شعره
مجلة الرسالة/العدد 177/الفصل في نبوة المتنبي من شعره
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 3 -
ولنعد إلى النظر في قصيدة المتنبي:
كم قَتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ ... بياضِ الطُّلى وورْد الخدود
فقد ابتدأها المتنبي بالنسيب على عادة الشعراء، وتدله في ذلك النسيب كل التدله، وقتل نفسه فيه من فرط الصبابة والوجد، ثم ذكر أيام الصبا والجهل وحنَّ إليها، وتفنن في وصف الحسان اللاتي نسب بهن أيما تفنن.
ولم يكفه ذلك التدله في النسيب، والتفنن في وصف النساء، بل عمد إلى الخمر ينسب بها أيضاً، ويتدله فيها بأكثر مما تدله في نسيبه.
ولا شك أن هذا الأسلوب في النسيب ووصف الخمر، لا يتفق مع ذلك الأسلوب الذي ينسب إليه في دعوى النبوة، ولا يمكن أن يحصل هذا وذاك من شخص واحد، لاختلاف نزعتهما، وتباين المشارب فيهما، واتجاه كل منهما إلى غاية تخالف الأخرى، فهو فيما ينسب إليه في دعوى النبوة رجل جد وصلاح، مبعوث إلى هذه الأمة الضالة المضلة، ويريد أن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؛ وهو في قرآنه يدعو إلى الأيمان ويحارب الإلحاد، ولكنه في شعره هازل خليع، يدعو إلى الفسق والفجور، وينغمس في حمأة الضلال، ويبلغ من أمره أن يستهتر بالأيمان والتوحيد إلى هذا الحد قي قوله:
يترشفن من فَمي رَشَفاتٍ ... هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
وهذا البيت يذكر فيما يؤخذ على المتنبي من الإلحاد في الدين فكيف يتفق أن يأتي في شعره وهو في عهد يدعو فيه إلى التوحيد ويحارب الإلحاد ويزعم فيه أنه نبي مرسل؟
ثم يبلغ أيضاً من أمره عندما أخذ في وصف الخمر أن يقول فيها هذا القول:
كلُّ شيء من الدماءِ حرامٌ ... شُرْبهُ ما خلا دم العنقود
فأي نبي هذا الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال؟ وأي ضلال يحاربه وهو يدعو إلى هذا الضلال؟
وقد جاء البيت الأول في بعض الروايات: يترشَّفن من فَمي رَشفاتٍ ... هُن فيه حلاوةُ التوحيد
وهو في هذه الرواية أخف في الاستهتار من روايته الأولى وهي الرواية المشهورة.
فلما جاوز في قصيدته هذا كله، ووصل إلى مقصوده من الفخر بنفسه وشكوى حاله، وحمل نفسه على تحمل الصعاب في سبيل آماله، كانت آماله أشياء أخرى دنيوية، ولم تكن هي الآمال التي تنسب إليه في دعوى النبوة؛ فليس لهذه الآمال ذكر هنا، ولا تشتم لها فيه رائحة، وإنما هو هنا رجل يسعى في اكتساب المجد، ويكد في طلب الغنى والمال، ويشكو من إخفاقه في هذا الطلب مع كثرة سعيه فيه:
ضاق صدري وطال في طلب الرَّزْ ... قِ قيامي وقَلَّ عنه قعودي
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سُعُود
وهو أبداً مولع بذلك الاستهتار حتى في مقام الجد، فإذا أمر بطلب العز لا يفوته أن يقول إنه خير من الذل ولو كان في جنة الخلد، وأن يفضله ولو كان في لظى على الذل.
فاطلب العزَّ في لَظى وذَر الذ ... لَّ ولو كانَ في جنان الخلود
فمثل هذا لا يصح أن يكون من شخص يدعي النبوة، ويدعو الناس إلى العمل الذي يوصلهم إلى نعيم الله في الجنة. ولا فرق بينه في هذا وبين ذلك الشاعر الجاهلي الذي سبقه إلى ذلك المعنى، وكان له من جاهليته ما يهون من أمره فيه، وهو ذلك الشاعر الذي يقول:
حكم سيوفك في رقاب العذل ... وإذا بليتَ بدار ذلٍّ فارحل
دار النعيم بذلةٍ كجهَنمٍ ... وجهنم بالعز أَكرم منزلِ
وكذلك هذا الفخر لا يليق ممن يدعي النبوة:
إن أكن معجباً فَعُجبُ عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترْب النَّدى ورَبُّ القوافي ... وسمامُ العدى وغيظ الحسود
وهكذا نخرج من دراسة هذه القصيدة بيقين لا شك فيه، أنها لا تتفق مع تلك النبوة المزعومة للمتنبي، فأما أن تكون هذه القصيدة مختلقة عليه، وأما أن تكون تلك النبوة مكذوبة. وإذا كانت هذه القصيدة للمتنبي باتفاق الفريقين المختلفين في أمر نبوته، فأن تلك النبوة تكون هي المكذوبة قطعاً.
وهذه قصيدة ثانية للمتنبي، قالها في ذلك العهد الذي ينسب إليه إدعاء النبوة:
ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ... والسيفُ أحسن فعلاً منه باللمم
ابعِدْ بعدت بياضاً لا بياض له ... لأنت أسودُ في عيني من الظلم
بحبِّ قاتلي والشيبِ تغذيتي ... هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم
فما أمرُّ برسم لا أسائله ... ولا بذات خمار لا تُريق دمي
تنفَّست عن وفاءٍ غير منصدع ... يوم الرَحيل وشعب غير ملتئم
قبلتها ودموعي مزجُ أدمعها ... وقبلتني على خوف فماً لِفمِ
فذقت ماء حياةٍ من مُقبَّلِها ... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم
ترنو إليَّ بعين الظبي مُجهِشةً ... وتمسح الطَّلَّ فوق الورد بالعنم
رُويدَ حكمك فينا غير منصفةٍ ... بالناس كلَّهم أفديك من حكم
أبديتِ مثل الذي أديتُ من جزعٍ ... ولم تجني الذي أجننتُ من ألم
إذن لبزَّكِ ثوبَ أصغرهُ ... وصرتِ مثلي في ثوبين من سقم
ليس التعلُّلُ بالآمال من أربي ... ولا القناعةُ بالأقلال من شيمي
ولا أظن بناتِ الدهر تتركني ... حتى تسدُّ عليها طُرقها هممي
لم الليالي التي أخنت على جدَتي ... برقة الحال واعذرني ولا تلم
أرى أناساً ومحصولي على غنم ... وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم
ورَبَّ مال فقيراً من مُروَّته ... لم يُثر منها كما أثرى من العدم
سيصحب النصلُ مني مثل مضربهِ ... وينجلي خبري عن صمَّة الصِّمم
لقد تصبرتُ حتى لاتَ مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركنَّ وجوهَ الخيل ساهمةً ... والحربُ أقومُ من ساق على قدم
والطعنُ يحرقُها والزجر يقلقها ... حتى كأنَّ بها ضرباً من اللمم
قد كلمَّتها العوالي فهي كالحةٌ ... كأنما الصَّابُ معصوب على اللجم
بكل مُنصلتٍ ما زالُ منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلواتِ الخمس نافلةً ... ويستحل دمَ الحجاج في الحرم
تنسى البلادَ بروق الجوَّ بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الدِّيم رِدِي حياضَ الرَّدى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنَّعم
إن لم أذَرْكِ على الأرماح سائلةً ... فلا دعيت أبن أُمِّ المجد والكرم
أيملك الملكَ والأسياف ظامئةٌ ... والطير جائعة لحم على وضم
من لو رآني ماءً مات من ظمأٍ ... ولو مثُلْتُ له في النوم لم ينم
ميعادُ كلِّ رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصا من ملوك العرب والعجم
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولَّوْا فما أرضى لها بهم
وقد افتتح المتنبي هذه القصيدة بذم الشيب الذي ظهر فيه قبل أوانه، فحل في رأسه ضيفاً ثقيلاً غير محتشم، وبدا بياضه في عينه أسود من الظلم، وقد اجتمع عليه بذلك أمران صارا له كالغذاء: حب مبكر في عهد الطفولة، وشيب مبكر في بلوغه الحلم. ولا شك أن من يتبرم بالشيب هذا التبرم لا تحدثه نفسه بادعاء النبوة وما يلزم لها من إظهار الصلاح والتقوى، والفرح بالشيب إذا أقبل، لأنه كما قال بعض الحكماء: زهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدمة العفة، ولباس التقوى. وأين قول المتنبي في هذا من قول دعبل بن علي
أهلاً وسهلاً بالمشيب فأنه ... سمة العفيف وحلية المتحرّج
ضيف ألمَّ بمفرقي فقربته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج
فمثل هذا هو الذي كان يقوله المتنبي في الشيب لو صح ما ينسب إليه في دعوى النبوة، وهو الذي يتفق مع الغاية التي تنسب إليه فيها.
ثم مضى المتنبي يتغزل على أسلوبه في قصيدته الأولى، يسأل كل رسم، ويجري في حب متنقل وراء كل ذات خمار، وهو حب شهوي كحب أبن أبي ربيعة وغيره من الشعراء الذين تستهويهم كل ذات جمال، ولا يعرفون في حبهم شيئاً من الوفاء، بل يتحدثون عن وفاء النساء لهن ولا يفون، كما تحدث المتنبي عن ذلك في قوله:
تنفست عن وفاء غير منصدع ... يوم الرحيل وشعب غير ملتئم
وقد يتفق لنبي أن يسمع هذا النوع من الغزل إذا كان بريئاً كما حصل للنبي ﷺ في سماعه قصيدة كعب بن زهير
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفْد مكْبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
إخالها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أو لو أن الوعد مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
ولكن فرقاً كبيراً بين سماع هذا النوع من الغزل وإنشائه، ورب شيء يقبل من شخص ولا يقبل من شخص أعلى منه، ورب حسنات في ذلك تعد سيئات، ورب سيئات تعد حسنات. ولا شك أن مثل هذا الغزل لا حرج فيه على كعب رضي الله عنه، وقد سمعه النبي ﷺ على هذا الاعتبار، وإن لم يكن من شأنه هو أن ينشئه.
ثم اقتضب المتنبي نسيبه اقتضابا، وابتدأ مقصوده من قصيدته بقوله:
ليس التعلل بالآمال من أرَبي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي
فإذا هو فيه طالب دنيا لا أكثر ولا أقل، وإذا به لا يرضى في ذلك بالقليل، وينفر من صفة القناعة التي حث عليها جميع الأنبياء قبله.
وهو في ذلك أيضاً ثائر على دهره الذي يفقر مثله على مروءته وشجاعته، ويغنى سواه على فقره من المروءة والشجاعة؛ ثائر على تلك الدول التي أقامها في عصره خدم العباسين الذين كانوا يجلبونهم أرقاء فيصبحون ملوكاً على الناس، فهو يقيم الدنيا ويقعدها من أجل تلك المهازل في نظره، ويرى نفسه أعلى شأناً من هؤلاء الخدم، وأحق منهم بهذا الملك الذي استأثروا به لأنفسهم.
وهو هنا لا يتحدث عن عدل وجور كما يتحدث فيما ينسب في دعوى نبوته، بل يتعطش إلى الحرب والقتال كما يتعطش كل فارس جبار يعشق سفك الدماء ونشر الفساد في الأرض.
ولا يتحدث كذلك عن أيمان وكفر، بل يتحدث عن خدم أقاموا لهم ملكاً هو أحق به منهم لما امتاز به من المروءة والشجاعة عليهم.
ثم تراه لا يقلع في هذه القصيدة عن استهتاره، وأخذه فيما بدل على ضعف دينه، فيقول
بكل مُنصلتٍ ما زالُ مُنتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوت الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم فالذي يقول هذا لا يمكن أن يأخذ وسيلته إلى الناس دعوى النبوة، لأنها تقتضي منه شيئاً آخر غير هذا الاستهتار، وتواضعاً في القول غير هذا التجبر، واقتصاداً في الحديث عن النفس غير هذا الإسراف في الفخر.
وسبيل هذه القصيدة بعد هذا سبيل القصيدة السابقة في القطع بكذب هذه الدعوى على المتنبي، لأنها تظهره في ذلك العهد بخلاف المظهر الذي يظهر به فيما ينسب إليه في دعوى النبوة وادعاء مثل هذه الدعوى من المتنبي في علمه وذكائه تقتضي منه الحيطة في أمره، وتوجب عليه ألا يظهر بين الناس بهذا المظهر في شعره، حتى يصدقه الناس في دعواه، ويلتئم حاله فيها التئاماً يخدعهم فيه. ويجب علينا بعد هذا أن نأخذ في هذا اللقب بما نقله أبن جني عن المتنبي نفسه، وقد ذكرنا فيما سبق، فلا نعيده هنا، ولكنا نذكر في ذلك مذهباً للأستاذ (محمود شاكر) رأى أنه أقرب إلى الصدق، وأولى بالاعتبار، وهو أن المتنبي نبز هذا النبز من أجل أنه كان في أول أمره متورعاً في خلقه لا يخرج عن حدود الوقار، متزمتاً لا يلين إلى الشهوات ولا يلقى إليها مقاده مترفعاً عن سفساف الأخلاق متمسكاً بمعاليها، آخذاً نفسه بالجد الذي لا يفتر؛ وكان لا يقرب التهم ولا يدانيها، فما كذب ولا زنا ولا لاط، ولا أتى أمراً منكراً يؤخذ عليه، أو يُزَنُّ به. واستمر على ذلك حياته كلها، وخالف الأدباء والشعراء من أهل عصره فما شرب الخمر ولا حمل وزرها، ولولا اضطراره فيما نرى لما حضر مجلسها. وكان الأدباء والشعراء في ذلك الوقت أهل شراب ومعاقرة ولهو وهزل وباطل، فلما وجدوا ما هو فيه من التعفف والتورع، ووقعوا على كثرة دوران أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسه بهم، نبزوه هذا النبز، ولقبوه المتنبي يريدون المتشبه بالأنبياء.
ولا شك أن هذا غلو من الأستاذ في أمر المتنبي، وقد روى عن بعضهم أنه عاشره فما رآه كذب ولا زنا ولا لاط، ولكن هذا لا يكفي لأن يجعل منه الرجل الصالح الزاهد المتورع الذي يصفه الأستاذ محمود. على أن هذا الاشتقاق لا يدل على التشبه وإنما يدل على الادعاء، وقد جاء في القاموس (وتنبأ ادعى النبوة ومن المتنبئ أحمد بن الحسين) وإنما يقال في ذلك تأله، لأن التأله التنسك والتعبد، ولم يلصق هذا اللقب بالمتنبي إلا لأجل الكيد به، وإيهام أنه ادعى النبوة، ولهذا كان يكرهه المتنبي. ولو كان لهذه الأغراض المذكورة لفرح به وهش له، والخطب في هذا سهل بيني وبين صديقي الأستاذ محمود شاكر، بعد اتفاقنا على أن هذه النبوة مختلقة على المتنبي؛ وأني لا أحب أن أثير في هذا جدالاً بيني وبينه؛ ولعله يتغاضى عن هذا الخلاف القليل بيننا، ليكون ما ذكرناه هو القول الفصل في هذا الموضوع حقاً.
عبد المتعال الصعيدي