مجلة الرسالة/العدد 171/كل شيء بخير سيدتي المركيزة!
مجلة الرسالة/العدد 171/كل شيء بخير سيدتي المركيزة!
للأستاذ عبد الحليم الجندي
في فاتحة الصيف جلسنا عند سفح الهرم نستمع إلى آخر أناشيد باريس عاصمة فرنسا، التي يقول عنها أبناؤها إن كل شيء فيها ينتهي بأغنية، والتي يُزلفها (كوت) إلى الهاوية في سرعة الطائرات التي يبعث بها إلى مدريد، والتي يسوقها (توريز دجوهر) إلى جهنم الحمراء: أي إلى الشيوعية، فأدار لنا (الأستاذ) تلك الأنشودة البديعة الواردة أخيراً:
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
استمعنا، واستمعنا! ثم نسينا - طبعاً - ورجعنا؛ حتى إذا كنت في أوائل الشهر الماضي برأس البر طفرت تلك الأغنية إلى ذهني وإلى فمي فطفقت أرددها، في المساء وفي الصباح، وعلى الشط وفي السامر.
نحن الآن في مجلس خاص، في الكازينو، على قيد أمتار من اللسان، حيث العذب الفرات والملح الأجاج يلتقيان؛ وهؤلاء أكبر الأساتذة في أقدم جامعة في العالم، وفي أحدث جامعة في العالم، أخذوا في خلوتهم البديعة بأطراف الأحاديث، وسالت تلك القرائح السامية بخواطر عالية في الحضارة والاجتماع.
الأستاذ الكبير - في جامعتنا المصرية - يعالج ترجمة فصحى لكلمة (المودة) ويعرض على الفقيهين الكبيرين كلمة بديعة بارعة، فتأخذهما النشوة ويطربان؛ والأستاذ يقص علينا حديث رحلته الأخيرة إلى الشام، تلك الأمة المجاهدة في الحرية، المجاهدة في الأدب، المجاهدة في الاقتصاد. . . وبنوها الذين ضربوا لنا الأمثال في كل ضرب! الذين حدثوه عن مصر بما لا يعرفه أبناء مصر!. . . لقد كان أروع ما راعه في ذلك القطر الشقيق أنه لم يجد فوارق بين الطبقات؛ وعلة ذلك عنده أن العروبة أعمق أصولاً عند إخواننا، وأن العروبة معناها النخوة والمساواة؛ وعلته أيضاً أن التفاوت في المرتبات ليس هائلاً؛ وأخيراً أن ليس ثمة أسرات تضرب في مظاهر الأبهة كأنها تضرب برَوقين في السماء. . .
أما هنا - وانحدر الحديث إلى من هنا. قال قائل: هنا تجد ستة عشر مليوناً ولا تج عشر رجلاً ممن ينفذون إلى الأعماق! قلت: إني أطلق على حضارتنا الحالية: (حضارة السندوتش)؛ فالناس يمرون بمحال (السندوتش) ليطعموا طعامهم على وجه الاستعجال، كما يعبر رجال القانون، ولا يضيرهم بعد ذلك أن تتأذى معداتهم وأعصابهم ما داموا قد تناولوا وجبتهم بحال من الأحوال. . .! ولقد طغت تلك المحال على المطعم الأصيل فكادت تجليه عن مكانه. أنظر حيثما شئت تجد أنوارا لامعة في الأرض تكاد تباهي كواكب السماء! إنها ليست أنوار معهد ولا مستشفى، ولكنها أنوار السينما والسندوتش. وكلما ذهبت الفتاة إلى الطبيب أو شكا الطالب إلى أستاذه رجاهما الطبيب أو الأستاذ أن يقلعا، أو يقللا، من ارتياد السينما ومن ازدراد السندوتش. . .
وكما قضى السندوتش على المطعم تكاد تقضي المذكرات في الجامعة على المراجع، والخليلات على الحليلات، والمسكنات السياسية على الصلاح العميق، وشهوات الساعة على واجب التاريخ. . . والأدب الرخيص على الأدب العالي. . . والمجلات الخفيفة على الكتب. . . ولنفس الأسباب. . وفي عبارة موجزة: لكأن هذا الجيل ليس من مصر! وكأنما هو يقضى منها وطرأ، أو كأنه فيها عابر سبيل. . . .
وتطرق الحديث - حتما - إلى البلاج، إلى الماء، وإلى فنون الماء، وما أدراك ما فنون الماء: العزاء، والإغراء، واستهتار الرجال وتبذل النساء! وخرج كل منا من الحديث غضبان أسفاً.
ومع ذلك فالدولاب يسير. . . وظواهر الأشياء لا تنبئ إلا عن خير الأشياء. . .
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
وانفرط العقد، وانصرم الليل، وأرسلت الشمس شعاعها في الصباح أصفر وهاجاً نافذاً في أعماق اليمِّ كأنه سهم ذهبي بديع يتوهج في طبقات الأفق، والتقى الصديقان بعد عشرة أعوام وبعد رحلة طويلة في أوربا، وبعد أن (كانا يظنان كل الظن أنْ لا تلاقيا). . . وانطلقا على الشاطئ.
قال الذي رجع من أوربا: أرأيت أني وجدت في مصر ما لم أجد في أوربا؟ قال له صاحبه: أنسيت أن إسماعيل قد جعلها قطعة من أوربا؟ ومنذ ستين عاماً! قال إنها كلمة تعدل كل ديون إسماعيل، فهو كما أفقر الأمة في أموالها أفقرها بهذا الذي ظن أنه صيّرها إليه. . . إنك لا ترى على هذا الشاطئ إلا أقبح القبيح الذي تنكره أوربا. . لكأن الناس يا صديقي قد جاءوا إليه ليتعروا فيه لا ليصطافوا عنده. . . .
وانطلقا حتى بلغا مجمع البحرين قال: نظر إلى النيل يقذف بنفسه في صميم البحر لأبيض؛ إنه ينطلق كالقذيفة في البحر. . وترى ماءه الأحمر أو الأسمر، بل تستطيع أن تشربه عذباً على بعد أميال من الشاطئ؛ ولكنك بعد أميال أخرى لا تراه؛ ويفنى اللون الأسمر في اللون الأزرق، والماء العذب في الماء الملح؛ وهكذا نحن نقذف بأنفسنا في ذلك الخضم الأوربي ولكن مع فارق ضخم هو أن الماء يسع الماء، أما الحضارة الأخرى فإنها تلفظنا. . .
وانطلقنا. . . . فهما الآن عند الكازينو: حيث الفتيات يواعدن الفتيان جهرة. . .! لكأنه يوم الزينة، وكأن الناس قد حُشروا ضحى. .! لا ليشهدوا سحرة فرعون ولا آية موسى، ولكن ليشهدوا السحر الحرام. . فيرى الإناث الرجال المتأنثين، ويرى الرجال النساء المسترجلات. . . . وإلا فلماذا لا يحتشد ذلك الجمع على الشاطئ الذي يبدأ من بور سعيد وينتهي عند البرلس بمصيف آخر؟ لماذا لا يحتشد ذلك الجمع إلا أمام الكازينو؟ ارجع البصر يا صديقي إلى ذلك الحوت المستلقي على الشاطئ! ثم ارجع البصر كرتين، هنالك، تلك الفتاة التي وصفها النقيب (سانت أوبان) في مرافعته عن فكتور مرجريت عندما قدموه للمحاكمة من جراء (لا جارسون) - تلك الرواية التي صارت بعد خمسة عشر عاماً من أعف الروايات!! - قال سنت أوبان (. . أين تلك البطة المسربلة بالبياض وهي تقسم يمين الطاعة لزوجها في المعبد من هذه الفتاة العارية المتمددة على رمال الشاطئ تعرض جسدها على الطبيعة تستقبل أشعة الشمس حقاً ولكنها تستقبل أيضاً تلك الأشعة النارية المسلطة عليها من عيون الناظرين. . .)
وانطلقا نحو علم أخضر يتراءى على البعد. قال أحدهما إنك ترهقني عسرا إذا سرت بي إلى حيث هذا العلم؛ إنني أراه فوق الشاطئ الذي نحن عليه كطربوش الميت على الآلة الحدباء التي تحمله؛ وهو من مجد هذا الشعب المنتشر على هذا الشاطئ كالنشيد الذي أجازوه مائة جنيه لأنه خالٍ من المعنى، خالٍ من الإحساس، ومع ذلك جعلوه نشيدنا القومي!!. . . إنني سمعت الأنشودة التي غنيتها لك في المرقص، ولكن المرقص يحمارُّ خجلاً، ويتفصد جبينه عرقاً، إذا وقف أزواجه أمام هذا الشاطئ. . . إن الشاب يتعلم ليتعطل، والعامل يعمل ليجوع، والاقتصاد المصري يزخر كتيار النيل ليصب في البحر الذي يجمعنا بأوربا. . . أفهذا الشباب الناهض، بل الرابض، هو الذي سيبني الأسطول البحري، والأسطول الجوي، ويقطع الصحراء راجلاً إلى الحدود. . .!! ومع هذا فقد شرع له أساتذة الجيل أسوأ شرعة عندما أعطوا جائزة لذلك الباحث الذي شرط على رجل القرن العشرين أن يكون (وصوليا) لكي ينجح. . .!! فإذا سألت عن هؤلاء الأساتذة، فاعلم أن منهم صاحب (حياة محمد)، وأن منهم أيضاً تلميذ محمد عبده!!
ومع ذلك أيضاً. . . فكل شيء بخير.
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة، المتاع سرق، والقصر يحترق، وكل شيء بخير. . .
وكنا كلما بعدنا عن الكازينو هدأ الموج وسكن البحر؛ قلت: ما للموج لا يرغي ولا يزبد إلا حيث هؤلاء الناس يجتمعون؟ فأجاب صديقي: (إنني سمعت إحداهن تقول لأختها: إن الموج يتدافع نحوها كما يتدافع الهوى أو الهواء، تارة في عنف، وتارة على استحياء. فردت عليها الفاجرة تقول: اسمعي! إنني سأذيع لك السر الذي بيني وبينه: (إنه يتظاهر أمام الناس بأنه يلاطم الشط ولكنه في الحقيقة يقبل قدمي. . وهأنذي أركض بهما في ذلك المغتسل البارد. . وأسلمهما للقبل).
وكنا قد دنونا من السارية، ثم وقفنا تحت العلم، فيا لتوفيق الله سبحانه! إنه علم فرق الجوالة من شباب الجامعة الأشداء جاءوا يضربون خيامهم على هذا الشاطئ ويضربون لفتيانه المثل العالي. . وجاءوا ليبعثوا فينا الأمل الذي قضى أو كاد.
ورجعنا في العاشرة صباحاً، وكان الراديو يجلجل في الآفاق جميعها بآيات الله العلي! قلت يا صديقي بل هنا الأمل.
فلنراجع البرنامج!
عبد الحليم الجندي المحامي