مجلة الرسالة/العدد 170/مشرقيات
مجلة الرسالة/العدد 170/مشرقيات
في الأدب العربي الحديث
للأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي
الأستاذ بجامعة ليننجراد
تمهيد: امتاز الأستاذ أغناطيوس كراتشقويفسكي صاحب هذا البحث بدقته وسعة مداركه، وتساميه عن المواضيع المطروقة؛ وهو لا يفرق مطلقاً بين الآداب العربية وبين الأمة التي أنتجت هذه الآداب.
وقد لا أعرف بين علماء المشرقيات في أوربا من توفر على دراسة الأدب العربي الحديث غيره وغير البروفيسور جب صاحب الدراسات الوافية في القصة المصرية والأدباء المعاصرين، والأستاذ كامفماير الألماني مؤلف كتاب (قادة الأدب العربي الحديث)، والمستشرق السويسري الدكتور ويدمار الذي يذيع دراسات مستقلة عن الأدباء والشعراء المعاصرين، كمحمود تيمور والزهاوي، والمستشرق نيفل باربور الذي كتب دراسة وافية عن المنفلوطي وعن تاريخ المسرح المصري، وكذلك المرحوم مارتين هارتمان المتوفى لأعوام قلائل، فإليه يعود الفضل في تنبيه علماء أوربا إلى الأدب العربي الحديث.
وقد زار العلامة كراتشقويفسكي مصر وسوريا وفلسطين عام 1908، وانكب في خلال إقامته بهذه الأقطار على دراسة آدابها الحديثة، ومكث بها فترة طويلة بمدرسة اليسوعيين في بيروت. وظهرت نتيجة زيارته ودراسته في بحث ممتع قرأته له منذ أعوام ناشد فيه الأدباء المعاصرين أن يدونوا تراجمهم ويدرسوا آثارهم.
وللأستاذ أيضاً يعود الفضل في تعريفنا بالعالم المصري المرحوم الشيخ محمد عياد الطنطاوي المدفون في مدينة بطرسبرج (لينجراد)، فقد نزح هذا العالم الأزهري منذ نحو قرن تقريباً إلى روسيا ليدرس الأدب العربي في جامعاتها، ووافاه الأجل وهو هناك فدفن في الأراضي الروسية، ويوجد رسم فوتوغرافي لقبره في الخزانة التيمورية، وقد نقشت بعض عبارات بالعربية على شاهد القبر هذا المعنى.
وقد ظهر أول بحث علمي للأستاذ كراتشقويفسكي عن (شاعرية أبي العتاهية) وضعه ع 1906، فرسالة (خلافة المهتدي) التي تقدم بها إلى الجامعة للحصول على درجة علمية، فكتاب (المتنبي وأبو العلاء المعري) وهو بحث ممتع دقيق فيما كان للمتنبي من التأثير في فلسفة أبي العلاء وشعره وبالأخص فلسفة التشاؤم الغالبة في شعر فيلسوف المعرة وفي آرائه الدينية، ودراسة عن شعر الشاعر الدمشقي (أبي الفرج الوأواء)، وترجمة ديوانه، وكتاب (البديع لابن المعتز)، ودراسة عن (الرواية التاريخية في الآداب العربية العصرية)، ثم هذا البحث الممتع الذي نشره في الملحق الأول من دائرة المعارف الإسلامية.
ومما يجدر بنا ذكره أن العلامة كراتشقويفسكي أشرف على ترجمة كتاب (الأيام) لطه حسين، و (عودة الروح) لتوفيق الحكيم إلى الروسية، وهو يشغل الآن كرسي أستاذ الأدب العربي بجامعة لينجراد، تعاونه في مهمته سيدة فلسطينية هي كلثوم فاسيلفا التي وقفت جهودها على نقل الآثار النفسية في الأدب العربي إلى الروسية.
(المترجم)
1 - لمحة عامة - عوامل التقدم - العصور
ليس من اليسير على الباحث المحقق أن يعثر على بعض آثار النهضة الأدبية في العصور السابقة للقرن التاسع عشر. فإنها كانت مجرد مظاهر فردية الغرض منها إحياء الفنون اللغوية القديمة، دون محاولة التجديد في الأدب؛ وكان من جراء الروابط المتينة التي نشأت بين الأقليات المسيحية في سوريا ودوائر روما واستامبول أن بزغت مدرسة أدبية خاصة، يتصدرها مطران حلب الماروني السيد جرمانوس فرحات (1670 - 1732)؛ إلا أن العرب لم يتأثروا بالتيارات الفكرية في أوربا إلا بعد الحملة الفرنسية (1798 - 1801). فإذا أردنا أن نبين مظاهر الثقافة الأوربية التي تركت أثراً أعمق من غيرها في التفكير العربي، ألفيناها في الوصف الذي أورده الجبرتي لأول مطبعة حروف، ورأيناه في أول مكتبة نظمت على النمط الأوربي في دار الشيخ حسن العطار (1766 - 1834) الذي أصبح فيما بعد شيخ الجامع الأزهر. وإن في هذين المثلين فكرة عن بعض العوامل التي قامت بدور هام في تكوين الأدب العربي الحديث، وقد أنشئت في ذلك الحين دور جديدة للعلم على الطراز الأوربي، فأنشأ محمد علي الكبير مدارس لتعليم الطب والعلوم الفنية بنوع خاص، لكنها خصصت أيضاً لتدريس فن الترجمة. أما في سوريا فقد عملت الرسالات الأوربية والأمريكية العديدة عملاً مجدياً في هذا السبيل، فأسست مدارس منوعة، وراح الأهلون ينسجون على منوالها في إنشاء دور العلم، فكانت مدرسة بطرس البستاني (1819 - 1883) أولى المدارس الوطنية. وفي خلال القرن التاسع عشر أدخلت على تلك المدارس تعديلات عدة، فأصبح للبلاد العربية الآن مجموعة رائعة من المعاهد العلمية الكبرى التي أحدثت أثراً مباشراً أو غير مباشر في تقدم الأدب الحديث. وإنا نذكر منها الجامعة الأمريكية، وجامعة القديس يوسف ببيروت، والجامعة المصرية بالقاهرة. ثم انتعشت حركة البعثات العلمية فأكملت ما قامت به المدارس من الخدمات. وهناك وصف طريف لأولى البعثات التي أرسلها محمد علي الكبير، وهذا الوصف الشائق بقلم أحد المبعوثين، رفاعة بك الطهطاوي (1800 - 1873) الذي أصبح فيما بعد مترجماً مجتهداً، واحتل مكانته الأدبية كزعيم من زعماء الاتجاه الجديد. وقد اتخذت تلك البعثات صبغة منظمة ابتداء من مستهل القرن العشرين. ومن السهل استجلاء أهميتها في تكوين الثقافة العربية إذا اطلعنا على الرسائل التي قدمها شباب العلماء العرب في جل السنوات (خصوصاً إلى الجامعات الفرنسية). وفيما عدا الطباعة التي كانت معروفة في سوريا منذ فجر القرن الثامن عشر، دون أن يكون لها أثر كبير، فقد أدخلت الحملة الفرنسية إلى مصر عنصراً جديداً وهو الصحافة الدورية. لكن أثرها ظل في حيز ضيق إلى أن كانت سنة 1828 حين أعاد تنظيمها محمد علي الكبير. وكان لها الفضل العميم في تقدم الأدب الحديث، إذ وجهت بعض الأنواع الأدبية وجهات جديدة كما ساعدت على ظهور أنواع أخرى. وكان الإقبال المتواصل على الترجمة مرتبطاً تمام الارتباط بالطباعة. واستهلت الحركة بترجمة الكتب العلمية ثم شرع في نقل الكتب الأدبية البحتة. وكما أن بعض الكتب القديمة كمؤلفات ابن المقفع والجاحظ كان من الصعب نقلها إلى اللغات الأخرى لولا مترجمو العصر العباسي، فإن الأدب العربي الحديث كان مستحيل النشوء لولا مترجمو القرن التاسع عشر. وللمرة الأولى في التاريخ أصبح الأدب القديم في متناول القراء بفضل الطباعة. وقد شرع في خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة في دراسة هذا الأدب دراسة صحيحة مؤسسة على القواعد الحديثة. وقد قامت هذه الحركة على أساس أنه لا يجوز نبذ الأدب القديم كله لتشييد أدب عربي حديث، بل يتعين الاحتفاظ بجزء كبير من الأدب القديم وإعادة تنظيمه. وقد تأسست دور كتب على النمط الأوربي فسهلت تلك الدراسات المنظمة وساعدت على نشر الكتب القديمة. وإلى جانب الصحافة الدورية، قامت المنتديات والجماعات العلمية والسياسية والأدبية تدريجياً منذ منتصف القرن الماضي فأحدثت أثراً عميقاً في الجو الأدبي. بل إن النثر الخطابي نشأ وتدرج في تلك المنتديات. أما المسرح فلم يكن له حظ يذكر، فقد ظهرت بواكيره في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بفضل جهود بعض الهواة، لكنه لم يعتبر مظهراً جدياً من مظاهر الفن إلا في القرن العشرين إذ برزت طائفة من الممثلين الأكفاء يرشدهم فريق من النقدة المسرحيين.
وللهجرة أهمية خاصة ترجع إلى تقلبات مصير العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك لاعتبارات متنوعة من سياسية واقتصادية. ولقد سارت الهجرة جنباً لجنب مع الأدب العربي الحديث منذ فجره حتى اليوم، سارت منذ غداة الحملة الفرنسية إذ نزحت بعض الأسر عن مصر وأقامت في فرنسا، كميخائيل صباغ (1784 - 1816) والياس بقطر (1784 - 1821). وكثير من أولئك المهاجرين كانوا أساتذة الآداب العربية في جامعات أوربا كالشيخ الطنطاوي المدفون ببطرسبرج (1810 - 1861) وكان جل اهتمامهم موجهاً إلى إحياء الأدب القديم، إذ أن الأدب العربي الحديث كان في مستهل نهضته فلم يثير اهتمام المستعمرين وعلماء المشرقيات. لكن الحالة تطورت بعد سنة 1870 إذ تدفق سيل المهاجرين تدفقاً كبيراً (خصوصاً النازحين من سوريا) لا إلى أوربا فحسب، بل إلى أمريكا الشمالية والجنوبية. وكان لهجرة هذه العناصر أهمية عظمى في تكوين الأدب العربي الحديث، إذ ظهر جيل من الكتاب بدءوا دورهم على مسرح الأدب وإن لم يتموه إلى الآن.
استناداً إلى هذه العوامل يمكن القول بأن تاريخ الأدب العربي الحديث ليس إلا تاريخ النفوذ الأوربي، فقد اتجه هذا الأدب اتجاهين رئيسيين: النضال بين الأفكار القديمة وبين الأفكار الحديثة، والمشكلات التي نشأت من طابع الفن الأدبي الحديث. وقد اتخذ هذا النضال أشكالاً متباينة في المضمار الأدبي، فشوهدت في كل مرحلة تقلبات تختلف عن الأخرى. وأهم الميول التي ظهرت بجلاء هي أولاً: الاحتجاج على كل جديد ومحاولة البقاء في دائرة القديم، وإحياء الأساليب القديمة. ثانياً: السير سيراً سطحياً على منوال الأوربيين وتقليد أفكارهم، واحتقار الماضي العربي بأسره. ثالثاً: محاولة صبغ الأصول الصحيحة للأدب العربي بأشكال جديدة مبتكرة من أساسها، مع اتخاذ الطرق الأوربية والثقافة الغربية وسيلة للوصول إلى هذا الغرض. ولا تزال هذه الميول قائمة حتى الآن جنباً لجنب.
ويلاحظ أن الفريق الأخير هو الذي فاز بأوفى عدد من الأنصار. وبديهي أن مصير العرب السياسي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أثر تأثيراً كبيراً في التيار الأدبي. فتاريخ هذا العصر هو تاريخ الانفصال تدريجياً عن تركيا (سواء من الوجهة السياسية أو الأدبية) ونشأة الروح القومية العربية التي اجتازت مراحل نموها بخطوات تختلف سرعتها باختلاف البلاد. وقد شاهدنا في الأيام الأخيرة أن تقدم الروح القومية أدى إلى نزعة فردية عند بعض الأمم العربية. أما في ميدان الأدب فإن تلك النزعة تنمو وتقوى في مصر حيث يدعو بعض المفكرين إلى تمصير اللغة وإحياء الأدب القومي.
إن من الصعب تقسيم الأدب العربي في القرن التاسع عشر إلى عصور تميزه تمييزاً واضحاً، فقد كان الإنتاج الأدبي في حد ذاته إلى عام 1880 تافهاً نوعاً، بل إن العرب أنفسهم كانوا لا يذكرون أسماء كتابهم، ذلك لأن مؤلفات هؤلاء الكتاب لا قيمة لها إلا في نظر معاصريهم، فهي مرآة لأفكار عصرهم ومشكلاته، وأهميتها اليوم لا تعدو أن تكون تاريخية بحتة. بل هو عصر بحث واستطلاع أكثر منه عصر إنشاء أدبي.
ويمكن تحديد هذا العصر بخمس قرن، أي من سنة 1880 إلى 1890، ثم من سنة 1890 إلى سنة 1900، وهي الفترة التي اختفى فيها من المضمار الجيل الأول لناشري النور الجديد ودعاة الأدب الغربي، وكانت كل من سورية ومصر تعملان وقتئذ مستقلتين، فالتفتت مصر إلى المضمار بنوع خاص، أما سوريا فوجهت اهتمامها إلى ميدان اللغة والأدب، وبرز في كل من البلدين رجال عظماء كبطرس البستاني في سوريا، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك (1824 - 1863)، وعبد الله فكري (1834 - 1890) بمصر، وفي البلاد غير العربية امتاز العصر بظهور بعض الكتاب النوابغ كأحمد فارس الشدياق (1804 - 1887).
في هذه الفترة أنشئت الصحافة الدورية وتكون الأسلوب الصحفي، وشهدت السنوات العشر المتخللة بين سنة 1860 و 1870 تغيرات خطيرة في مركز الأدب العربي الحديث، فحوادث دمشق في سنة 1860، واستقلال لبنان استقلالاً داخلياً من جهة، وافتتاح قنال السويس (1869)، ثم نشوب الثورة العرابية (1882) أدت إلى احتلال القطر المصري من جهة أخرى؛ كل هذه العوامل ساهمت في تعديل الطرق التي سار عليها الأدب. ولقد اتسع نطاق الهجرة السورية إلى مصر اتساعاً كبيراً في الفترة من سنة 1890 إلى سنة 1900، فانتقلت إلى أيدي السوريين جميع الصحف الإصلاحية القوية النفوذ.
(يتبع)
ترجمة محمد أمين حسونة