انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 175/من النيل. . . إلى الرافدين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 175/من النيل. . . إلى الرافدين

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936



للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

حينما قيل لي في وزارة المعارف: إنك ممن اختيروا لانتدابهم للتدريس في مدارس العراق، أحسست أن واجباً يناديني ويطلب التلبية مهما كانت فجأة النقلة ووعثاء السفر ولوعة الفرقة للأهل والوطن. . . تحقيقاً للثقة العراقية في السمعة المصرية التي رفع الله ذكرها في الشرق العربي الإسلامي، ووفاء لناشئة العراق ببعض ما لأجدادهم على العقلية العربية العامة من دين المجد والدين والعلم. . . وإيغالا بالجسم في صميم الشرق. . . وملأ للنفس من روحه الذي أومن بسره وسحره. . . وتوثيقا للعلائق بين البلدان العربية التي ما يبزغ فجر يوم جديد إلا وفيه أمل مشرق بوحدتها التي يرسم القلم الأعلى حدودها، وينسج الزمان بنودها، ويصنع جنودها.

وانطلق الجسم من حدود الأرض التي له فيها تاريخ وأطوار. . . إلى الأرض التي للروح والعقل فيها أشواق وأوطار! فقد عاشا في ميراثها، وقبسا من هداها للجنان واللسان، واعتز بفتوح أقلامها وسيوفها، فهما منها على غير نكرً.

واستدبرت السفينة شاطئ الوطن الذي في ترابه أبي، وعلى ترابه أمي، فأحسست شعور الانفصال له وقدة على كبدي! وصارت الفلك واحتواها الماء الذي قامت على عبريه بواكير الحضارات، وذابت في عبابه دولات، فقرأناه ككلمة خالدة في التاريخ، وعبرناه كقطرة في محيط الطبيعة.

وأقبل الليل ونحن على موج نرى جهاد السفينة فيه، والتقاء الظلام به، وإشراق النجوم عليه، فإذا القلب خافق صريع بسحر هذه الأكوان الثلاثة التي في كل منها محراب لعبادة الجمال الأعلى.

وتنفس الصبح على صفحة البحر فإذا لون من بهجة الحياة يشيع في النفس فتود لو أن الفلك والفلك وقفا فلا يريمان! ولاح حاجب الشمس من صوب فلسطين الثائرة ضد البطش والدس، فإذا بالعيون تشخص والخيال يطوف في بطون الوديان وقنن الجبال، فلا يرى إلا ثائراً رابضاً وراء صخرة، أو طائراً يقذف (بالبيض) مصارع، أو شلوا في فم ذئب، أو عيناً في منقار طير، أو طراداً عنيفاً بين قوة جبارة تعتمد على حذق للجديد من أساليب الحرب، وبين مقاومة صلبة فدائية تعتمد على الحق وإمداد الايمان؛ فسألنا الشمس أم الحياة أن تشرق بالأمل على قلوب أبناء عمومتنا، وأن تنضح مضاجع الشهداء بالشعاع المسكوب!

ثم أوفت بنا السفينة إلى بيروت وقد مال ميزان النهار إلى الغروب، فلاحت (الحمراء) في سفح لبنان كغادة نائمة في حضن جبار. فودعنا البحر واستجممنا قليلاً، ثم اجتزنا لبنان في طريق كسير الأفعي فلم نر منه غي جماله النائم، وعهدي به منذ ثلاث سنين في ضحوة النهار، أرض الفتنة والسحر.

لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأجمل منهما ملكوته

ونزلنا دمشق عرش أمية الفاتحة الماهدة لدولات العرب طريق الحضارة والاستقرار في الوطن الكبير، فما رأينا منها إلا كما يرى النظر الطائر من مدينة تتثاءب لهجعة الليل. وما هي إلا بقية من سواد قضيناها في فندق أمية حتى غدونا مصبحين مسرعين إلى سيارات الصحراء. . . وهكذا خرجنا من الفيحاء من غير أن نرى أفراحها ومباهجها لاسترداد حريتها واستقبال وفدها، ومن غير أن نحج إلى مناسك جهادها وأعلام تاريخها.

فلما جاوزنا أرباض المدينة، وابتدأت صفرة الصحراء تطغى على خضرة الزرع، أخذت أجمع نفسي وأرهف حسي لأستقبل المجهول الذي طالما تاقت الروح إلى اختراق غيوبه وهتك حجابه حتى ترى ما فيه من صور الصمت والهول والوحشة، ونستلهم سماءه بعض المعاني التي فتقت ألسنة آبائنا بهذه الألفاظ البدوية الواعية لما أتت به الحضارات والمترجمة عن خلجات النفسي ودقائق الأحاسيس.

وهنا ابتدأ شعور مفاجئ لا تاريخ له في قلبي، فحملق البصر وتفرس في ذلك الرحب ليرى ظلال الأجناد والأحداث التي قلب بها القدر أوضاع الأرض بأيدي محمد وأبي بكر وعمر، وطغيان الموجات العربية في فترات التاريخ، وولادة الجزيرة، واحتضان العراق والشام ومصر لما تلد؛ ثم انحسرت هذه النظرة الأولى وارتدت تستنشد اللسان قول لبيد:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع!

ثم احتدمت الهاجرة، والتهب الهواء، والمع السراب، وبرزت الصحراء الحمراء عارية تحت عين الشمس، ونحن فيها (كركْبٍ م الجَنّ في ِزي ناسٍ) فوق مركب (يملأ الآفاق صوتاً وصدى) فتصطف له أرواح الصحراء ترى، في عجب، سحر الحياة الجديدة!

وفي خطفة من خطفات الروح تلفت القلب صوب الجنوب فرأي المدينتين الغريقتين في أمواج الرمال تتحديان بصمتهما وعزلتهما ضجة الدنيا بالشهوات، وسعارها بالآفات، فحييتهما تحية القدوم على أقرب الحدود لهما، وأخذت الطمأنينة والسلام لنفسي منهما. . .

وفي مغرب الشمس وافينا (الرطبة) أول محطة عراقية، فكان أول صوت رن في آذاننا صوت الحاكي يغني أغاني من (دموع الحب) في مقهى هناك وقد التف حوله السمار في إنصات وطرب. فقلنا ها هي ذي مصر تسبقنا إلى العراق، فلا وحشة ولا اغتراب. ثم وجدنا من البشاشة لنا والأنس بنا ما إنسانا أننا في صحراء تبعد عن مصر بأربعين ساعة بالوسائل السريعة!

وما غشى الليل وحبك الظلام حتى واصلنا السير فكنا في الصحراء كسر في ضمير حليم! وجعلنا نسرح الطرف من خلال زجاج السيارة وقد غشيه الغبار فلا نرى غير نجوم وهنانة وأمانة من طول الوقوف على هذا الديموم.

وجاءت سكرة النوم فهمدت الأجساد ونام كل (على نفسه) في مجلسه، واستراحت المقل من التصويب والتصعيد في الأفق البعيد، وهكذا نمنا على دوي الرحى. . . ولم يوقظنا إلا وقوفها في (الرمادي) في الهزيع الأخير. . . فألممنا بها للتأشير على جوازات السفر. . . ثم وصل ما انقطع. . . اطراد السير والنوم حتى نرد بغداد مع الصباح. . .

(هذه هي بغداد أيها الركب؟) هكذا قال الصبح الوليد. . . فمسحت جفوني، وجعلت أتلفت عن شمالي ويمني لأرى مدخل دار السلام. . . المدينة التي احتضنت نتاج مكة ويثرب ودمشق وأثينا وروما والمدائن والإسكندرية، وزاوجت بين ألوانه، ومزجت ثقافاته حتى رأت الدنيا من تفاعلها عالماً جديداً غريباً. . .!

المدينة التي اضطلعت بالوصاية على ميراث الدين والعلم في زمن الجهل فربا في أيدي بنيها الممثلين لأجناس الناس وأديانهم وألوانهم، فجمعوا خلاصة ما في الإنسانية من تسامح وتلاقٍ على المعنى الموحد والرأي المجتمع.

المدينة التي كان الحج إليها واجباً على من كان يريد أن يتملى من دنيا القرون الوسطى في عظمة ملوكها وبطولة قوادها وفحولة علمائها وبلاغة صناع الكلام بها وضجة سوامرها بالإنشاد، ورنين الكؤوس، وضحك المجان، وعزف القيان. . .

ومهما يكن من عبث الزمان بها وتقلب الأحداث عليها، وتبدل المشاهد فيها، فان أطياف الماضي لا تزال تخايل أمام العيون التي تعرفت إليها في دنيا الكتب وصحائف الآثار. والذين يجدون في أنفسهم قدرة على ذكرى الأضواء والألوان لا يستطيعون أن يمروا على تراب كتراب بغداد، وقد ضم بين معادنه أشعة سقطت من أمجاد تاريخهم وعرش دينهم وعلمهم. . . دون أن يتفرسوا بين طياته، وتحن قلوبهم إلى الالتصاق بذراته!

وبعد. فإن ما رأيناه من حفاوة إخواننا العراقيين حكومة وشعبا بنا، وتقديرهم الجميل لجهود المصريين في المعاونة على تنفيذ سياسة الإنشاء والتعمير، وثقتهم فيهم حتى لقد أسلموا إليهم أعز شيء في الدولة وهو نفوس الناشئين، ووقوفهم على الدقيق والجليل من شؤون مصر. . . وامتلاء دورهم ونواديهم بأغاني مصر في المذياع والحاكي. . . كل أولئك مما يجعل الأمل يوشك أن يكون يقيناً بأن الشرق العربي قادم على عهد من وحدة المنزع ومجابهة الحياة في صفوف يجمعها نظام موحد وإن اختلفت أوضاعها في الميدان العام.

وإنه ليسرني إلى ما يقارب الفخر. . . أن تكون مهمتي في مصر والعراق من أمس المهمات بإعداد العقلية العامة في الناشئين لهذه الحال الموموقة والتوسيد لها. . . وأنعم بها من رسالة لمعلم!

(كوت العمارة)

عبد المنعم محمد خلاف