مجلة الرسالة/العدد 172/الجوائز الأدبية ومغزاها
مجلة الرسالة/العدد 172/الجوائز الأدبية ومغزاها
بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف
ستصبح الجوائز الأدبية يوماً ما، وإن بعد، موضوع رسالة أحد طلاب العلم يتقدم بها إلى إحدى الجامعات لينال إجازة (الدكتوراه) في الآداب. ولا ريب في أن مثل هذا الموضوع سيكون في نظر أدباء ذياك الجيل المقبل طريفاً غاية الطرافة، كما يجد أدباء هذا العصر متعة وأي متعة في حديث التقدير الأدبي الذي لقيه أدباء القرن التاسع عشر في أوربا وأمريكا. فقد كان تقدير الأدباء لذلك الجيل يجري على منوال خاص. ففي إنكلترا مثلاً منح الشاعر (لوريت) الذي نشأ راعياً مرعى خصيباً. ومنح الكثير من الأدباء ألقاباً بمناسبة إحياء أيام مولدهم أو نحوها من المناسبات. أما تقدير الأدباء في أمريكا فكان يجري على منوال آخر أساسه الانتفاع الضمني بالناحية المادية لمظهر الهبة أو المكافاة، إذ يذكر عن (ناتانيل هوثورن) أنه عين قنصلاً لأمريكا في ليفربول لمجرد الاعتراف بقدره الأدبي. وكذلك قلد (هرمن ملفيل) مثل هذه الوظيفة ليتمكن من التغلب على ضائقته المالية. وتابعت أمريكا السير في ذلك حتى عام 1904 حين عين الرئيس روزفلت (ادوين أرلنجتون روبنصن) في إدارة المكوس تشجيعاً له على النهوض بالشعر. جرى مثل ذلك على البعض في حين أن فطاحل الأدباء للعصر الفيكتوري مثلاً لم يصيبوا شيئاً من هذه الهبات، إلا أنهم استعاضوا عن ذلك بإدراك الحقيقة الراهنة التي كانت تتجلى لهم يوماً بعد يوم في زيادة طبقات القراء، فأوحت لهم ثقتهم بأنفسهم ألا يضعوا أمانيهم في غير المستقبل. وسرعان ما اطمأنت نفوسهم عندما صدر عام 1880 قرار يجعل حق الطبع والنشر ملكاً للمؤلف. وقضى هذا القرار على قرصنة الناشرين وسطو المغتصبين على أعمال الأدباء. وبطبيعة الحال كان تكرار نشر عمل أدبي يدر على صاحبه رزقاً جديداً. ولهذا لم يأبهوا للهبات والجوائز.
وأول الجوائز الأدبية التي ظهرت خلال القرن العشرين ولم تكن لها سمة التجارة هي (جوائز نوبل) في بلاد السويد و (جائزة جونكور) و (جائزة فمينا) في فرنسا، والجائزة (الهوثورنية) في إنكلترا، و (جائزة بولتزر) في أمريكا. وظهرت بعد ذلك جوائز أخرى في هذه البلاد وغيرها. ومهما تكن هذه الجوائز صادقة في التعبير عن عصر بذاته، أو عن أثرة الروح القومية، أو هي مسألة قاصرة على المؤلف دون غيره، فهي على أي حال جوائز اعتراف بالتفوق الأدبي.
وليس من شك في أن جوائز نوبل خلدت ذكر الفرد برنهارد نوبل ذلك المخترع السويدي الذي تمكن من اكتشاف الديناميت فيما بين سنة 1865 وسنة 1866. وكأنما أراد أن يوازن بين خطر ما اخترعه بعمل آخر فأثبت في وصيته عدداً من الهبات ظنها مؤدية إلى القضاء على استعمال الديناميت. ولعل ذكرى السنين العجاف من حياته، التي أضناه فيها الكفاح بعدما زار الولايات المتحدة عام 1850 ليعمل في خدمة المخترع الاسكندنافي الأسبق جون إريكسون أوحت إليه بوجوب تخصيص إعانات للعلماء كي يتيسر لهم متابعة أبحاثهم ووجوب مساعدتهم حين الإخفاق. فلما واتاه الحظ حقق ذلك في وصيته إذ أثبت فيها قبل وفاته أن فوائد ما يتركه من رأس مال يجب أن تقسم سنوياً إلى خمس جوائز، تبقى إحداها وقفاً على علم الطبيعة، وأخرى وقفاً على الكيمياء، وواحدة للطب أو علم التحليل النفساني، ورابعة تخص مشكلة السلام، وخامسة ترصد للأدب. وتمنح جائزة الأدب سنوياً كما هو نص الوصية، (إلى الشخص الذي أنتج في عالم الأدب أحسن كتاب حوى نزعات مثالية). ووكل أمر اختيار ذلك إلى المجمع السويدي. والحق أن هذه الجائزة التي تتراوح بين اثني عشر ألفاً وخمسة عشر ألف جنيه تهيئ لأي أديب حياة راضية مرضية.
أما جائزة جونكور فلا زالت على عهدها منذ نشأتها في سنة 1903 أشهى ثمرة يتهافت عليها الأدباء في فرنسا. وهذه تمنح دون استثناء للأدباء الناشئين. وهي أرفع منزلة من مقعد ثابت في المجمع الفرنسي. وتعد جائزة جونكور الدرجة الأولى من سلم العلياء الأدبي. وهنالك جائزة فرنسية أخرى لها صداها في خارج البلاد الفرنسية هي جائزة فمينا. وكانت (مجلة فمينا) قد تآزرت عام 1904 مع (مجلة لافي أوروز) على منح جائزة قدرها خمسة آلاف فرنك لأحسن رواية توضع باللغة الفرنسية في نظر لجنة الكاتبات الفرنسيات. وأنشأت هذه اللجنة النسائية عام 1919 جائزة شبيهة بتلك وقفتها على المؤلفين الإنكليز لما بين البلدين من صداقة. ثم أنشأن عام 1932 (جائزة فمينا الأمريكية) لتكون قاصرة على الأدباء الأمريكيين.
وأهم الجوائز الأدبية التي تمنح في بريطانيا العظمى هي أولاً: الجوائز التذكارية لجيمس تيب بلاك التي تمنح في ربيع كل عام من أجل تاريخ حياة شخص عظيم أو من أجل رواية طابعها بريطاني. وعلى أستاذ آداب اللغة الإنكليزية في جامعة أدنبرج أن يختار أحسن الأعمال. وثانية الجوائز (جائزة هوثرن) التي تمنح لأحسن قصة يضعها كاتب إنكليزي دون الحادية والأربعين من عمره. أما جوائز بولتزر فقاصرة على الكتاب الأمريكيين من ذوي المواهب الفذة، على أن تظهر هذه المواهب في أعمالهم الأدبية.
ولا ريب في أن جائزة نوبل اليوم هي أعظم الجوائز في عالم الأدب إطلاقاً، إذ هي لا تؤثر قومية على أخرى. ثم إنه لا يحكم بها من أجل كتاب مفرد، بل يجري الحكم بها بعد التثبيت من صلاحية شطر من مؤلفات أديب بذاته، وهي لهذا السبب غالباً ما تمنح في خريف حياة الكاتب الأدبية وبعد أن يستكمل نضوجه الأدبي. وتشبه جائزة نوبل في ذلك اعتراف الشهود على ميت بطيبته وحسن عمله في الحياة، ولعل مستر سنكلر لويس أحد الشواذ الذين يثبتون صحة هذه القاعدة، فقد أنتج كثيراً بعد ما أحرز جائزة نوبل.
أما الجوائز الأخرى التي تقل عن جائزة نوبل شأناً، وقد ذكرت من قبل، فهي كثيراً ما كانت متحزبة في قصدها متأثرة بروح العصر في اختيارها. ثم إن الضيق المالي الذي شمل العالم في السنين الأخيرة لم يدع لواحدة من هذه الجوائز أن تصل إلى جزء من أربعين جزءاً من جائزة نوبل، وإن كانت تطبع صاحبها بطابع الجودة وتدمغه بخاتم الذهب الإبريز في نظر القارئ والناشر على السواء. ومن ثم يحرز المؤلف مكانة بعد أن يكون مهملاً الإهمال كله. والحق أن الجائزة أياً كانت تدق الطبول لصاحبها فيتنبه الناس إلى أن لهذا الرجل كتاباً لا يمكن التغاضي عن قراءته. وهذا مثلاً هنري وليمصن لم يكن معروفاً إلا لنفر قليل، فما هو إلا أن منح جائزة هوثورين من أجل كتابه (تاركا، كلبة الصيد) حتى تهافت الناس على قراءة كتابه وذاع اسمه في كل محيط. وعندما قضى المحكمون بمنح جائزة جونكور لأندريه مارلو لكتابة حظ شخص ' لفتوا العالم إلى واحد من أدباء الشباب في فرنسا الذين يعملون ويجاهدون للمثل العليا. وكانت جوزفينا جونصن قد باعت من كتابها (الآن في نوفمبر) مدى أحد عشر شهراً من بدء ظهوره 10 آلاف نسخة. وما إن منحت جائزة بولتزر من أجله حتى وصلها بين عشية وضحاها 9 آلاف طلب ممن يريدون الاستمتاع بهذا الكتاب. وخلاصة القول إن هذه الجوائز القومية تحرض الناس على القراءة وتدفع الأدباء إلى تحسين الإنتاج.
ثم هنالك معركة حامية أبداً مستعرة دائماً في الخفاء بين الكتب، وليس لدى الذين لم يندمجوا بعد في تجارة الكتب أي فكرة عنها، فالتنافس بين المؤلفين بلغ شدته القصوى، وهو في هذه الشدة قاس عظيم القسوة صلف قوي، وليس للتسامح أو اللين أو الهوادة إليه سبيل؛ ولعل هذه الحرب اليوم أشد استعاراً مما كانت عليه في سابق الأيام.
ومهما تكن الحال فستبقى الديموقراطية عرجاء حتى يكون من واجبات الدولة تمرين الجماهير على كيفية القراءة المنتجة. وأول الخطوات في ذلك أن تبين للناس أحسن وأثمن وأنفع الكتب، ولكن إلى أن نصل إلى مثل هذا العهد ستبقى أسواق الكتب مملوءة بما يظهره الناشرون في كل يوم، أولئك الناشرون المنتشرون في كل بلاد الشرق والغرب، وستبقى جمهرة القراء في حيرة عندما يعمدون إلى انتخاب كتب للقراءة، ويكفي دليلاً على هذا حال الولايات المتحدة، فقد أصدر الناشرون فيها برغم كساد سوق الكتب منذ عام 1930 قدرا لا يقل عن 5000 كتاب جديد في كل سنة من سني الأزمة، ومع ذلك فالكتب التي تقرأ محدودة العدد.
ولهذا فالحاجة ماسة إلى حسن الانتخابات وصحة التأكيد. وليس أجدر بحل هذا المشكل من الجوائز الأدبية. وليتنا نحن الناطقين بلغة الضاد نأخذ بهذه السنة.
إبراهيم إبراهيم يوسف
ملخص عن: