مجلة الرسالة/العدد 17/في الأدب الشرقي
مجلة الرسالة/العدد 17/في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
احمد حكمت بك
كان الأدب التركي القديم يرسف في اغلال الجمود ويقطع مراحل النهضة بتأخر وبطئ. فظهر أحمد حكمت بك ورفاقه أمثال توفيق فكرت، خالد ضيا، جناب شهاب الدين وغيرهم ممن احيوا الأدب التركي القديم، وكسروا قيود التعصب، وأغلال البطء، وأظهروا للناس تنائج أفكارهم وثمرات عقولهم التي اقتبسوها من المغرب، وألبسوا الأدب ثوبا جديدا بنشرهم المقالات الأدبية الطريفة ونظمهم القطع الشعرية الظريفة. ولكن اضطر هؤلاء أن يقفوا حينا بنهضتهم، ويخفضوا قليلا من أصواتهم، أمام جور السلطان عبد الحميد وظلمه. وما ظهرت شمس الدستور على يد مدحت باشا حتى قام أصحابنا بنهضتهم وشرعوا يتمون مشروعهم.
يعتمد أحمد حكمت بك في كتابته على الحس أكثر من الخيال، أسلوبه رقيق، ومعانيه سهله، وأفكاره متينة. أكثر كتبه حافلة بالقصص والحكايات. يسعى حين الكتابة لإظهار حقيقة ما يكتب، وهو على عكس رفيقه خالد ضيا، قليل التكلف والصنعة. ولقد صور الأدب الغربي بصورة توافق لغته وبيئته. وله مؤلفات عديدة ومن أهم آثاره كتاب (خارستان وكلستان).
وهذه قطعة من منثوره المثبوت بين كتبه القيمة، فان فقدت جمال الأسلوب وروعة الصنعة فجمال المعنى محفوظ على ما أظن:
ساعةَ خَلْقَ الكَونَ
كانت جلبة وقرقعة في ديجور الظلام الخانق، وكان انقلاب وانفجار وسط الغيوم السوداء المزبدة الحواشي تحيط بذلك الفضاء الواسع. وكانت الرياح تعصف، والأحجار تسيل. واللهب تنشر حرارتها وتذيب الصخر والجلمود. وكانت الجبال تنقلب والبحار تفرغ وتمتلئ، والغيوم تنفجر وتنشق فتولد المئات والألوف من النجوم التي تسبح في الفضاء كما تسبح اليراعات في الظلمات الحالكة، تارة تذوب. وأخرى تتصادم ثم تنعزل في ناحية من الفضاء اللانهائي. كانت الأمواه تعلو وتنخفض، تغلى وتزبد حول تلك اللهب المتعالية والنيران المتأججة.
والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .
وكانت طوائف الملائكة المكلفة بتنظيم الأرض تطير وتنتقل من طرف إلى آخر، منها من تمسك المياه المتجمدة من حوافيها، وتدفع الجبال بأرجلها، وترتب النجوم بأيديها، وتعيد الأنهار إلى فراشها، ومنها من كانت تجر (الدب الأكبر) من ذنبه، وتقود (برج الحمل) من قرنه.
والكائنات تدور. . . . نعم كانت تدور. . . .
بين تلك الغيوم والنجوم والدخان واللهيب كان ملك ضحى بنفسه يطير بسرعة البرق خلف كوكب جميل مضيء، خلف (الزهرة) الشاردة. وبينما يعيدها إلى محورها الأول وقع فوق الصخور الملساء على أثر صدمة قوية كانت سببا في فقده رشده. ولما استفاق من إغمائه سقطت دمعة من عينه انحدرت فوق الصخرة. لقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات، ووافقته هذه الخدمات، فأراد الا تضيع ذكرى هذه الدمعة فخلق الرجل الأول (آدم).
كانت دورة الأرض تنتظم قليلا قليلا، فالأنهار نامت في فراشها والبحار هدأت في أحواضها، والنجوم انتظمت في محاورها والبراكين خمدت في أماكنها.
وكانت الشمس في كل يوم تبعث الحياة على اليابسة. وكانت الرياح بين آونة وأخرى تساعد الشمس في بعث الجمال والحياة وتطرية هذه الكائنات. وكانت بذور الورود تنتثر من الآفاق وباقات زهور الحب تساقط من الغيوم، وذرات النجوم المتناثرة في تلك القبة الزرقاء تشكل مروجا من زهور البابونج (باباتيه) وحاشية من حواشي قوس قزح تبدو للناظر ذيل طاووس بهيج.
وقد وجدت هذه البدائع لتكون مكافأة للملائكة على جهودهم وخدماتهم. وكانت الحور يتمتعن من هذا الجمال والتجديد، تارة يسرن وأخرى يطرن، يسمعن أغاريد الطيور، ويبتهجن من أريج الزهور، ويتراكضن نحو ظلال الأشجار مرحات طربات، وكانت أجملهن وأصغرهن، وأتعبهن جالسة وسط زهرة فتحت صدرها وأوراقها لأشعة الشمس لتشعر بهذا الجمال اكثر من رفيقاتها، ولتتذوق هذه الحلاوة قبل صويحباتها. وهي كجميع المخلوقات تنتظر ظهور المعجزة برشفها أشعة الشمس المشرقة بشفتيها وعينها.
بدا نور وجمال في شفتي تلك الحورية على اثر رؤيتها في كل عصفور ريشة منيرة، وفي كل زهرة لونا جديدا وفي كل شجرة ثمرة حلوة. كان هذا النور وهذا الجمال (الابتسامة الاولى).
وقد رأى الخالق الأعظم هذه التضحيات ووافقته هذه الخدمات فأحب أن تدوم ذكرى هذه الابتسامة فخلق منها المرأة الاولى (حواء).
وانتهى بذلك خلق الكون.