مجلة الرسالة/العدد 174/هكذا قال زرادشت
مجلة الرسالة/العدد 174/هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
مقدمة لابد منها
نشر نيتشه كتابه هذا في أربعة أجزاء بين سنتي 1883 و1885، فأشعل ثورة فكرية لا في ألمانيا فحسب، بل في سائر الأقطار الأوربية والعالم الجديد. ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع بنيتشه وفلسفته حتى مر زهاء ثلث قرن، فورد اسمه على بعض الأقلام عرضاً، وكل ما عرف عنه حينذاك في هذه البلاد هو أنه يدعو إلى مذهب تمجيد القوة والعمل على إيجاد الإنسان الأعلى بالقضاء على كل اعتقاد يشل الإرادة ويثبط الهمم في معترك الحياة.
وفي الواقع أن نيتشه الفيلسوف الألماني الأشهر قد دعا إلى هذا المذهب ليعارض الفلسفة الدينية التي أخذ بها الغرب عن المسيحية فأغرق في احتقار الحياة باسمها، وضل ضلالاً بعيداً في تفهمها، إذ اعتبرها دعوة عن الإعراض عن الزائلة إعراضاً تاماً، ورأى الكمال للإنسان في التقشف والزهد والترفع حتى عن العاطفة الجنسية التي يقوم الكون عليها.
ولاح لنيتشه أن هذه النظريات الاجتماعية منحدرة من الإيمان بالخالق وخلود الروح ما وراء المنظور فثار بعقله الجبار عليها وأنكرها جاحداً معها كل إيمان بغير الإنسان نفسه والحياة نفسها
ولو كان تسنى لنيتشة أن ينفذ إلى حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه لكان تجلى له إيماناً بالقوة التي ترفع الضعفاء، لا بالضعف الذي يسلط الأقوياء عليهم. ولو كان تسنى لنيتشه أن يستنير بما في الإسلام من مبادئ اجتماعية عليا لأدرك أنه باتباع مثل هذه المبادئ ينشأ الإنسان الأعلى لا بالالتصاق بالأرض دون الالتجاء إلى السماء.
ولقد يلوح للبعض أن لا فائدة من ترجمة نيتشه إلى العربية لأن فلسفته راسية على الجحود؛ أما نحن فنرى أن خلو المكتبة من هذا المؤلف الذي أثر التأثير الكبير في تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن الثامن عشر في العالم الغربي يعد نقصاً فيها وقصوراً علينا؛ إذ لم يتردد أي شعب في نقله إلى لغته. وفوق ذلك فإن ما يتجلى في فلسفة نيتشه من جحود لا نراه يتجه إلى الله الواحد الأحد الذي نعبده وبوحيه ندين، بل هو يتجه إلى الألوهية المزيفة التي ارتسمت في ذهنه من إدراكه الناقص لحقيقة الوحي كما يفهمه المؤمنون
فلنمر، إذن، بجحود نيتشه باسمين، ولنقف عند نظراته في الحياة مفكرين
إن في كتاب زرادشت من المبادئ الاجتماعية ما يجدر بنا الوقوف عنده، لأنه يتفق والقاعدة التي وضعها الإسلام للحياة بحديث للنبي (صلعم) على قول، أو بكلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر وهي:
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.)
لقد أدرك نيتشه الشق الأول من هذه الحكمة، وفاته الشق الأخير فلم يأمن الضلال والعثار؛ أما نحن أبناء هذا الشرق العربي فآخر هذه الحكمة راسخ في أعماق نفوسنا مما يجعل الشق الأول منها هداية لا ضلالاً
هذا وإننا سنورد في آخر الترجمة بعد بسط فلسفة نيتشه التحليل الذي تقتضيه لإظهار فاسدها وصحيحها، فنقف في وجه المادية التي تطغى موجتها على المدنية، ونثبت أن لا خير في حضارة يعمل الإنسان فيها لدنياه كأنه يعيش أبداً دون أن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً.
فليكس فارس
وسنوالي نشر الكتاب كاملاً ابتداء من العدد القادم