مجلة الرسالة/العدد 176/نظرية النبوة عند الفارابي
مجلة الرسالة/العدد 176/نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
لم يكن عبثا أن يسمى فلاسفة الإسلام أرسطو عظيم حكماء اليونان والرجل الإلهي، وأن يرفعوه إلى منزلة لم يسم إليها واحد من الفلاسفة السابقين أو اللاحقين. ذلك لأنهم وجدوا لديه حلولا لكل مشكلة اعترضتهم، ووقفوا في كتبه على مختلف المعلومات التي تاقت إليها نفوسهم. ودائرة المعارف الأرسطية واسعة وشاملة حقيقة بحيث يصادف الإنسان فيها كل المسائل الفلسفية مدروسة دراسة مفصلة أو مشارا إليها على الأقل. ولا تكاد توجد مشكلة من المشاكل الحديثة إلا وفي عبارات أرسطو ما يتصل بها تصريحا أو تلويحا. ويمكننا أن نقول إن هناك كتبا دبجها يراع أرسطو على أن تخدم فلاسفة الإسلام أولاً وبالذات. وحظ كتابٍ ما لا يقاس في الواقع فقط بمقدار ما يحوي من أفكار، بل يرجع أيضاً إلى ما يحيط به من ظروف ومناسبات. فقد يكون ثانويا في نظر مؤلفه، ولكن الخلف يقدره تقديرا كبيرا لأنه اهتدى فيه إلى أجوبة على أسئلة العصر وحلول لمشاكل الجيل. ومن هذا الباب تماما رسالتان صغيرتان لأرسطو لا يذكران في شيء قطعا إذا ما نسبا إلى مجموعة مؤلفاته، ومع هذا صادفا نجاحا عظما في الفلسفة المدرسية الإسلامية ونعني بهما رسالة الأحلام أو ورسالة التنبؤ بواسطة النوم ونحن لا ننكر أن هاتين الرسالتين تحتويان على ملاحظات دقيقة في علم النفس فاقت كل النتائج التي انتهت إليها المدارس القديمة، وإن تلاميذ أرسطو وأتباعه من المشائين اليونانيين عنوا بهما عناية خاصة. ولا سيما الأحلام وتعبيرها كانت من المسائل التي شغلت العامة والمفكرين في القرنين السابقين للميلاد والقرون الخمسة التي تليه، وبعبارة أخرى في ذلك العصر الذي سادت فيه العرافة والتنجيم. غير أنا نلاحظ إن الرسالتين الآنفتي الذكر أحرزتا في العالم العربي منزلة لا نظير لها، ولا نظن أن أرسطو نفسه كان يحلم بها. ويكفي لتعرف هذه المنزلة أن نشير إلى أنهما الدعامة الأولى التي قامت عليها نظرية الأحلام والنبوة عند الفارابي.
لا نظننا في حاجة إلى أن نثبت أن هاتين الرسالتين أرسطيتان، فأسلوبهما وطريقتهما دليل واضح على ذلك، وأرسطو يشير إليهما في بعض رسائله الأخرى الثابتة. وقد تولى ز من قبل توضيح هذه النقطة بما لا يدع زيادة لمستزيد. والذي يعنينا هنا أن نبين ما إذا كانت هاتان الرسالتان ترجمتا إلى العربية أولا. وهذه مسألة غامضة بعض الشيء، وليس من السهل البت فيها برأي جازم. فأن المؤرخين، وخاصة ابن النديم والقفطي، حين يتحدثون عن كتب أرسطو التي ترجمت إلى العربية لا يشيرون إليهما؛ وكأن ما ترجم من كتبه السيكلوجية ليس إلا كتاب النفس المعروف، ورسالة الحس والمحسوس.
والفارابي نفسه في رسالته المسماة: (ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة) يقسم الكتب الأرسطية من حيث موضوعها إلى ثلاثة أقسام: تعليمية وطبيعية وإلهية. وبين الكتب الطبيعية لا يذكر رسالتي الأحلام والتنبؤ بواسطة النوم اللتين اعتاد المشاءون السابقون عدهما فيما بينهما. وكل ما يحظى به الباحث إنما هو إشارة غامضة إليهما في ثبت الكتب المنسوبة إلى أرسطو، والذي أخذه العرب عن بطليموس الغريب. بيد أنا على الرغم من كل هذا نميل إلى الاعتقاد بأن هاتين الرسالتين إن لم تكونا قد ترجمتا إلى العربية رأسا، فقد وصلتا إليها عن طريق غير مباشر. وابن النديم يحدثنا عن كتاب في تعبير الرؤيا لأرطا ميدورس نقله حنين بن اسحق إلى العربية؛ ولا يبعد أن يكون العرب قد استقوا من هذا الكتاب أو من أي مصدر تاريخي آخر أبحاث أرسطو المتعلقة بالأحلام وتأويلها. ذلك لأن فلاسفة الإسلام يدلون في هذا الصدد بآراء تشبه تمام الشبه الآراء الأرسطية. فحديث الفارابي عن النوم وظواهره والأحلام وأسبابها لا يدع مجالا للشك في أنه متأثر بأرسطو وآخذ عنه. وقد كتب الكندي من قبل رسالة في ماهية النوم والرؤيا وصل الأمر ببعضهم أن عدها ترجمة لبعض الرسائل الأرسطية. وربما كان أقطع شيء في هذه المسألة أن نلخص آراء أرسطو، وفيها وحدها ما يكفي لإثبات أن فلاسفة الإسلام تتلمذوا له هنا كما أخلصوا له التلمذة في مواقف أخرى.
يذهب فيلسوف اليونان إلى أن النوم هو فقد الإحساس، وأن الحلم صورة ناتجة عن المخيلة التي تعظم قوتها أثناء النوم على أثر تخلصها من أعمال اليقظة. وبيان ذلك أن الحواس تحدث فينا آثارا تبقى بعد زوال الأشياء المحسة. فإذا ما جاوزنا الشمس إلى الظل قضينا لحظة ونحن لا نرى شيئاً، لأن أثر ضوء الشمس على العينين لا يزال باقياً. وإذا ما حدقنا النظر إلى لون واحد طويلا خيل إلينا بعد مفارقته أن الأجسام كلها ملونة بهذا اللون. وقد نصم بعد سماع قصف الرعد، ولا نميز بين الروائح المختلفة إذا شممنا رائحة قوية. كل ذلك يؤيد أن الاحساسات تترك فينا آثارا واضحة. وهذه الآثار الخارجية تعطينا فكرة مقربة عن آثارها الداخلية التي تحتفظ بها المخيلة وتبرزها عند الظروف المناسبة. فالأحلام إذن احساسات سابقة، أو بعبارة أدق، صور ذهنية لهذه الاحساسات تشكلها الخيالة بأشكال مختلفة. على أن الاحساسات العضوية أثناء النوم قد تؤثر في الأحلام كذلك، فيحلم الإنسان بالرعد مثلا إذا صاح صائح أو ديك بالقرب منه، أو أنه يأكل عسلاً أو طعاماً لذيذاً لأن نقطة غير محسوسة من المزاج جرت على لسانه. وقد يرى النائم أنه يحترق في اللحظة التي يقترب فيها من جسمه لهب ضئيل. وليست الاحساسات وحدها هي التي تؤثر في الأحلام، فأن الميول والعواطف ذات دخل كبير فيها. فالمحب يحلم بما يتفق وحبه، والخائف يرى في نومه عوامل خوفه ويعمل على اتقائها. وكثيرا ما نحلم بأشياء رغبت فيها نفوسنا أو فكرنا فيها طويلا. هذه هي الأحلام في حقيقتها وأسبابها. وعل في هذه الأسباب ما يسمح لنا بتأويلها أحيانا. وقد يستعين الأطباء على معالجة مرضاهم وتشخيص دائهم بسؤالهم عن بعض أحلامهم. وإذا عرفت الاحساسات والظواهر النفسية المحيطة بحلم ما أمكن تعبيره. ومهارة مفسري الأحلام قائمة على أنهم يتلمسون وجوه الشبه الموجودة بين الأحلام بعضها وبعض، والعلاقات التي بينها وبين ظروف أصحابها الخاصة. بيد أن كل هذا لا يبيح لنا أن نتقبل الرأي الشائع القائل بأن الأحلام وحي من الله، فأن العامة والدهماء يحملون كثيرا بل العصبيون والثرثارون أكثر أحلاما من غيرهم؛ ولا يستطيع العقل أن يسلم بأن الله خص هؤلاء أو أغدق عليهم فيضه.
لابد أن تكون هذه الأفكار الأرسطية قد وجدت السبيل إلى العالم العربي حيث شغل موضوع الأحلام المفكرين على اختلافهم. فأهل الحديث، معتمدين على بعض الآثار، يفرقون بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام. وهناك أحاديث كثيرة متصلة بالأحلام وأنواعها نكتفي بأن نشير إلى بعضها. روى ابن ماجة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله، وحديث من النفس، وتخويف الشيطان. وفي الصحيحين: (الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. والمعتزلة يرون في الأحلام آراء مختلفة: فيرجعها بعضهم إلى الله، ويذهب بعض آخر إلى أنها من فعل الطبائع ومنهم من يجع بين هذين ويقول إنها على ثلاثة أنحاء: نحو يحذر الله به الإنسان في منامه من الشر ويرغبه في الخير، ونحو من قبل الإنسان، ثم نحو أخير من قبل حديث النفس والفكر. ويقول النظام إن الرؤيا خواطر مثل ما يخطر البصر. وهذا التفسير على اختصاره يحمل في ثناياه بعض الأفكار الأرسطية.
إلا أن رأي أرسطو في الأحلام يبدو بشكل واضح لدى الفلاسفة. وقد خلف الكندي رسالة في ماهية النوم والرؤيا سبق أن أشرنا إليها. وهذه الرسالة لا تزال حتى اليوم بين مخطوطات استامبول، ونرجو أن نوفق إلى نشرها قريبا وقد وقفنا عليها من طريق آخر، فان المستشرق الإيطالي البينو ناجي نشر في أخريات القرن الماضي بضع رسائل للكندي مترجمة إلى اللاتينية وبين هذه الرسائل واحدة عنوانها (النوم والرؤيا)، ويكاد يكون من المحقق أن هذه الرسالة اللاتينية ليست إلا ترجمة للرسالة العربية المتقدمة. ونظرة إلى هذه الترجمة اللاتينية تكفي لإثبات أن الكندي تأثر تمام التأثر بأبحاث أرسطو السابقة المتعلقة بالنوم والرؤيا. وقد قارن البينو ناجي بعض التعريفات الكندية بما يقابلها من التعريفات الأرسطية وأظهر في جلاء ما بينهما من قرابة. وبهذا وضع الفيلسوف العربي أساس نظرية الأحلام الفلسفية في السلام.
(يتبع)
إبراهيم مدكور